السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في أزمة وطن مزمنة..قضية- السودان....إلى أين المصير ؟ (11)
الضلع الثاني: التحول الديمقراطي (1)
نشر في الرأي العام يوم 30 - 01 - 2010

لماذا التحول الديموقراطي؟ هنالك خطأ شائع مفاده أن الاتفاقية قد أبرمت بين الحركة الشعبية لتحرير السودان وحزب المؤتمر الوطني. هذه ليست هي الحقيقة، إذ أن التوقيع على تلك الإتفاقية تم بين الحركة الشعبية لتحرير السودان وحكومة السودان والتي كان، ولا يزال، يسيطر عليها حزب المؤتمر الوطني. من أجل ذلك توافق الطرفان على إلزام أية حكومة قد تفرزها مستقبلاً الإنتخابات القومية بإحترام الاتفاقية والدستور. الوثيقتان أرتهنتا شرعية أي نظام يرث الحكم عبر الإنتخابات في الفترة الإنتقالية باحترام اتفاقية السلام الشامل والدستور. وما كان للإتفاقية ان تنعت بالشمول لولا إقامتها لمؤسسات، أو نصها على قوانين وأنظمة وقيم، أو إحتوائها على موجهات تتناول قضايا الحكم التي تهم أهل السودان جميعاً. ولو لم يتفق طرفا الإتفاقية على ذلك، لكان الزام القوى السياسية بالإمتثال لإتفاقية لم تشارك في التفاوض حولها، دعك عن التوقيع عليها، تجبراً وطغوى. ما هي هذه القيم والموجهات؟ قال الطرفان، مثلاً، في ديباجة بروتوكول إقتسام السلطة: “وإذ يدركان أن التنفيذ السلس والناجح لهذه الإتفاقية يتوقف، إلى حد كبير، على حشد أغلبية الشعب السوداني لدعمه” “وإذ يعربان عن إقتناعهما بأن التنفيذ الناجح للإتفاقية سيوفر نموذجاً من الحكم الراشد لأهل السودان يكفل إقامة قاعدة صلبة تجعل خيار الوحدة جذاباً وتحفظ السلام” أما في إستهلال الإتفاقية (Chapeau) والذي أريد به تلخيص المرتكزات الأساسية لنظام الحكم الذي أرسته فقد إتفق الطرفان على الآتي: “وتنفيذاً لإلتزام الطرفين بإيجاد تسوية متفاوض عليها على أساس إقامة نظام حكم ديموقراطي يعترف، من ناحية، بحق شعب جنوب السودان في تقرير المصير وجعل الوحدة جاذبة خلال الفترة الإنتقالية، وفي ذات الوقت يقوم على اساس قيم العدل والديموقراطية والحكم الراشد وإحترام الحقوق الأساسية وحريات الأفراد والتفاهم المشترك والتنوع داخل الحياة السودانية “. ما جاءت به الإتفاقية في الديباجة والإستهلال تُرجم إلى نصوص واضحات في الدستور على رأسها وثيقة الحقوق وإرساء مبدأ سيادة حكم القانون، إستقلال القضاء، حياد الخدمة المدنية، حاكمية الدستور، نظامية ومهنية القوات المسلحة. هذه المستحقات الدستورية، فضلاً عن أنها بُنية أساسية في نظام الحكم الذي أرسته إتفاقية السلام الشامل والتي دُعي شعب جنوب السودان لقبولها كشرط وجوب لتفضيل خيار الوحدة، هي أيضاً القيمة المضافة لتلك الوحدة. فما هي جدوى الوحدة في ظل وضع لا تُحترم فيه المقومات الأساسة للدستور؟ التحول الديموقراطي وجرس الصحيان في إكتوبر 2007م وقع أمر لم يكن في الحسبان: انسحاب الحركة الشعبية من حكومة الوحدة الوطنية بسبب البطء، وفي رواية التباطؤ، في إنفاذ الإتفاقية. وكان من المتوقع أن يصبح ذلك الإنسحاب جرس صحيان يفيق النائم من غفوته. ذلك الحدث أخذته مؤسسة الرئاسة بما ينبغي أن يؤخذ به من جد، إذ كانت على وعي كبير بخطورة الموقف مما جعلها تميز بين الشجيرات والأكمة. لم تلتهِ، كما فعل غيرها، بترهات تشغلها عما هو أهم مثل حجب مخصصات الدستوريين الذين كفوا عن العمل أوحرمانهم من وقود السيارات. وعلى أي، لم تقتصر مذكرة الحركة على القضايا التي تتعلق بالجنوب، بل تضمنت قضايا التحول الديموقراطي التي أولاها القرار الجمهوري إهتماماً بارزاً وصَنَفها على الوجه التالي: تعزيز الديموقراطية، المصالحة الوطنية، تعزيز سيادة حكم القانون، مراجعة جميع القوانين السارية حتى تتلاءم مع الدستور، القضاء، مهنية الخدمة العامة، توجيه الإعلام الرسمي لعكس الأجندة الوطنية لبناء السلام والديموقراطية (القرار الجمهوري 341 لسنة 2007م). التحول الديموقراطي، مهمة الجميع في جميع هذه القضايا فرض القرار مواقيت معلومة لإكتمال التنفيذ: المصالحة الوطنية في أو قبل 9 يناير 2008م، مراجعة القوانين (إكتمال الملاءمة بين الدستور والقوانين بحلول 9/7/2008م، اتخاذ قرارات مناسبة وضرورية لتعزيز إستقلال القضاء وضمان سيادة حكم القانون بعد التشاور مع مفوضية الخدمة القضائية والمحكمة الدستورية خلال ثلاثة أشهر من إكتمال التشاور. نحن اليوم في الشهر الأول من عام 2010 أي أن عامين قد إنقضيا من تاريخ ذلك القرار الرئاسي، ولما يزل الجدل محتدماً بين الطرفين حول هذه القضايا. ولكيما ننعش الذاكرة نقول إن الحركة لم تنتظر مؤتمر جوبا لكيما تسعى لإنجاز مستحقات التحول الديموقراطي كما يوحى بذلك مقال للصحفي القدير محجوب محمد صالح ( الأيام 2009/12/23) جاء من بين بحوثه الموثَّقة التي نشرتها تلك الصحيفة. الحركة فعلت أقصى ما يمكن فعله في إطار إتفاقية السلام لإنجاز هذه المستحقات، ألا وهو الإنسحاب من الحكومة والإنتقال بشكاتها للرأي العام السوداني والوسطاء الإقليميين والدوليين. هذا هو الهامش الوحيد الذي تتيحه لها الإتفاقية، والمواعين الوحيدة التي تستطيع أن تعمل عبرها لتحقيق اهدافها، وهي أهداف لا تتعدى الإنفاذ الكامل للإتفاقية، اي إنفاذها بحذفارها. وإن عدنا للصحف في ذلك التاريخ لوجدنا مواقف متناقضة للقوى السياسية الفاعلة، منها من قال إن الحركة بحكم وضعها الدستوري هي الأقدر على قيادة معركة التحول الديموقراطي، وهذا قول صائب لأنه يصور أمراً واقعاً. ومنها من قال ان المشكل يكمن في الطبيعة الثنائية للإتفاقية، وهذا أيضاً قول صائب إلا أنه غير ذي موضوع لأن ليس في مقدور أحد أن يرجع عقارب الساعة، ولو كان في مقدوره أن يفعل لفعل دون إذن من طرفي الإتفاقية. ومنهم من أخذ يتحدث بلغة فيها من الشماتة أكثر مما فيها من التحليل الموضوعي للوقائع، مثل قولهم: “لماذا تلجأُ إلينا الحركة متباكية كلما ضاقت بها السبل مع شريكها”. وليس في الأمر أدنى تباك او ضيق في السبل. فإن اخذنا، مثلاً، ان جميع القضايا التي تهم الجنوب بشكل مباشر قد حسمت حسماً كاملاً عقب إنسحاب الحركة وعلى رأسها إعادة إنتشار الجيش السوداني من مواقع البترول وايكال حمايتها للوحدات المشتركة/المدمجة، فإن القضايا المتبقية جميعها كانت ذات طابع قومي. حقاً، إن إنجاز التحول الديموقراطي مهمة تستدعي تضافر جهود الجميع، كل حسب قدرته. لهذا، يجب أن يكون السؤال هو ما الذي صنعته كل القوى السياسية داخلياً وخارجياً، بما فيها الحركة، لتحقيق ذلك التحول بدلاً عن إلقاء العبء واللوم كله على الحركة. ولعل المحنة الحقيقية تكمن فيما مضى وليس فقط فيما هو كائن. ففي الوقت الذي كانت الحركة فيه في أوج قوتها على المستوى القومي، لم يرضَ لها الكثيرون بأكثر من دور “مساعد الياي، دون أن يكون هنالك ياي حقيقي يحمي السيارة من الإرتجاج. وقع ذلك في وقت كانت الحركة فيه تمسك بأكثر أوراق اللعبة على كل الصُعُد: العسكري، التفاوضي، الدبلوماسي. فتماماً كما أن الحديث عن الفيدرالية أو الكونفيدرالية اليوم هو حديث بلا معنى إن لم نعد به للأحداث التي وقعت في 1/1/ 1956م، فإن الحديث عن مسئولية الحركة بمفردها في تحقيق التحول الديمقراطي الذي كنا ننعته قبل الإتفاقية “بتفكيك النظام” يصبح، هو الآخر بلا معنى إن لم نستدرك رؤية كل طرف ووسائله العملية لتحقيق ذلك التفكيك الذي كنا نلهج به في سنوات المعارضة، ثم دوره بعد أن عدنا جميعاً إلى أرض الوطن. إستفحال الأمور دعونا نترك الماضي بكل عُجَرِه وبُجَرِه ونقول إنه لوقف الأمر عند العجز عن تحقيق التحول الديموقراطي على الوجه الذي جاء في الإتفاقية والدستور لهان، ولكن في خمس حالات تفاقم الأمر وإستفحل. ما هي هذه الحالات؟ الحالة الأولى: مواءمة القوانين للدستور: لم يعد الحوار حول مواءمة القوانين للدستور حواراً بشأن طرائق الوصول إلى صيغة تحقق أهداف الإتفاقية والدستور وتجعل، في نفس الوقت، التحول من النظام القديم إلى النظام الجديد أكثر سلاسة وإنسجاماً. على النقيض من ذلك، أصبح مبدأ إلغاء القوانين نفسه محل تشكيك. تدافع أيضاً كثيرون إلى المحاماة عن قوانين جديدة فيها شبهة التعارض مع الدستور مثل قانون الأمن الوطني، وهذا حقهم. ولكن عندما يوحي أولئك المحامون بأن المنادين بتعديل القانون يسعون إلى إقامة دولة لا يحكمها قانون، ولا تملك المقومات المؤسسية لحماية وجودها، يجنفون في حكمهم. فليس في العالم من دولة لا تشرع القوانين وتبني المؤسسات التي تحمي وجودها. وليس هناك من دولة لا تمنح تلك المؤسسات السلطات الشرعية التي تمكنها من أداء أهم واجباتها، الا وهو حماية وجود الوطن والدولة. الخلاف بين هؤلاء وأولئك في أمرين: الأول هو أن جميع القوانين التي طالبت الحركة، كما طالبت منظمات المجتمع المدني، بإعادة النظر تشوبها شبهة الحد من، أو الأفئات على، الحقوق الأساسية التي ضمنها الدستور الإنتقالي للمواطن. ذلك الدستور يقول ما يلي: “مع مراعاة المادة 211 من هذا الدستور لا يجوز الإنتقاص من الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذه الوثيقة، وتصون المحكمة الدستورية والمحاكم المختصة الأخرى هذه الوثيقة وتحميها وتطبقها “ (المادة 48). وحتى في حالة الإستثناء (المادة 211) والتي تتعلق بحالات الحرب أو الطوارئ يجيز الدستور لرئيس الجمهورية، بموافقة النائب الاول، تعليق جزء من وثيقة الحقوق “ولا يجوز في ذلك إنتقاص حق الحياة، أو الحرمة من الإسترقاق، أو الحرمة من التعذيب، أو عدم التمييز على أساس العرق او الجنس أو المعتقد الديني، أو حق التقاضي، أو الحق في المحاكمة العادلة”. وإن كان هذا هو الحال في ظروف الحرب أو الطوارئ يصبح التهوين من أمر هذه الحقوق في الظروف العادية إثماً “ومن يفعل ذلك يلاقي أثاما” الثاني، حرصت الحركة عند التفاوض على أن لا تكون هناك أي ثغرة في الدستور تبيح لأي موظف عام، قاضياً كان أم شرطياً أم مدعياً عاماً ، الإنتقاص من تلك الحقوق بإستخدام النص الذي كثيراً ما يرد في الدساتير حول إرتهان ممارسة الحق لتعبيرات فضفاضة مثل “وفقاً للقانون” أو “حسبما يقرره القانون”. فدور القانون في وثيقة الحقوق المضمنة في دستور السودان هو تنظيم إستخدام تلك الحقوق لا مصادرتها. وطبيعي أن الدستور الذي يُحرِّم حتى على المحكمة الدستورية مصادرة الحقوق لا يمكن أن يسمح بها لمن عداه. وحتى في حالة القوانين التي تنظم ممارسة الحقوق زاد الدستور نصاً هاماً إقتبس من تجربة جنوب أفريقيا الا وهو تنظيم إستخدام الحقوق وفقاً لما ينظمه القانون في مجتمع ديموقراطي. مثال ذلك ما ورد من إشارة إلى كفالة حرية الصحافة والإعلام، خاصة وهذا هو أكثر المجالات التي يلجأ فيها المتربصون بحرية الصحافة لمثل هذه النصوص الفضفاضة للحد من تلك الحرية. يعني هذا أن تنظيم ممارسة الحقوق لا يتم على هوى المشرع وإنما وفق ما تواطأت عليه المجتمعات الديموقراطية. وعلى كل، فإن الذي حدا بالحركة إلى المناداة بملاءمة بعض المواد في القوانين الموروثة من الفترة الشمولية للدستور هو أن تلك المواد لا تتسق مع تجارب الأنظمة الديموقراطية لأنها، في غالبها الأعم، مواد إقتضتها إما ظروف الحرب، أو طبيعة النظام الشمولي. ولعل في أحداث السابع من ديسمبر ما يؤكد أمرين: الأول هو أن أجهزة تنفيذ القانون تكاد تعيش في العهد الشمولي وكأنا بالإتفاقيات والدساتيرلا تعدو أن تكون قراطيس تزين المكتبات. والثاني هو أن جميع الذين يتعاملون مع الإتفاقيات والدساتير بهذه الدرجة من الإستهانة في حاجة إلى إكتناه روح الدساتير التي أدوا قسم الولاء لها. الحالة الثانية قانون الأمن الوطني: قضية قانون الأمن الوطني تتجاوز بكثير موضوع الحجز التحفظي أو آماده إذ لها جوانب ثلاثة: الجانب الأول هو دستورية القانون، والثاني إن أقررنا بعدم تعارض مشروع القانون مبدئياً مع الدستور ما هي طبيعة السلطات التي يمنحها مشروع القانون لجهاز الأمن وضوابط إستخدامها. والثالث هو تاريخ الجهاز الذي أنيطت به تلك المهمة ، وهو تاريخ لا يدخل البهجة في كثير من النفوس. في الجانب الأول نبدي أن الدستور قد نص على إنشاء جهاز للأمن الوطني “يختص بالأمن الخارجي والامن الداخلي” المادة (151 (1))، كما نص على أن “تكون خدمة الأمن خدمة مهنية “تُركز في مهامها على جمع المعلومات وتحليلها وتقديم المشورة للسلطات المعنية” (المادة 151 (5)). هذان النصان ، بلا مرية ، يجعلان للجهاز إختصاصات داخلية وخارجية ، كما يطالبانه بالتركيز في تلك المهام على جمع
المعلومات وتحليلها. بمعنى آخر، لا تقتصر مهام الجهاز فقط على جميع المعلومات بل تشمل مهاماً أخرى. القضية ، إذن، ليست هي منع الدستور لجهاز الأمن من ممارسة أي مهام أخرى غير جمع المعلومات، لأن هذا ليس بصحيح ، وإنما هي كيف تؤدي هذه المهام دون إخلال بالدستور، خاصة فيما يتعلق بحماية الحقوق الأساسية وسيادة حكم القانون. وتعنى سيادة حكم القانون، بالمقام الأول، أن ليس هناك من هو فوق القانون. فحتى رئيس الجمهورية ونائبه الأول يحاسبان أمام المحكمة الدستورية في حالة الخيانة العظمى أو الإنتهاك الجسيم لأحكام الدستور أو السلوك المشين المتعلق بشؤون الدولة وفق شروط معينة (المادة 60 (2)) . لهذا فإن إضفاء اية حصانة على الجهاز أو موظفيه إزاء أدائه لمهامه، أو أدائهم لمهامهم، بصورة تؤدي إلى إنتهاك الحقوق الدستورية للمواطن لن تكون أمراً مقبولاً. هذا بالطبع لايلغي الحصانة التي تمنح للموظف العام أثناء أدائه لواجبه إزاء أي عمل قام به بحسن نية وبقدر معقول. من الجانب الثاني، فليس في الإحتجاز التحفظي كإجراء ما ينبغي أن يثير اللغط. ففي جميع دول العالم قوانين تبيح للأجهزة الأمنية الحجز التحفظي على المتهمين، وغالباً ما يكون ذلك في قضايا تتعلق بالإرهاب، أو زعزعة النظام بعمل ملموس ، أو الإعداد لمثل هذا العمل. على أن لذلك الإجراء أشراط لا يتم إلا بها. من ذلك أن يكون الإعتقال لآماد محدودة ووفق ضوابط معينة على رأسها مثول المتهم أمام القضاء. مثال ذلك: * الهند: يسمح قانون منع الأنشطة التخريبية بإعتقال أي شخص من جانب أجهزة الأمن لمدة اربع وعشرين (24) ساعة يقدم بعدها إلى قاض ، ويمكن لذلك القاضي أن يمدد الإعتقال إلى مائة وثمانين (180) يوماً في حالة جرائم الإرهاب وتسعين (90) يوماً في اي جرائم تخريبية أخرى عقوبتها الإعدام او السجن مدى الحياة * الجزائر: يبيح قانون مكافحة الإرهاب أو زعزعة النظام الإعتقال بدون امر قبض من قاضي لمدة خمسة عشر (15) يوماً * استراليا: يبيح قانون مكافحةالإرهاب (2006) إعتقال المتهم تحت ذلك القانون لمدة ثمانية وأربعين (48) ساعة على المستوى الفيدرالي ، واربعة عشر (14) يوماً على المستوى الولائي (المقاطعات) بعد تأكد القاضي من أن هناك سبباً معقولاً بأن المتهم سيقوم بعمل إرهابي، أو يخطط لمثل ذلك العمل، كما يُسمح للمتهم بلقاء محاميه شريطة أن يكون اللقاء تحت مراقبة الجهاز الأمني * كندا: بموجب قانون مكافحة الإرهاب يجوز إحتجاز أي شخص غير كندي الجنسية لمدة ثمان و اربعين (48) ساعة تمهيداً لترحيله خارج البلاد، ولا يجوز تطبيق هذا القانون على المواطن الكندي الذي يكفل له الدستور حق المساواة أمام القانون، والمحاكمة العادلة أمام قضاء محايد، وتغليب الشك لمصلحة المتهم. * ماليزيا: يحق للشرطة تحت قانون الأمن الداخلي (1960) إعتقال أي شخص لمدة ستين (60) يوماً دون أمر قبض، ويمكن للمتهم بعد هذه الفترة أن يتقدم بطلب لمثول الجهة التي إعتقلته أمام القضاء (habeas corpus petition) لمراجعة القرار، ويحق للقاضي مراجعة القرار إن صحبه خطأ إجرائي. * الفلبين: يبيح قانون الأمن الإنساني (2007) لأجهزة الأمن إعتقال أي شخص دون أمر قبض من قاضي لمدة ثلاثة (3) أيام يقدم بعدها للقضاء. وفي حالة عدم تقديمه للقضاء بعد إنقضاء تلك الفترة تعاقب الجهة التي حالت دون المثول أمام قاضي بالسجن لمدة عشر (10) سنوات. نرى في كل هذه الحالات أولاً أن الإعتقال التحفظي ليس بالأمر الغريب على الأجهزة الأمنية، ولكن نرى أيضاً أن هناك ضوابط هامة لأوامر الإعتقال تلزم السلطة التي تمارسه بأن لا يتجاوز الإعتقال أمداً معقولاً يقدم بعده المتهم للقضاء، أو يعرض الأمر لمراجعة قضائية، أو يخضع الإتهام لتحقيق جنائي عبر النيابة. وفي حالات أخرى لا يتعرض المواطنون أبداً لإعتقال تحفظي (كندا) لتعارض ذلك مع الحقوق الاساسية التي يكفلها الدستور للمواطنين. كما هناك حالات تتعرض فيها الجهة التي قامت بالإعتقال التحفظي لمحاسبة، بل لعقاب صارم، إن تجاوزت مدة الإعتقال التي حددها القانون (الفلبين). أهم من كل ذلك، ليس من المقبول مطلقاً تسخير الأجهزة الأمنية لحماية حزب حاكم حتى وإن كان ذلك الحكم ديموقراطياً مبرأ من كل عيب.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.