في الاعداد السابقة استطاع شاعرنا الكبير سيد أحمد الحردلو ان يلقى الضوء على أحداث كان شاهداً عليها، بل ومعايشاً لها حينما ارتبط بعلاقة صداقة متينة مع كاتبنا العالمي الطيب صالح. وهي أحداث مجهولة للكثيرين منا. ولا شك ان الالمام بها يساعدنا في تعميق قراءة أدب الطيب صالح ودراسته بشكل أفضل. وهذه الحلقات التي نشرناها هنا بقلم الاستاذ سيد أحمد الحردلو تعتبر وثيقة مهمة لمحبي ودارسي أدب كاتبنا الراحل العزيز. وإلى جانب ذلك ننشر مقالة صاحبت نشر دار مدارك للأعمال الكاملة للطيب صالح كانت قد نشرتها الاهرام العربي بالقاهرة. وبذا تكتمل احتفالينا بذكرى كاتبنا الراحل. التقينا، ابو سن والطيب وأنا وفق الموعد المضروب عند مطعم عربي بقرب الفندق، وحاولت كثيراً أثناءهما عن الحضورا يومياً لكنهما ظلا كذلك، فقررت العود للخرطوم اشفاقاً عليهما من ذلك الصقيع! كان ذلك أواخر نوفمبر عام 2005م. «15» * ظللنا نتواصل هاتفياً.. وذات يوم جاءني الجراح الكبير كمال أبو سن وأخبرني «ان الطيب يقول لك «إنه التحق بالنادي!» وسألته في دهشة «ماذا يقصد؟» فقال «لقد بدت عليه أعراض الفشل الكلوي!» فاتصلت به أولاً لأطمئن عليه.. وثانياً لأترجاه الإقلاع عن التدخين لأنه مضر للكلى» فقال لي: «إنه خفف منه!» فرجوته ان يقلع عنه فوراً. * وبدأ يستعد لإجراء العملية.. وسافر ومعه زوجته السيدة جولي وصديقاه محمود صالح عثمان والدكتور الجراح كمال أبو سن إلى دبي لإجراء العملية في الشارقة بطلب من حاكمها وكان معهم المتبرع. ولكن حدث أمر لم يكن في الحسبان. إذ اكتشف الاطباء أنه لا بد من عمل قسطرة في القلب، وبالفعل أجريت القسطرة، وكنت على اتصال به بواسطة تلفون زوجته أو الاستاذ محمود، وفوجئت بابن أخي ناجي محمد الحردلو والذي من فرط محبته للطيب صالح ترك عمله في السعودية وسافر إلى دبي، يتصل بي يوم العملية والزيارة ممنوعة لأنه لا يزال في غرفة الإنعاش، ويقول «هاك كلم الطيب!» وجاءني صوته متعباً لذلك اختصرت المحادثة. وظللت على اتصال به بعد خروجه من المشفى وقرار الاطباء بتأجيل العملية لعدة أشهر وعادوا جميعهم إلى لندن. * بدأت اتصل بتلفون بيته الثابت بعد أسبوع من عودتهم إلى لندن.. كل مساء فأجد تسجيلاً أسجل فيه قلقي عليهم من عدم ردهم- فاتصل بي الاستاذ محمود صالح عثمان صالح وقال «ان جولي عادت الآن من دارتهم وقالت إنها وجدت رسائل كثيرة منك وكانت تريد الاتصال بك، إلا أنني قلت لها «بل أنا ساتصل. لقد سقطت القسطرة التي عملها في الشارقة، والآن عملوا له قسطرة أخرى، ونقلوه إلى مشفى قريب من بيته لإجراء عملية الغسيل ومتابعة الرعاية». * واتصلت بعد أسبوع بتلفون البيت فردت على السيدة جولي وأعطتني رقم هاتفها السيار وأنها ستعود للمشفى بعد نصف ساعة، طالبة إلىّ الاتصال بعد نصف ساعة» انتظرت ساعة ثم اتصلت، فجاءني صوته هادئاً وهو يقول «ما خلاس يا سيد أحمد»» قاطعته «نحن نسأل الله ان يمنحك خمسين سنة تثري فيها حياتنا القادمة!». * أصابني حزن وخوف عنيفان جراء الطريقة التي كان يتكلم بها وقضيت ليلة ليلاء! «16» * أخرجني من ذلك الحزن صديقي وصديق الطيب صالح الدكتور والناقد الكبير حسن أبشر الطيب الذي أرسل لي كل كتب الطيب التي صدرت مؤخراً عن مركز عبد الكريم ميرغني وهي: 1- منسي «وسبق ان قرأته». 2- المضيئون كالنجوم- من أعلام العرب والفرنجة. 3- للمدن تفرد وحديث- الشرق. 4- للمدن تفرد وحديث- الغرب. 5- في صحبة المتنبي ورفاقه. 6- في رحاب الجنادرية وأصيلة. 7- وطني السودان. 8- ذكريات المواسم. 9- خواطر الترحال. 10- مقدمات «وهذا صدر بعد رحيله». «17» * أعددت نفسي للاتصال بزوجته مساء 17فبراير كان ذلك حوالي العاشرة مساء. لكن رصيدي لم يكن كافياً. فقلت لنفسي اتصل صباح الغد الأربعاء 18فبراير بعد شراء مزيد من الرصيد. * رن جرس الهاتف عنيفاً وملحاحاً في السابعة صباحاً، كان المتحدث هو ناجي ابن أخي وراح كمن يصرخ «خبر فظيع.. خبر فظيع.. اتصل بي أحدهم الآن وقال «إن الفضائية السودانية اذاعت الآن نبأ رحيل الطيب!!». * قلت: «لا حول ولا قوة إلا بالله!» * وطلبت من زوجتي أن تفتح الفضائية السودانية وكان هناك شريط يدور بالنبأ الفاجع على شاشتها! «18» * جلست علي سريري أحدق في الشريط ملياً.. ثم انهمر سيل من الدموع هطالاً أمطر جلابيتي..! * ثلاثة واربعون عاماً عمر صداقتنا.. التي بدأت عام 1966م. * جلست أسأل نفسي كيف سيكون حال السودان، بل حال العالمين العربي والأفريقي بل العالم بدون الطيب صالح!! إن العالم يقرأ الطيب بأربعين لغة!. * هل نقول ترملت الرواية العربية؟! * هل نقول تيتمت العذوبة والأريحية؟! * اسمه صار وطناً. * بل أعطانا تحية عرضها السموات والأرض! * هل نستطيع رد التحية بأحسن منها؟!.. * لا أظن..!! * لكن دعونا نحاول.. وذلك أضعف الأيمان! * لقد حصل الجراح العالمي كمال أبو سن على أرض مساحتها حوالي اربعة الاف وستمائة متر بغرض إقامة مشفى للكلى يحمل اسم الطيب الصالح والمساحة كافية وإن لم تكن كافية نطلب المزيد. * قطعة الأرض على النيل قريبة من مسقط رأسه كرمكول.. نقيم عليها إلى جانب المشفى «متحفاً» يحمل كذلك اسم الطيب الصالح. وفندقاً باسم الطيب صالح. لينزل من يودون زيارته أو يستشفون في مشفاه.. فلنعمل كما فعل الانجليز ببيت شكسبير الذي حولوه إلى متحف في «استرادفورد أبون ايفون» وضعوا فيه سرير نومه، ومكتبه الذي كان يكتب عليه، والطاولة التي كان يأكل عليها، ومكان تناوله قهوته. والمكان المحبب الذي كان يجلس فيه، ثم وضعوا فيه مؤلفاته وصوره أو اللوحات التي رسمت له وكل الكتب التي كتبت عنه. * لدي حلم.. ان تتحول كرمكول إلى أصيلة أخرى! ذلك الركام التي حوله الاستاذ محمد بن عيسى إلى تحفة فنية رائعة!. * هل ذلك كثير على الطيب الصالح..؟!! * لا أظن..! «19» * اللهم يا ذا الجلال والإكرام. * ها هو الطيب الصالح في رحابك. فتقبله القبول الذي يستحق. * اللهم أرحمه وأغفر له. وأنزله منزلة الانبياء والأولياء والصديقين والشهداء في جناتك التي عرضها السماوات والأرض. الخرطوم: 15مايو2009م