شخصيةٌ طريفةٌ، التقيت بها في مَكانٍ عامٍ، وعلى غير عادة بعض القراء حينما نلتقي بهم في المناسبات واللقاءات الاجتماعية، يسألوننا عن السياسة وما وراء أخبارها.. ويبدو في الفترة الأخيرة الشعور بالقلق تجاه القادم الانتخابي هو القاسم المشترك بين أغلب التساؤلات..! الشاب خفيف الظل، اختار أن يسألني عن الرياضة، عن (تسجيل الدافي وغضب صلاح إدريس وسر عداء شداد للهلال والمريخ)، للأسف فقد عادت الأسئلة إليه خَائبة العشم، فقد اتضح له أنّ ما لديه من معلومات أفضل من هذا الصحفي (المسطح)..! وكي أخفف عليه وقع الخيبة، قلت له: (أنا متخصص في السياسة لا أعرف كثيراً عن خَبَايا الرياضة.. يُمكن أن تسألني عن احتمالات قيام الانتخابات أو تأجيلها، وعن حظوظ عرمان في المنافسة، وعن التحديات التي ستواجه صلاح قوش في الشمالية والزبير في الجزيرة). تغيّرت ملامح الرجل وارتفعت حواجبه إلى فوق مستوى الدَّهْشة - على قول الصديق الطيب برير - وارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة قبل أن يقول لي: (أنا على فكرة موظف مصرفي لا أعرف غير لغة الأرقام.. أعشق كرة القدم لأنَّها تصل لنهائيات رقمية تحدد الفائز والخاسر.. وليس باستطاعة فريق أن يحقق انتصاراً على خصمه عبر عملية انقلابية.. ولا أحب السياسة لأنَّها قائمة على صراعٍ بلا أرقامٍ يصعب خلاله تحديد المنتصر والمهزوم كما يسهل فيها الانقلاب على النتائج)..! صَمَت لفترة أتامّل في هذه الإجابة.. وقبل أن أخلص لقرار باعتمادها أو رفضها، غادرني الرجل بالدخول في حديث جانبي مع شخصٍ آخر..! وبعد عودتي للمنزل وبقليلٍ من التأمل، وجدت فعلاً أنّ ساستنا قليلي الاهتمام بالأرقام.. وأكبر الأزمات التي تباعد بين السياسيين اليوم يصعب وضعها في معادلات رقمية..! بمتابعة الحملات الانتخابية للمرشحين لا تجد للأرقام قيمة اعتبارية كبرى. تستخدم الأرقام من قِبل المؤتمر الوطني للمقارنة التفاخرية بين ما كان قبل تحرك يونيو 1989م وما عليه الوضع الآن..! وتستخدم من قِبل بعض المرشحين كوسيلة تعرية عبر خلق مفارقات بين أجندة الصرف وأولوياته (الأمن والصحة والمراسم والتعليم)..! ليس في هذه الانتخابات فقط، قليلون من السياسيين في السودان يجيدون التحدث عبر لغة الأرقام..! فالخطابة السياسية ظلت معتقلة في محفوظات مغلقة، تقوم على تعظيم الذات وتبخيس الآخر..! ولأنّ الأرقام غير ذات اعتبار، يُمكنك أن ترصد المفارقة الكوميدية بين الأرقام التي جاءت في نتائج الإحصاء السكاني في الجنوب، والأرقام التي جاءت في قوائم التسجيل الانتخابي..! وفي ميزانية هذا العام حَدَثَ جدلٌ مُثيرٌ ومُضحكٌ في البرلمان حول صحة بعض الأرقام من خلال عمليات حسابية بسيطة..! وفي أزمة نواب الاختصاصيين ووزارة الصحة يُمكنك أن تلاحظ فارق النسبة بين قول الوزارة ان نسبة تنفيذ الاتفاق مع النواب تصل ل (90%) وقول الأطباء إنّها لم تتجاوز ال (30%) أما ال (60%) الضائعة بين النسبتين لا تجد لها نصيراً من العقل والموضوعية...! ونحن في الصحيفة كثيراً ما تؤدي أسباب فنية متعلقة بأجهزة الكمبيوتر لتقلب الأرقام، بتحرك رقم من مكانه إلى مكان آخر، إذ يتحوّل مثلاً رقم (17) الى (71)، وقليلاً ما تقوم الجهات المعنية بالأرقام موضوع النشر بالتصحيح والتصويب..! يحكي شقيقي جلال - وهو مصرفي كذلك - أنّه جاء مُتأخراً لمشاهدة مباراة في الدوري الإنجليزي وسأل أحد الحضور عن الزمن الذي قطعته المباراة، فكانت الإجابة: (واللّه ليها خمس أو عشر دقائق ما عارف).. نعم تضاعف الزمن لا يعني شيئاً لذلك المشاهد..! السياسة والحياة في السودان إذا لم يرتفع فيهما الإحساس بالأرقام والزمن ستظل تحسم كل المعارك المهمة عبر (الكوار والكوراك)..!