ينتمى د. عمر عبد الماجد إلى حقبة الستينيات وجيلها الزاخر بالعطاء والذي شهد خطر التحول الحاد والانتقال المفاجئ من الخلود إلى نهر الكلاسيكية والرومانسية المنجر المد إلى شعر التفعيلة الذي بزغت شمسه آنذاك، وقد جايل عمر عبد الماجد مبدعي تلك الحقبة وثقف ثقافتهم وشقلته القضايا التي شغلته وكان مهموماً مثلهم بقضايا التراث والحداثة وجدل الاصل والعصر والحرية والنظام وأخيراً وليس آخر اشكالية الحداثة. أبان تلك الفترة من القرن الماضي انفتحت آفاق عريضة أمام الحراك الفكري لأسباب أهمها الرياح العصية الهابة بقوة من الشمال على المستعمرات الأوروبية وبهدوء من مصر والعراق ولبنان حاملة معها بذور التجديد والحداثة في الشعر السوداني. ------------------------------------------------------------------- فبعد مخاض المهدية العسير وحركة الخريجين المتلجلجة المشدودة الأطراف والتي اسهمت بقدر في النهضة الثقافية الوليدة أمثال عرفات محمد عبد الله ومحمد عباس ابو الريش و محمد أحمد المحجوب ومحمد عبد الله عشري الصديق وحسن وحسين الكد من خلال مدارس الاحياء ومجلتي «النهضة» و«الفجر»، ووصل الفوران الفكري ذروته ببروز قضية الهوية بكل تعقيداتها كما اسلفنا وما اثارته من جدل كان خصباً احياناً واعتباطياً أحياناً أخرى، وأثار غباراً كثيفاً حول ثنائية العروبة والأفريقية. كان الخريجون قد ألموا بالقضية ومسوها مساً سطحياً «انظر عبد الله عبد الرحمن الضرير ومن لف لفه من جهة وعبد النبي عبد القادر مرسال وجمعية اليد السوداء من جهة ثانية على سبيل المثال لا الحصر»، وابتغت جماعة الغابة والصحراء بهدف تأصيل الهوية، وكان من روادها النور عثمان ابكر صاحب المقولة الشهيرة «لست عربياً ولكن» ومحمد عبد الحي، ولم يسلم التوجه الغض الإهاب من نقد عنيف خاصة بعد طلوع فجر حركة أبادماك دعوتها إلى ثقافة سودانية خالصة أي ثقافة «لا هذا ولا ذاك» على حد تعبير الفقهاء، إلى أن تمخضت عما يسمى بالسودانوية «أنظر جدليات عبد الله بولا وحسن وموسى وهما من دارسي الفن وأصاب الرشاش مدرسة الخرطوم التشكيلية، وانظر عبد الله علي إبراهيم في تحالف الهاربين» حتى تأصيل المصطلح على يد نور الدين ساتي، أحمد الطيب زين العابدين وأحمد الزين صغيرون». من بين المؤثرات الثقافية لذلك الجيل اشعار ازرباوند «الكانتوس» و«ت.س اليوت «الرجال الجوف والأرض الخراب» وكتاب «الغصن الذهبي» لعزيز الذي سخر عالم الاسطورة للشعراء العرب فصار استخدامها سواء كان ذلك رفداً واضافة لبنية القصيدة أم مجرد حلية وزخرفة واستعراضاً لمعرفة الشاعر بالثقافات الأجنبية. ومن تلك المؤثرات نشاط حركة الترجمة من الآداب العالمية خاصة التي تناولت نضال الشعوب وتوقها للحرية «لم ينجُ الشعر من الهتافية والمباشرة الممجوجة وان تخلصت من أوشابها فيما بعد» فطالع المثقفون اشعار بابلو نيرودا الشيلي وبول ايلور واراجون الفرنسيين وناظم حكمت التركي وما يكوفسكي الروسي وغيرهم مما ترك أثراً بليغاً حتى في لغة وصورة الشعر التفعيلي. نهل عمر عبد الماجد من تلك الينابيع الشجية ولكن بوعي كامل بالثنائية المحيرة الكامنة في الغابة والصحراء والتفت مكرساً جهده إلى القاء الضوء على الثقافات الأفريقية التقليدية وأثرها على الابداع «انظر رسالته للدكتوراة» ومن ثم اكتشف ما يمكن تسميته بأفريقيا الثقافية. ويعتبر ديوانه «اسرار تمبكتو القديمة» استشراقاً لافريقيا بعين مختلفة ابعد ما تكون عن التعصب للزنوجة كما هو شأن شعراء ذلك الاتجاه امثال ايميه سيزير والشعراء السود الامريكيين حتى كادت أن تصبح محض شبه خيالي كما هو حال الشرق لدى المستشرقين بالمعنى الذي قصده دزرائيلي في قوله «الشرق صنعة» أي أنه موجود في الذهن وليس في الواقع. وفي عرف عمر عبد الماجد فإن أفريقيا ليست عرقاً يحس بالدونية بين الاعراق الأخرى أنما هي افريقيا الثقافية كما اسلفنا. كما كان ذلك الديوان ايضاً بداية لنهجه المغاير في اللغة والصورة والمجاز، واستخدام الاسطورة وفي حركة النص الداخلية وجماليته على وجه الخصوص. ولا بد ان نشير هنا إلى ان ثقافة عمر عبد الماجد الفرنسية ومطالعاته في الشعر الفرنسي في القرن العشرين رغم انه ترجم العديد من قصائد بودلير صاحب ازهار الشر بيد ان ذلك كان استهواء شخصياً اكثر منه تأثراً نصوصياً وربما تضجراً بالتكثيف المعرفي والابهام المقصود في شعر مجايليه «انظر كتاب «سبعة انماط من الغموض لوليم أميسون» وحاول تضيفها على شعراء الغابة والصحراء» الذين أحالوا الاسطورة الاغريقية إلى مداميك بالغة التعقيد وآثر ان يكون استخدام الاسطورة خطاباً ضوئياً في فضاء القصيدة شبيهاً باستخدام الطبل لدى القبائل الأفريقية كوسيلة تخاطب توصل معنى المعنى إلى أبعد آفق يمكن الوصول إليه وهو هنا قريب إلى شعراء القرن العشرين الفرنسيين والشعراء الانجليز في الستينيات والسبعينيات في احتجاجهم على الاسراف في المعاظلة الثقافية والتقنية المعرفية والعودة بالشعر إلى التلقائية التي تمتح من مسرات والآم الرجل العادي. يقول الشاعر الفرنسي فيلب جاكوتيه «ان الوظيفة الوحيدة للشعر هي التعبير عن الأحاسيس التي تعجز جميع الادوات الفنية والفكرية الأخرى عن التعبير عنها، فالشعر لمسة ضوء من حنايا الشفق، بريق النشوة في لحظة من الزمن، نسيج الاحلام التي تشكل المستقبل» قارن ذلك بتصوير عمر للشعر بأنه «لملمة لفسيفساء الصور ومنمنماتها التي تتناثر على مرآة مخيلة الشاعر محاولة للأمساك بلحظة الدهشة والتي تصعق عين الرؤيا الشعرية وارتحال في عالم الحلم» وهذا لا يعني ان عمر عبد الماجد قد ادار ظهره لقضايا الراهن الاجتماعية السياسية والفكرية ولكنه تناولها بطريقة مختلفة، خذ على سبيل المثال موقف اولئك الشعراء الفلسفي من الموت، وهي قضية تعتبرها كافة التيارات النقدية الحداثية مكوناً جوهرياً في كل شعر عظيم أو يتوق إلى أن يكون عظيماً، فكيف تمايز عمر عبد الماجد عن رفاقه في تناوله لثنائية الحياة والموت؟