شهدت منطقة القرن الأفريقي تحولات لا مثيل لها؛ ليس أقلها التعريفات حيث تعدد الوصف، وكثرت النعوت، واتساع وانكماش الفضاء العام حسب حركة التاريخ، مسارات الواقع، وتجاذبات السياسة، وانتماءات الدين، وتأثيرات الثقافة، وتداخلات الاجتماع البشري، وتبدلات البيئية، وتغيرات طبيعة الجغرافية تبعا لحدود السلطة الزمانية. ولكن رغم كل ذلك، ارتبطت دلالة القرن الأفريقي الجغرافية ارتباطا وثيقا بحقائقه التاريخية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، كمنطقة واحدة، ذات تكوينات ورمزيات متعددة لم تنقص أيٍ منها من وحدة أهميته الإستراتيجية. إذ ظهر ذلك جليا في تشكلاته السياسية، وتعدد أسمائه؛ فعرف بمملكة «بلاد بونت»، التي كانت موطنا للشعب الصومالي في هجراته المتعددة، والتي شملت أرض إريتريا، وأجزاء واسعة من بلاد الحبشة، والساحل الممتد من جنوب السودان إلى غرب تنزانيا. وقد أسس الصوماليون مع العفر إمارة عربية باسم «عادال»، التي امتدت حدودها على طول الساحل الممتد من غرب تنزانيا إلى مصوع في إريتريا، وكان لها كامل السيطرة على الموانئ البحرية وتحكمها بالداخل الأفريقي لشرق أفريقيا. وعرفت المنطقة باسم القرن الأفريقي نسبة إلى شكله على الخارطة، وعُرفَ من قبل الفينيقيين باسم بلاد البخور، وعُرف من قبل الرومان بالأرض المجهولة، وعرف في فترات لاحقة بالصومال، رغم اشتراك دول أخرى، مثل إريتريا، وجيبوتي وأثيوبيا، والسودان، وكينيا، ويوغندا، في تكوينه السياسي والاجتماعي الحديث. وقد ظلت الظاهرة الجغرافية هي الثابت الأكثر حضورا في تقرير الحقيقة الطبيعية، التي تعلقت بها الأهمية الإستراتيجية للمنطقة عبر التاريخ. وكان منطق الموقع الجغرافي، لا منطق التحولات الأخرى، هو المهيمن دائما في العلاقات الدولية المرتبطة بالقرن الأفريقي. فقد شكل الموقع نقطة الوسط في حركة طرق العالم البرية، وتقاطع مساراته البحرية، حتى صار من مَلك السيطرة عليه مَلك السلطة في توجيه كثير من أحداث العالم. ومع تسارع وتطور وتشابك وتداخل أنماط العلاقات الدولية العالمية في السنوات اللاحقة، ازدادت الأهمية الجيوسياسية للمنطقة، فصارت أكثر تأثيراً وتفاعلاً مع القضايا الكبرى، التي ينشغل بها العالم. ولا تزال المنطقة مستفيدة من حاكمية الجغرافية، وسلطان التاريخ، ووفرة الثروات، ومُشتهرة بما طرأ عليها من إشكاليات النزاعات، والصراعات، والتفكك، والقرصنة، وخطر الإرهاب. وأصدر التاريخ حكمه، فلم تعد كثير من الدول، مثل إيطاليا، وأسبانيا، والبرتغال، وتركيا العثمانية، ومصر الخديوية، والإتحاد السوفيتي، لاعبا مهما، ولم يعد بعضها موجودا، في جولات الكبار على حلبة صراعات النفوذ في القرن الأفريقي، أو غيره. فقد اختفت أسماء منها، مثل الإتحاد السوفيتي، الذي انهار وانحلت رابطة دويلاته. وتراجعت أدوار البقية في مسرح السباق العالمي، كتركيا العثمانية التي شملت حدود دولتها «إيالة» الحبشة، التي امتدت على طول ساحل البحر الأحمر، وكانت إدارتها تتم من مدينة سواكن السودانية، وضمت مصوع وعصب وغيرهما من المدن الإريترية. ولحقت بها مصر الخديوية، التي ورثت السودان وكل مناطق الساحل الممتد إلى باب المندب. غير أن بعض اللاعبين القدامى لا يزالون يزاولون حرفة التمدد وصراعات النفوذ، التي اعتادوها في سابق العصر والأوان. فبريطانيا العظمى باقية في كينيا ويوغندا، وفرنسا لم تغادر جيبوتي، ومدد جيشها قريب في جمهورية تشاد وأفريقيا الوسطى. والصين الشعبية، التي كانت داعماً أساسياً لحركات التحرر الأفريقية، تحاشت المواجهة مع القوى الأخرى في القرن الأفريقي، ولكنها لم تكن بعيدة عنه تماما. وإسرائيل، التي كانت متخفية بعملائها واستخباراتها، ومندسة تحت الماء القريبة من شواطئ القرن الأفريقي بغواصاتها، جعلت من نيروبي والسواحل الكينية مركزا مهما لنشاطاتها في المنطقة. ولا يمكن إغفال إيران الشاه، التي كانت تبدي اهتماما جديا بإستراتيجيتها العسكرية في المنطقة، فخلقت لها وجودا في البحر الأحمر عبر سلاح البحرية السوداني، الذي تسلم قطعا بحرية متطورة من طهران، وعززت تعاونها مع عمان في الناحية المقابلة لمنطقة القرن الأفريقي. ورغم قدم وجود الولاياتالمتحدةالأمريكية في المنطقة إلا أنها لا تفتأ تختلق الأعذار والمبررات لتكثيف وجودها العسكري، وزيادة نفوذها السياسي في المنطقة، منذ أن دخلتها أول مرة قبل عقود من الزمان. ويُؤرخ للاهتمام الأمريكي بالصومال إلى ما قُبيل الاستقلال بحوالي عشر سنوات، إذ كانت الولاياتالمتحدة واحدة من ضمن خمس دول، بينها مصر، أعضاء اللجنة، التي شكلتها الأممالمتحدة لتقديم توصية حول استقلال الصومال. وبعد الاستقلال أصبح الصومال ميداناً مهما من ميادين الحرب الباردة بين أمريكا والإتحاد السوفيتي السابق، الذي كانت له هو الآخر حظوة في إثيوبيا المجاورة واليمن الجنوبي. ويجمع موقع القرن الأفريقي الحيوي والإستراتيجي بين عدة خصائص جعلت منه ذا أهمية على المستوى الإقليمي، والقاري، وكذلك العالمي، فالموقع الجيوسياسي للمنطقة جعل منها بؤرة للصراع والنزاع والتنافس. فقد استنجد الأحباش العام 1515 بالدول الأوروبية عندما انتصر المسلمون الصوماليون عليهم. وتدخلت البرتغال بالفعل، ووصلت إلى ساحل الصومال في ذلك العام. وهذا بالطبع لا يفسر كل عوامل وتداعيات الصراع فيما بعد، ولكنه أحد الأسباب التاريخية، التي تحكم على الأقل الصراع بين إثيوبيا والصومال، ومدخل كذلك، أو سمه حجة للتدخلات الغربية. فقد جاءت فرنسا إلى جيبوتي العام 1862، ثم إيطاليا وبريطانيا. وكان هنالك صراع بين هذه الدول الأوروبية الاستعمارية على النفوذ في تلك المنطقة لارتباطها بطرق التجارة الدولية. وحديثا، حظيت المنطقة باهتمام كبير من جانب الولاياتالمتحدة. ويعود ذلك إلى عدة اعتبارات من بينها وجود الثروات النفطية في الجزيرة العربية، ثم اكتشاف النفط داخل منطقة القرن الإفريقي نفسها. فقد سبق أن وجّهت شركات النفط الأمريكية أنظارها صوب النفط السوداني والتشادي، وتنشط عمليات تنقيب حيثية في إثيوبيا، وكينيا، ويوغندا. وهذا هو ظاهر الأمر الذي يتحكم، مع عوامل أخرى، طبيعة الصراع الدولي الجديد، ويزيد من وتيرتها. وربما لا يختلف القادمون الجدد كثيرا، في نزعتهم وأهدافهم، عن القدامى، لأن غالبهم هم ذات الدول، التي كانت في منطقة القرن الأفريقي باسم التنوير، أو الاستعمار، أو صراع النفوذ، ولكنهم يمارسون تدخلاتهم بمسميات وتحت شعارات جديدة. فإسرائيل التي ظلت بعيدة نسبيا عن الوجود المباشر في أفريقيا، وجدت لها الآن متكأ أرضيا في بعض عواصم دول القرن الأفريقي، خاصة أديس أبابا، إضافة إلى وجودها القريب في نيروبي وكمبالا. ويعود الاهتمام الإسرائيلي بالقرن الأفريقي لأهميته الإستراتيجية مما جعلها تتخذ من إثيوبيا الحليف الأول، وبوابتها الطبيعية، إلى بقية دول أفريقيا. واستمرت إسرائيل، منذ العام 1949، في تقديم مساعداتها لجميع حكام إثيوبيا. الأمر الذي جعل قوى إقليمية مهمة، مثل جمهورية مصر العربية، تلعب أدوارا متعددة ومتباينة في منطقة القرن الأفريقي؛ بعضها لأهداف إستراتيجية معروفة، مثل قضية المياه، وأمن حوض النيل والبحر الأحمر، لمقاومة السياسة الإسرائيلية، التي تتجه دائما إلى محاصرة مصر بشتى الوسائل الممكنة في محيطها. ولا شك أن المصالح المصرية السودانية ترتبط بشكل وثيق بمنطقة منابع النيل، التي تمثل عمقاً استراتيجياً للدولتين حيث أن أي تهديد لتدفق مياه النيل يمثل في الوقت نفسه تهديداً مباشراً لكليهما.