لم تنته بعد محاولات القفز فوق الإحتمالات واستباق الأحداث والتكهن بالمحصلة النهائية لإنتخابات السودان التي انتهت قبل أيام صعباً، فقد استبق الكثيرون الإعلان الرسمي لنتائج الانتخابات وفق ما شهده الشارع السوداني من تأييد للرئيس البشير مرشح حزب المؤتمر الوطني، وهذا جعل التكهن بالفائز في انتخابات الرئاسة أمراً مقضياً.. وهو ما تحقق بالفعل بعد إعلان المفوضية لقائمة المرشحين الفائزين على مستوى الرئاسة والدوائر المختلفة. لكن بمثل ما كانت تلك التهكنات ناجحة بالقدر الذي يكفي لعدم إحداث مفاجأة أياً كان لونها خلال الإنتخابات.. ظلت العديد من القوى السياسية والمراقبين ينظرون في شئ من الترقب لما بعد ذلك، (أي ما بعد الانتخابات).. وهو أمر يستحق أن ينظر إليه نظرة مختلفة، ويجد حظه من الاهتمام الكامل، خصوصاً أن المرحلة القادمة ستشهد أكبر حدث سياسي يواجه البلاد، وهوالإستفتاء على تقرير المصير للجنوب.. وهذا الأمر قد يُصعب على مرتادي القفز فوق الاحتمالات ومدمني التكهن السياسي المهمة، فالمرحلة القادمة هي مرحلة غير قابلة للتكهنات بأية صفة، وربما هذا ما دفع بالمركز العالمي للدراسات الإفريقية لعقد ندوة جاءت بعنوان (السودان مابعد الإنتخابات.. رؤية تحليلية وسياسية) بمركز الشهيد الزبير محمد صالح للمؤتمرات.. التي شهدت حضوراً مكثفاًَ أعطى بعض الإيحاء بأهمية المرحلة المقبلة والحساسة وربما المفصلية من تاريخ البلاد. الدكتور حسن مكي المفكر السياسي كان أحد المتحدثين في الندوة واعترف خلال استهلالية حديثه بأن المرحلة القادمة ستشهد صراعاً سياسياً بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية.. ووصف مكي المؤتمر الوطني بأنه فريق يمثل حكم نخبة لأقلية مبدعة.. وكذلك الحركة الشعبية التي قال إنها كيان يعتمد على نخبة متماسكة ومصحوبة بمرجعية.. وأضاف أن الحركة الشعبية استطاعت أن تكسب الكثير من خلال حكم المؤتمر الوطني للبلاد. وأحرزت هدفاً غالياً في مرمى الوطني في الإنتخابات السابقة، بفوزها في ولاية النيل الأزرق. وأشار مكي الى أن الشمال أخلص للوطني في الإنتخابات لكن بالمقابل استطاعت الحركة أن تنتزع منه منطقة مهمة وهي النيل الأزرق، وقال إن الحركة كذلك كسبت نصف نقطة أخرى في جبال النوبة، بعد تأجيل الإنتخابات فيها برغم جاهزية الوطني لخوضها. كما تحدث عن نقطة تفوق أخرى صبت في صالح الحركة الشعبية وهي سيطرتها على منطقة (أبيي) وجعل المسيرية وبقية القبائل لا يملكون فيها سوى حق العبور فقط. وأضاف أنه وبرغم التحالف وما أسماه بزواج المصالح بين الوطني والحركة، إلا أن المؤشرات تقود الى أن الصراع سيشتد حول مستقبل وهوية السودان،ليس فقط فيما تبقى من أشهر على حق تقرير المصير، ولكن على كل المآلات والصلات بالنظام الدولي الجديد ومستقبل العلاقات العربية الإفريقية وكثير من الأشياء. وقال مكي إن هناك تحديات ماثلة ستواجه الشمال والوطني خلال المرحلة المقبلة وأبرزها هو الضغط الذي ستمارسه الحركة الشعبية على الوطني، وإحساسها بأنه يعاني من (الضعف).. وذلك عقب ممارستها للكثير من التجاوزات والقهر في الإنتخابات بالجنوب على مرأى، ومسمع من المفوضية العامة والوطني.. والأمر الثاني هو تنازل الوطني عن النيل الأزرق حرصاً على استقرار العلاقة. وأشار الى أن الوطني سيكون مطالباً بالقبول برموز من الحركة الشعبية في الحكومة.. وهذه الرموز ستمثل له (غصة).. فسيتم تقديمهم غالباً مصحوبين ببعض التهديدات حول انفصال الجنوب إذا لم يتم استيعابهم.. وتساءل مكي عن إمكانية استمرار الوطني في مرونته أمام الحركة حال ذلك (أم أنه سيتجه لإبراز بعض القوة في هذه الجزئية خصوصاً وأن الحكومة تحتاج في الفترة القادمة للأمن والسلام والحركة تحتاج لتقرير المصير). وأضاف وما بين هذين المحورين سيدور تجاذب كثير ودهاء كبير لضبط العملية السياسية ومصالح كل فريق.. وأشار مكي الى أصابع الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تستعد للعبث بقضية الاستفتاء.. وقال إن الحكومة الأمريكية يمكن أن تلجأ لاستخدام القوة إذا لم تتم إدارة قضية الاستفتاء بالصورة المتفق عليها.. مؤكداً على مواجهة الوطني لضغوط كبيرة خلال الفترة المقبلة.. وتصاعد للحركات المطلبية التي لاحت نذرها في إضراب الأساتذة والأطباء وأساتذة الجامعات وغيرها.. وقال إن الوطني كلما حقق شيئاً لقسم معين، سيتطلع آخرون الى نفس تحقيق ذلك الشئ.. خصوصاً أن هناك نخبة سياسية أصبحت تتقاضى امتيازات وغيرها. وقال مكي إن هناك تحدياً آخر سيواجه الوطني وهو نتائج ما بعد الإستفتاء، خصوصاً إذا كانت النتيجة الإنفصال.. ومكمن ذلك التحدي سيكون اقتصادياً.. بسبب العجز في الميزانية التي يمثل البترول نسبة كبيرة في إحصائياتها.. والبترول يأتي من الجنوب. وفي حال الإنفصال ربما تلجأ الى تقليص مرتبات الموظفين الى (04%).. أو تتجه لحل آخر وهو تغطية الدول المانحة والغربية لعجز الميزانية وهو ما وصفه بالحل الصعب.. خصوصاً في نظرة الغرب للسودان.. وقال إن الوطني سيحتاج لرؤية متقشفة وصارمة لمطلوبات البلاد. وتطرق مكي الى قضية دارفور وقال إنه طالما توجد قوات تحمل السلاح فسيكون المشروع السياسي مهدداً.. وأضاف أن أهل دارفور بعد الوعي السياسي الذي إجتاحهم والفضائيات وغيرها سينظرون في المرحلة المقبلة الى الميزانية السودانية وإمكانياتها في حل مشكلة المنطقة وإعادة بناء دارفور وتوطين النازحين وغيرها، وأشار الى أن دارفور لا تزال في دفتر المنظمات الطوعية والأمم المتحدة وأمريكا باعتبارها المانح الأكبر.. وقال إن ذلك ربما يسبب مشكلة أخرى،وأضاف أنه طالما تواصل الدعم الخارج لدارفور فإن مستقبلها سيكون في أجندة الغرب لحد كبير. وختم البروفيسور حديثه قائلاً: إن المرحلة القادمة وإن كان يبدو في ظاهرها أنها خلصت للمؤتمر الوطني ستكون مليئة بالمفاجآت..فقد تكسب اللحظة الحاضرة وتخسر المستقبل أو العكس.. وكل ذلك مرهون بمعالجة الوطني لتلك القضايا. الدكتور ربيع عبد العاطي أيضاً كان ضمن المتحدثين خلال الندوة. وقدم ورقة متكاملة سرد من خلالها أجواء الإنتخابات وقراءة في دفاتر الأحزاب ورؤية للجو السياسي العام. قبل أن يتحدث عن وضعية السودان ما بعد الإنتخابات والتحديات التي تواجه البلاد وأبرزها مقدرة الحكومة المنتخبة على المحافظة على السلام ولم الشمل والسعي للوحدة ومواجهةالتحدي الدولي.. وقال الدكتور ربيع إن الإنتخابات السابقة أعطت مؤشراً واضحاً وخطيراً للإنفصال وذلك من خلال الأصوات التي نالها البشير في ولايات الجنوب.. وقال إن الحركة الشعبية تحتوي على تيارين.. أحدهما تيار يدعو للإنفصال بنعومة، وهذا يدعمه الغرب. وآخر يدعو للإنفصال بالعنف.. وقال إن التيار الوحدوي بداخل الحركة ضعيف جداً. وطالب الدكتور ربيع بضرورة تجاوز هذه العقبات مجتمعة والمحافظة على السلام والتعاون مع كل الخيارات المتاحة للعبور بالبلاد لمرحلة أخرى تتسم بالطمأنينة والأمان والسلام. الندوة شهدت غياب العديد من المتحدثين في مقدمتهم الدكتور مضوي الترابي، والأستاذ عثمان ميرغني، والدكتور واني قومبي، الذين كان مقرراً حضورهم، وبالرغم من ذلك شهدها عدد كبير من الحضور من وسائل وأجهزة الإعلام المختلفة الذين أثروا النقاش عبر مداخلاتهم وأسئلتهم، خصوصاً أستاذ جامعي جنوبي قال إن وحدة السودان هي القضية الأهم التي ينبغي أن يشملها الساسة بالاهتمام ولعل حديثه وقع في قلوب الكثير من الحاضرين الذين صفق بعضهم بشدة تأييداً لحديث الأستاذ الجامعي من جامعة جوبا. عموماً كانت تلك الندوة هي إحدى الفعاليات المهمة وهي تستعرض الأحداث وترصد مايدور بعد الإنتخابات بالدقة والتحليل السياسي، ضاربة بذلك على وتر القضية الحساسة، ومانحة روشتة سياسية قصيرة الأجل ، ربما تنتهي صلاحيتها بنهاية الأشهر المتبقية لقضية الاستفتاء وحق تقرير المصير.