أنا قلق ظامئ للأشياء البعيدة المنال تهيم روحي في اشتياق لملامسة حدود الحواف الضئيلة يا ا ا الأشياء الكبيرة النائية يا ا ا نداء النأي الحاد تناسيت أنني نسيت ألا جناح لي للتحليق وأنني مقيد في هذه البقعة للأبد, ساهر في أرق غريب في أرض غريبة يااا الأمنيات البعيدة يا نداء النأي الحاد نسيت أنني تناسيت بأنني لا أعرف الطريق وأنني لست حصاناً مجنحاً أنا الهائم المتجول في قلبي في السديم المشمس للساعات البطيئة نسيت أنني نسيت للأبد أن الأبواب أغلقت جميعها في هذا البيت الذي أسكنه وحيدا (طاغور - شاعر الهند العظيم) إن صوت البحار- كحشرجة هائلة- يحطم صدركِ الطفو لي، البشري تماما والرقيق إلى مالا نهاية وإن- في أحد صباحات أبريل- فارسا جميلا شاحبا مجنونا بائسا يركع دون همسة واحدة عند ركبتيكِ السماء الحب الحرية: يا له من عام أيتها المجنونة البائسة إنكِ تذوبين فيه كما تذوب الثلجة في النار وأوهامك الكبار كانت تخنق صوتك واللانهائي المخيف كان يرعب عينيكِ الزرقاوين ويقول الشاعر إنكِ تحت أضواء النجوم كنتِ تأتين مع الليل تبحثين عن الزهور التي تقطفينها وإنه قد رأى على الماء، مغطاة في غلالتها الفضفاضة، أوفيليا البيضاء طافية كزنبقة كبيرة0 ( أوفيليا- للشاعر رامبو) حين أكتب القصيدة أتنهد مثل امرأة رشقت بنجمتها في البعيد واستدارت... وأبحث , كمن لم يتكلم منذ مائة عام / عن حجرِ لا ينبجس منه الحزن شجرة خضراء , كجميع النساء ظل ممدود بمزاج مائل وطائرِ في عجلة من أمره/فأنثاه قد تنتف ريشه /إن هو أضاع وقته هنا وهناك ثم أقرأ قصيدتي (من ديوان عصام عيسى رجب الجديد-2010) أين يوجد معنى القصيدة؟ من الأسئلة التي شغلت النقد قديما وحديثاً-منذ «فن الشعر» لأرسطو( 335 ق.م) وحتى «ما بعد النظرية» لتيري ايقلتون (2003 ) والنظرات الأخرى الجديدة في العشرية الأولى من هذه الألفية كنقد التبيّؤ(eco-criticism) أين بالتحديد يمكن الإمساك «بالمعنى» في القصيدة ؟ هذا إن كان أصلا من الممكن توصيف وتحديد( المعنى) إذ أنه علمياً من أعقد الأشياء وعلم المعنى(semantics) هو الفرع الأكثر تعقيداً من بين جميع الفروع اللسانية والأكثر تعدداً من حيث مداخل النظر إليه والأكثر بين-معرفية ! يرى بروكس (Brooks) وهو من طلائع حركة النقد الجديد في أوربا أن من أكبر الجرائر النقدية اختزال معنى القصيدة في شرحها(its paraphrase) . إذ أن الشرح زنديق - ولا يعني شيئاً ولا يعدل أبداً القصيدة. فمعنى القصيدة قابع في بنيتها وفي هيكلها وفي تركيبها . في روحها - أي فيها هي ذاتها , وليس في محاولة تمثيلها أو شرحها أو تحويلها إلي شكل آخر ! جاء ذلك في مقاله الشهير : هرطقة الشرح(The Heresy of the Paraphrase) وهو المقال الذي صدر لا حقاً في 1947 في كتاب حمل عنوناً فرعياً (دراسات في بنية الشعر(Studies in the Structure of Poetry) وشكل علامة فارقة في تاريخ الفكر النقدي راصفاً الطريق إلى كل الرؤى و الفكرات التي تبناها فيما بعد النقد الجديد. وتعتبر مدرسة كيمبردج من المدارس المؤسسة للنقد الجديد New Criticism والذي من أهم أفكاره رفض الرؤى السيروية والتاريخية التي كانت سائدة في النقد الكلاسيكي. فقد كان لا يتم النظر إلى النص إلا من خلال سيرة الكاتب وكامل المحيطات التاريخية ! ومن الجدير بالذكر, أن النقد الجديد الذي تأسس على هذه الفكرة المركزية لا يتبنى الرؤية (اللاتاريخية) بمعنى أنه لا يرفض النظر إلى التاريخ باعتباره مكوناً من مكونات كشف النص لكنه يرفض تهميش النص لصالح المكونات التاريخية والسيروية ! ولكن , القصيدة- عند بروكس والناقدين الجدد - تحتوي على عنصر جوهري سوبر تاريخي(super- historical) يجعلها بطبيعتها متسامية ومتعالية على وجها التاريخي دون أن تتنكر له ( يلزم التفريق بين اللاتاريخية والسوبر- تاريخية). فالأدب - والشعر على التدقيق- سوبر-تاريخي لكنه ليس لا تاريخياً ! بمعنى أنه في الوقت الذي يبقى فيه جزءاً من التاريخ , يظل تحت كل الظروف - محتفظاً بخصوصيته الفاردة التي تجعله يطفو فوق سطح التاريخ كقطعة نادرة , ويبدو من هناك مثل أوفيليا رامبو البيضاء (زنبقةً كبيرة) . سوبر-تاريخية القصيدة مهمة لأنها هي التي تمكنها من مقاومة النسبية التاريخية الناتجة طبيعياً من النظر الكلاسيكي الذي يعول بشدة على عوامل التاريخ والبايوقرافيا. ويرى بروكس أن النسبية التاريخية تساوي بين الجيد والرديء من النصوص. وعلى فكرة، فالنقد الثقافي والتاريخانية الجديدة لا ترفضان وجود هذه السوبر-تاريخية , كما يتوهم بعض النقدة الجدد المتعجلين - فالتاريخ والثقافة فيهما تختلفان عنهما في النقد الكلاسيكي و تعولان أكثر على الإدارة النقدية الجيدة لمكونات النص .. بطريقة أشبه بما يسميه ت.س. اليوت (بالحس التاريخي) حينما يجلجل صوت الماضي في الحاضر ويدوّي الحاضر في الماضي والمستقبل في تنظيم بديع ! والمسوغ النقدي الرئيس في رفض بروكس لصلاحية الشرح هو أن الشرح هو عبارة عن محاولة لإعادة صياغة القصيدة في قالب غير شعري . فالقصيدة - في رأيه تستعصي أصلاً على أية محاولة إعادة صياغة حتى لو كانت شعرية - دعك أن تكون صوغاً بعيداً عن الشعر ! فالقصيدة هنا كمادة البلاستيك غير قابلة للتحلل الحيوي(biotic decomposition). ولهذا، يفضل بعض النقاد كلمة «يقارب» approach على كلمة يحلل analyse القصيدة. و ربما لهذا أيضاً, رفض الجاحظ قديماً فكرة (ترجمة الشعر) باعتبارها مما (لا يستطاع)! والجاحظ من أنصار-بل قادة جبهة (اللفظ) في مقابل جبهة (المعنى) اللتين اشتعل الصراع بينهما في النقد العربي القديم. والقراءة الأصح للجاحظ هو أنه لم يكن فحسب من أنصار الصياغة الفنية (العمدة على جودة الألفاظ وحسن السبك وجودة التأليف) و ( إنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنسٌ من التصوير) - بل كان أيضاً مدركاً لتعقد عمليات المعنى وسيولتها وليس تقليلاً من «هيبة المعنى» كما يساء فهم عباراته كثيرة الترداد والاقتباس في «الحيوان» ( المعاني مطروحة في الطريق , يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي ). ومن الممكن الآن تبين أثر هذه التراكمات الفكرية في النقد الجديد. فالنقد الجديد يقول باختصار : معنى القصيدة هو شكلها وشكلها هو معناها . ويمكن التفرقة هنا بين ( معنى القصيدة) و(المعنى داخل القصيدة). الأول لا يمكن الكلام عنه خارج القصيدة . لأنه كامن في القصيدة كلها هيكلاً وروحاً .. إذ لا بديل للقصيدة إلا القصيدة ذاتها . والمعنى داخل القصيدة هو كل تلك التكانيك التي تتحرك بشكل من الأشكال داخل القصيدة وبها يستطيع الشاعر أن يصنع المعنى ويحركه ويديره بطريقته الخاصة داخل القصيدة . وفيما يستطيع الشاعر والناقد تتبع حركة المعنى داخل القصيدة , فليس في مقدور كليهما التعبير عن معنى القصيدة خارج القصيدة - خاصة إن كان ذلك عن طريق الشرح مثلاً. رؤية كلينث بروكس حول هرطقة الشرح - لا شك رائعة وصالحة من وجهة النظر النقدية المحضة. لكنها قد لا تكون كذلك في سياقات أخرى كالسياق التعليمي (في تدريس الشعر) وتبقى خاضعة للمساءلة في تلك السياقات. فشرح الشعر في السياق التعليمي ربما كان آلية لا غبار عليها - ضمن آليات عدة بالطبع - لصنع التفاعل المطلوب مع النص الشعري . ولكن من المفيد أيضا عدم الركون إليه، وحث الطلاب على ممارسة طرق أعمق, كإعادة كتابة القصيدة في شكل قصيدة أخرى- مثلاً .