لم يتبق من عمر الفترة الانتقالية التي رسمت خارطة طريقها اتفاقية السلام الشامل سوى أشهر فقط، إذ سرعان ما أنقضت خمس سنوات ونيف منذ أن وضع الراحل د. جون قرنق توقيعه على مسودة نيفاشا إلى جانب توقيع علي عثمان محمد طه وبرعاية دولية، وبالرغم من الصعوبات العديدة التي اعترضت مسار الاتفاقية أنجز الشريكان ثلثى الاستحقاقات الكبيرة، ليبيتا على مرمى حجر من وضع آخر لبناتها. الشريكان في درب نيفاشا، مرا بصعوبة بالغة من تحت نفق الإحصاء السكاني الذي أسس فيما بعد للانتخابات، التي تأخراجراؤها للعام الأخير من عمر الفترة الانتقالية، وتبقى - حالياً- من الاستحقاقات الكبرى في خارطة نيفاشا: الاستفتاء الذي بموجبه سيتقرر مصير شعب الجنوب. وعلى غرار الاستحقاقات السابقة، تتجمع في الأفق سحائب معركة جديدة في سماوات الشريكين، محورها هذه المرة الاستفتاء بالرغم من أجازة قانونه نهايات السنة الماضية، فبينما أعلن المؤتمر الوطني -ولأكثر من مرة- حرصه والتزامه بقيام الاستفتاء في موعده المقرر له تاريخ التاسع من مطلع العام المقبل، خرجت الحركة الشعبية وعلى لسان أمينها العام باقان أموم للملأ في تصريحات للزميلة (الصحافة) قال فيها إن الوطني يعمل على تعطيل قيام الاستفتاء عن موعده المضروب. باقان لم يعمل بالقاعدة القانونية التي تقول إن (المتهم بريء حتى تثبت إدانته)، إذ شرع مع نهاية عبارته الصحفية بأن (المؤتمر الوطني بدأ استثماراً في تخريب الأمن بالجنوب ووضع خطة تهدف إلى خيانة شعبه في إجراء الاستفتاء المقرر في يناير 2011م) في الكشف عن خطة وصفها بالمتكاملة لمجابهة مساعٍ الوطني للحيلولة دون وصول شعب الجنوب لصناديق الاقتراع، وحوت الخطة التي لم يفصح عنها باقان محاور سياسية، ودبلوماسية، وتعبئة جماهيرية، وأمنية، وتشريعية. ولنلج إلى الأسباب التي قادت أمين عام الحركة لذلك التصريح، من المهم معرفة الدوافع الملحة التي قد تكون حملته على ذلك القول الثقيل، وبحسب مايرى محمد المعتصم حاكم القيادي بقطاع الشمال داخل أروقة الحركة فإن تصريحات باقان أموم نابعة من مخاوف لدى الوطني بأن يحدث الانفصال إبان عهده الأمر الذي سيكون سبة في جبينه وقال حاكم إنه ومع إفتراض حسن النية، فإن الوطني أضاع سنوات كثيرة لجعل الوحدة جاذبة، ولذا تنتابه مخاوف من أن تكون الفترة الانتقالية المتبقية غير كافية للوحدة (أشار حاكم لكفايتها)، ما يدفعه نحو مراسي التسويف والمماطلة، الأمر الذي سيؤدي نهاية المطاف -بحسب رأى حاكم- لإغراق سفينة الوطن بمن تقلهم. غير ان هناك أسباباً أخرى يسوقها قادة في الحركة، وتندرج تحت بند سوء النية الذي رفض حاكم الخوض فيه، نحو خوف الوطني من أن يؤدي الاستفتاء لانفصال الجنوب وبالتالي ذهاب موارد ضخمة معه. هذا دون أن ننسى أن علاقة الشريكين ظلت طوال فترة الشراكة مبنية على الرمل ما أوصلهما لمرحلة اللا عودة أو مرحلة انعدام الثقة، وبالتالي فإن عدداً مقدراً من قادة الحركة حزموا امرهم بالأنكفاء على دولتهم الجديدة وترك الشمال يجابه مشكلاته التي ستنجم عن الانفصال وحده فضلاً عن سيف العقوبات الدولية المسلط على عنقه، وهذا لن يحدث بالطبع دون المرور فوق جسور الاستفتاء. وبالعودة لخطة باقان المحكمة، حاولت (الرأي العام) فك الشيفرة الخاصة بها ومعرفة خطوطها العريضة، ساعدها في ذلك محمد المعتصم حاكم الذي ابتدر تحليله للخطة من محورها السياسي وذلك وفقاً لتراتبية باقان، حاكم أوضح أن الحركة ستعمد الى التذكير بأن الاستفتاء بند إجرائي رئيس مضمن باتفاقية السلام والدستور الانتقالي وهو بمثابة الشرط الجزائي، والذي بمقتضاه يتم تقييم الاتفاقية، وشدد حاكم على ان أي تلاعب بتاريخ الاستفتاء سيؤدي الى تمزيق الاتفاقية التي أوقفت الحرب المتطاولة بين الشمال والجنوب ما يعني احتمالية العودة للمربع الأول، كما سيدفع الجنوبيين لإختيار الانفصال دون التوجه إلى صناديق الاقتراع. ومن المحتمل في ظل العلاقات الجيدة التي تربط الحركة بقوى المعارضة ان تعمد للإستقواء برفاقها في قوى جوبا للضغط على حكومة الخرطوم سياسياً لقيام الاستفتاء في تاريخه المقرر في اتفاقية نيفاشا. أما في المحور الدبلوماسي، فقد أشار حاكم الى ان الحركة تمتلك الحق في الاتصال بالضامنين لإتفاق السلام الشامل وعلى رأسهم الولاياتالمتحدة والسويد والأمم المتحدة، والاتحاد الافريقي للمساعدة في حث المؤتمر الوطني للوفاء بعهده الذي قطعه بواكير العام 2005م. وهي خطة تتماشى والنداءات التي أرسلها قبيل أيام دينق ألور وزير الخارجية عن إمكانية إحالة موضوع الاستفتاء برمته للأمم المتحدة حال تعثر الوصول إلى نقاط التقاء مع الوطني. المحور الثالث في خطة باقان والمتعلق بالتعبئة الجماهيرية، أكد حاكم على أهميته، خاصة مع النجاحات التي حققتها قوى الاجماع الوطني إبان أزمة القوانين الأخيرة داخل البرلمان ما أسهم في إجازة عدد من القوانين العالقة وعلى رأسها قانون الاستفتاء، وهو ما يعني عند حاكم فاعلية ذلك السلاح وإمكانية استخدامه لمرة جديدة لأجل ممارسة الناخب الجنوبي لحقه، بيد أنه شدد على ضرورة خروج تلك التظاهرات والحشود بصورة سلمية ووفقاً للقوانين والتشريعات وحذر بأن أي تعامل عنيف مع رجاءات الجماهير في ظل الاحتقان السائد سيؤدي الى نتائج وخيمة. وعن المحور الأمني، رفض حاكم الخوض في إتهام المؤتمر الوطني صراحة بالعمل على زعزعة الأمن والاستقرار في الجنوب، وقال إن تلك الإتهامات الآن يجري فيها تحقيق واسع، ولكنه قطع بدعم الوطني لدكتور لام أكول الذي يعمل وحزبه على خلق قلاقل وبلبلة لتأجيل الاستفتاء. وفي تصريحات سابقة لياسر عرمان نائب الأمين العام للحركة أتهم عرمان المؤتمر الوطني دونما مواربة بدعم وتسليح مليشيات قال إنها تعمل بالوكالة عن الوطني لزعزعة أمن الجنوب، وأكد إمتلاكه أدلة تعضد اتهاماته. ويشهد الجنوب موجة عنف متصاعدة منذ الانتخابات، فالجنرال جورج أثور يقود حرباً مسلحة ضد رفاقه السابقين بسبب ما يصفه بعمليات تزوير صاحبت الانتخابات الأخيرة ونتجت عنها خسارته لمنصب والي جونقلي لصالح مرشح الحركة. كما تعاني الحركة في ولاية الوحدة من تعالي أصوات الرفض التي يقودها أنصار المرشحة المستقلة أنجلينا تينج ضد مرشحها تعبان دينق، وتشير أخبار المواجهات القادمة من الولاية الى تحول أصوات الرفض في كثير من الأحيان للحديث بلغة الموت والدماء، ومما يزيد الطين بلة النبأ الذي يشير إلى تمرد عميد بالجيش الشعبي يدعى قلواك قاي، لينضم الى قائمة الجنرالات المتمردين على جوبا. ويعتبر جيش الرب الأوغندي معضلة أخرى تعترض أمن الجنوب، فقوات جوزيف كوني تصنف الجيش الشعبي كعدو، خاصة بعد مساعى جوبا وعدد من عواصم الجوار الجنوبي للقضاء على قوات القس المطلوب لدى محكمة الجنايات الدولية. واستهدفت قوات تتبع لكوني اثنين من مسؤولي الحركة وسائقيهما في الولاية الاستوائية وأردتهم قتلى منتصف الشهر الحالي في استهداف واضح للحركة، التي تتهم الخرطوم بدعم كوني. وفيما أكدت حكومة الجنوب قدرتها على إدارة الاقليم ومواجهة التحديات الأمنية التي تجابهها، وتفويت الفرصة أمام الوطني لتأجيل الاستفتاء والاضطلاع به على الوجه الأكمل، أعلن أموم أن الحركة ستلجأ في آخر خياراتها لإعلان استقلال الجنوب من داخل قبة برلمانه حال استمر الوطني في سياساته. وهي خطوة يؤيدها حاكم بعد تاريخ التاسع من يناير للعام المقبل، وقال إذا مّر التاريخ المحدد للاستفتاء دون قيامه يحق للمجلس التشريعي بالجنوب ساعتها التصويت داخله لخياري الوحدة والانفصال وأضاف: نسبة لعدم التزام الخرطوم أجزم ساعتها بأن الخيار سيصب لصالح الانفصال. وأوضح حاكم أن إعلان الانفصال من قبل تشريعي الجنوب بعد أنقضاء أجل نيفاشا سيقابل بموجة تأييد دولية ستقودها دول عربية - لم يفصح عنها- ولها مصالح مع الدولة الوليدة. بيد أن عبد الرحمن الخليفة القيادي بالوطني وبعد ان أعلن التزام حزبه بقيام الاستفتاء في مواعيده، أكد استحالة إعلان الاستفتاء من طرف واحد ووصف الأحاديث القائلة بذلك بالابتزاز السياسي. في ذات القضبان تقريباً سار د. خالد حسن بشير أستاذ العلوم السياسية بتفسيره لتصريح باقان أموم على أنه نوع من الضغط السياسي على الشريك في الحكم لإنفاذ بنود نيفاشا، وخطوة احترازية للحد من عمليات تدخله في الاستفتاء. كما ويرى في ذات الخطوة آلية لاجهاض التدخلات الخارجية مثل محاولة التأثير على قرار شعب الجنوب في الاستفتاء. هذا، وظل المؤتمر الوطني في كل المنابر، يؤكد إيمانه العميق بضرورة قيام الاستفتاء في مواعيده والقبول بنتائجه، وهو ما جدده الرئيس البشير في حفل تنصيبه الخميس المنصرم بالقول: ملتزمون بما نص عليه اتفاق السلام بإجراء الاستفتاء لتقرير مصير الجنوب في الوقت المحدد، ونقبل عن رضا الاختيار الحر لأبناء الجنوب. وفيما يبدو، أن حرائق التصريحات ستظل مشتعلة بين شريكي نيفاشا المتشاكسين، بالرغم من أحاديث التهدئة و(خراطيم) المياه، وعند 9 يناير 2011م -فقط- سيعلم الجميع أتكسب كتيبة النار أم فرقة المطافي؟