لبى السفير د. بشير البكري نداء ربه يوم الثلاثاء الموافق 22 يونيو 2010م وذهب مبكياً عليه حيث هرع الى مقابر البكري بأم درمان جمع غفير من قطاعات الشعب السوداني المختلفة لتشييعه والترحم عليه، لما عُرف عنه من تواضع وعلم غزير ودماثة اخلاق. وقد عرفناه سفيراً من الرعيل الأول من الذين اثروا العمل الدبلوماسي بوزارة الخارجية، وكأحد المفكرين الذين تؤرقهم قضايا البلاد والعباد يسعون من خلالها الى التواصل والتلاقح وماذا نحن فاعلون في السودان؟.. هكذا كانت افكاره تسير على هذا المنهاج وهذا الطريق. ولد السفير د. بشير البكري في عام 1918م وتلقى تعليمه بكلية الأقباط، وهاجر الى مصر بسبب الضغوط التي كان يمارسها الاستعمار آنذاك وخاصة بعد اتقاد الحركة الوطنية والتي اشتعلت نار جذوتها بقيام ثورة 1924م حيث التحق بالمدرسة السعيدية الثانوية واكمل دراسته الجامعية بجامعة القاهرة، ثم أُبتعث في أول بعثة دراسية لمنحة الملك فاروق الى فرنسا مع عدد من زملائه حيث تلقى دراسته العليا في جامعة السوربون ونال درجة الدكتوراة من لندن، ولدى عودته الى السودان شغل منصباً في وزارة المالية، وعندما تم استحداث أول وزارة وطنية بعد الاستقلال وهي وزارة الخارجية انضم للعمل لوزارة الخارجية كدبلوماسي حيث عمل في عدد من السفارات الغربية والافريقية ومنها سفارة السودان بباريس. وبينما كان سفيراً للسودان في نيجيريا اختير مديراً لبنك النيلين (بنك الكريدي ليونيه) عندما دخلت حكومة السودان شريكاً فيه، وعندما وصل الى سن المعاش اختير مديراً للبنك الأهلي السوداني. ونسبة لحنكته واتقانه اللغة الفرنسية فقد شغف بالمشاركة في العديد من المؤتمرات خارج وداخل السودان، وشهدت له العديد من المنابر والمحافل الدولية بهذه المزِّية وهذا الحضور الكبير والاهتمام والمثابرة والجدية في النقاش.. وقد عنى بشكل خاص في السنوات القليلة الماضية بقضايا الثقافة والعلوم وتقنية المعلومات والتعليم والسلام والتنمية المستدامة . وقد كانت هذه القضايا تؤرقه بشكل خاص وتثير فيه حماساً منقطع النظير. وقد كنت أحرص في دعوته للندوات التي كانت تقيمها وزارة الخارجية كل أسبوع بحكم منصبي كمدير لادارة البحوث، وأجد منه حرصاً شديداً لحضور تلك الندوات في الزمان والمكان المحددين، وكانت غالباً ما تتاح له الفرصة لأخذ زمام المبادرة لابتدار النقاش، فكان يقود النقاش بكل ثقة وتجرد حيث يجذب سامعيه للموضوع ومتابعة القضايا المثارة فيه. كان المرحوم د. بشير البكري من عمالقة رجال الحركة الوطنية في السودان. وبفقده فقدنا واحداً من الرعيل الأول الذين أرسوا دعائم العمل الثقافي والوطني في السودان، فعندما هاجر الى مصر لمواصلة دراسته عمل محرراً لمجلة «السودان» وهو طالب بالقاهرة وامتد عمله في شتى المجالات منها الدبلوماسي والاقتصادي والطوعي. ذكر استاذي مبارك يحيى - الأمين العام للجنة الوطنية لليونسكو «سابقا» ان د. بشير البكري كان يشارك في عدد من الاجتماعات التي تعني بالثقافة وعلى حسابه الخاص، ويكتب عنها هنالك من بُعد تقارير وافية وتوصيات للمسئولين في السودان، بل ويلاحق ويتابع ذلك بحس وطني رفيع. فعل ذلك بالنسبة للمؤتمرات التي كانت تعني بقضايا تقنية المعلومات والسلام المستدام حيث شارك في مؤتمري جنيفوتونس لتقنية المعلومات . وقد كانت تلك القضايا تستهويه بشكل كبير خاصة عندما تقترن بقضايا السلام والتنمية المستدامة. وقد كانت لديه رغبة عارمة لحضور تلك المؤتمرات. وقد دبج عدداً من المقالات في صحيفة (الرأي العام) الغراء في اعدادها الصادرة في 12 نوفمبر 2005م و 29 نوفمبر 2005م و17 يونيو 2007 ، وفي مقال له بعنوان:(السودان في مواجهة ثورة المعلومات الجديدة) أشار الى أن الاهمية تتركز على ان يتم تمكين الجميع من المشاركة في مجتمع المعلومات الجديد لمحاربة الفقر وخلق الثروات لتحقيق التنمية المستدامة وهو فهم جديد قمين ان يطبق في السودان طالما نجحت دول أخرى في تطبيقه كالصين مثلاً، وقد تتبع المرحوم د. بشير البكري بشكل دقيق وثيقة تونس الاساسية والمبادئ المهمة التي تناولتها وعلى رأسها تنمية القدرات البشرية ومختلف القضايا التي تم الاتفاق حولها مثل حرية الرأي والتعبير، وحرية الصحافة وحرية المعلومات ومبادئ الاستقلال والتعددية والتنوع في وسائط الاعلام... الخ ولا زلت أذكر ذلك اليوم الذي شرفنا فيه د. بشير البكري لحضور الندوة التي تحدث فيها الدكتور طارق أحمد خالد نائب مدير تقنية المعلومات «سابقا» ببنك السودان بعنوان :(الفجوة الرقمية.. ماهية المشكلة وآفاق الحل) في الأول من ديسمبر 2005م حيث حضرت تلك الندوة كوكبة من المهتمين بتقنية المعلومات وقد أثرى د. بشير البكري الندوة بالنقاش حيث تناول المشكلة من جميع جوانبها وحللها بقريحة متقدة وفهم عميق.. ألا رحم الله د. بشير البكري وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن اؤلئك رفيقا. (إنا لله وإنا اليه راجعون)