يبدو وكأن الجميع، القوى السياسية، ومنظمات المجتمع المدني ودول الجوار، والاتحاد الافريقي، والجامعة العربية والمجتمع الدولي قد اكتشف ان الاستفتاء وتقرير المصير للجنوب يدق الباب للدخول مباشرة في 9/يناير/2011م، ويبدو أيضاً انهم يعتبرون ان انفصال الجنوب عن الشمال واقع لا محالة، وان اصوات دعاته من قيادات الحركة الشعبية هي الأولى والأعلى على غيرها وتشكل دفعاً قوياً في ذلك الاتجاه، رغم أنهم يعلمون- أي دعاة الانفصال- جيداً أن اتفاقية السلام الشامل تلزم الحكومة والحركة الشعبية والمراقبين لجعل وحدة السودان جاذبة لشعب جنوب السودان، وتقول: «ان الاستفتاء ينظم لكي يؤكد «وحدة السودان» عن طريق التصويت لاعتماد نظام الحكم الذي تم وضعه بموجب اتفاقية السلام او التصويت للانفصال، ويمتنع الطرفان عن أي شكل من أشكال الالغاء او الابطال لاتفاقية السلام من جانب واحد» وتنص الاتفاقية «ان الخيار الأول عند الاستفتاء هو الوحدة وان الطرفين التزما بالمسؤولية المشتركة لجعل الوحدة جاذبة، وليس صحيحاً أن المؤتمر الوطني، أو الحكومة المركزية هي وحدها المعنية بذلك وانما استناداً إلى مضابط المفاوضات والوثائق والاتفاقية وعلى لسان د. عبد الرحمن إبراهيم في ندوة اكسفورد، وانما ايضاً المراقبون والوسطاء والشركاء الذين وقعوا على نصوص الاتفاقية ملزمون بالعمل لترجيح خيار الوحدة «ولكن للمفارقة أن قيادات الحركة الشعبية خرقت نصوص الاتفاقية مبكراً بالدعوة المباشرة لانفصال الجنوب عن الشمال، بل إن الأمين العام للحركة الشعبية التي تقبض وتدير مقاليد الأمور في الجنوب، والوزير المعني بتطبيق اتفاقية السلام الشامل السيد باقان اموم يشدد وبقوة بالقول: «ان الوحدة مع الشمال اصبحت في خبر كان» و«ان قطار الوحدة قد ولى ولم تبق قطرة أمل واحدة لوحدة السودان» و«أية دعوة لتأجيل الاستفتاء بمثابة دعوة حرب»، و«لدى برلمان الجنوب خيارات اخرى بديلة امام أية عرقلة «الشرق الأوسط 6/6/2010م». والواقع ان الدعوة المبكرة للانفصال وبهذه اللغة الحادة الجافة تمثل أولاً الخروج الحقيقي على نصوص اتفاقية السلام، وهي دعوة للحرب بخروجها المباشر على مضمون التوافق عليه وبمشاركة فاعلة من الوسطاء والمراقبين والمجتمع الاقليمي والمجتمع الدولي للعمل على ترجيح خيار الوحدة وليس الانفصال، وإذا طرحت الدعوة لتأجيل الاستفتاء لتقرير المصير، فهذا لا يعني الخروج على اتفاقية السلام ولا الالغاء أو التراجع عن مستحقات متفق ومجمع عليها تماماً على مستوى كافة القوى السياسية في الداخل والمستوى الاقليمي والدولي، ولم يأت طرح تأجيل الاستفتاء من القوى السياسية أو منظمات المجتمع المدني، ولا من رئيس الجمهورية ولا من قيادات المؤتمر الوطني في الداخل، وإنما جاء من دولة عظمى، وهي بريطانيا بخلفيتها التاريخية في ادارة السودان بكل مناطقه بوجه عام والجنوب بوجه خاص منذ «1889-1955م»، لقد ابلغت وجهة نظرها لقيادات الحركة الشعبية والتي تتمثل بوقوفها مع اجراء استفتاء عام حر ونزيه يقرر فيه شعب الجنوب خياره في الوحدة مع الشمال أو الانفصال، ونبهت الحكومة البريطانية إلى مخاطر ومهددات تواجه الجنوب إذا غلب خيار الانفصال على الوحدة، حيث ستفتقر الدولة الجديدة لمقومات الدولة وستتعرض لمصاعب جمة، ولحروب وصراعات قبلية ولوضع اقتصادي مفقر ناجم عن غياب منفذ أو معبر على البحر، وجاءت النصيحة «البريطانية» ان تأجيل أو مد الفترة -موعد إجراء الاستفتاء- ربما يفيد كثيراً في طرح ملفات التداول حول تداعيات الانفصال وما هو مطلوب من معالجات بناءة، وكذلك الترتيب والتفاهم حول كل ما هو مطلوب وبشكل ايجابي ولذلك فإن الدعوة إلى تأجيل الاستفتاء، لا تعني التراجع من أي طرف، وانما تعني الترتيب ووضع السيناريوهات والتداول في قضايا الانفصال، العلاقة بين الشمال والجنوب والصيغة المثلى للحفاظ على التواصل والتعامل والتعاون الاقتصادي والتجاري، والديون «32مليار دولار» ووضع العملة، ووضع الجنوبيين بالشمال، والشماليين بالجنوب، والجنسية، والنفط ومياه النيل، والمواصلات البرية والنهرية .. إلخ، ثم الأهم من ذلك هو تصحيح مسار التداول الخاص باتفاقية السلام ونصوصها وبجعل خيار الوحدة هو الغالب، وليس خيار الانفصال مع الالتزام والقبول التام بما يسفر عنه الاستفتاء. إن الدعوة لتأجيل الاستفتاء من موعده في مطلع يناير 2011م إلى موعد آخر يتفق عليه وبمشاركة واسعة ومأمونة فليكن مطلع عام 2012م أو نهاية ديسمبر 2011م مع بناء حوار مباشر بين الشريكين -المؤتمر الوطني والحركة الشعبية- واستصحاب ومشاركة القوى السياسية الرئيسية باعتبار أن الاستفتاء وتقرير المصير قضية قومية، بالدرجة الأولى ومهمة وخطيرة تستوجب مشاركة واشراك الجميع، وأيضاً مشاركة ومساهمة الاصدقاء والمجتمع الاقليمي والدولي على حد سواء.