بصورة باعثة للقلق، وربما الخوف، برزت حديثاً للسطح ظاهرة التناحر القبلي كزبون دائم على صدر الصفحات الأولى للصحف السيارة ونشرات الأنباء. وبات موت العشرات في أتون تلك الصراعات مجرد أحاديث وأرقام تتناقلها الميديا الإعلامية بطريقة آلية منزوع عنها - بكل أسف- الروح. ..... ويعد النكوص إلى عهود ما قبل الدولة، والانكفاء على القبيلة من أكبر الأدواء التي تجابه البلاد خاصة وأن كثيرين يرجعون انفلات أزمة دارفور من عقالها لسوء تعاطي الدولة مع القبائل الموجودة في إقليم غرب السودان. كما وأن مجموعة كبيرة ترد أزمات الجنوب القبلية إلى حالة الضعف التي اعترت الإدارات الأهلية إلى جانب أسباب أخرى. وفي وقت يبحث فيه الجميع عن الوحدة الجاذبة، المرتكزة إلى الثراء والتنوع. اختارت مجموعات قبلية وأفراد عزف مقطوعة النشاز بإعلاء القبيلة على ما عداها من قيم ومنظومات مجتمعية، والانحياز إلى صوت السلاح كآلية لإقصاء الآخرين، الأمر الذي حتّم على الصحيفة الركض وراء الأسباب التي تقف وراء علو تلك النبرة المقيتة. وفي حديثه مع (الرأي العام) عزا د. واني تومبي أستاذ العلوم السياسية بجامعة جوبا الصراعات القبلية في الجنوب، إلى التباين الكبير في النسيج السكاني. وأوضح أن القبائل الموجودة في الجنوب جمعها ظرف تاريخي في تلك البقعة الجغرافية. وأنتقد محاولات الانفصاليين داخل صفوف الحركة الشعبية في تصوير الجنوب ككتلة ثقافية متماسكة، وحذر من تجميع القبائل الجنوبية تحت لواء كراهية الشمال. وكشف تومبي عن بعض جوانب التفاوت الثقافي في الجنوب والمفضية إلى صراعات القبائل. فقبيلة الباريا - على سبيل المثال- في تكوينها تجنح إلى السلم ولا تلجأ للأساليب العنيفة إلا في حالة الدفاع عن النفس. فيما تتخذ قبيلة الدينكا من الحرب ثقافة مجتمعية لإظهار العزة والرفعة ما يؤدي إلى حدوث احتكاكات بين أفراد القبيلتين. وفي ذات سياق الأسباب المؤدية إلى العنف القبلي، أضاف تومبي المراعي كمدار طبيعي في فلك الصراع، حيث التكالب على الماء والكلا فضلاً عن الدخول في أراضٍ تعد حكرا لقبائل بعينها. وبالانتقال غرباً، نجد أن دواعي الاحتراب القبلي تكاد تضاهي تلك الموجودة في الجنوب، حيث تعد صراعات القبائل الرعوية المتنقلة مع نظيراتها من القبائل الزراعية الأبرز، إلى جانب مسببات أخرى عددها ل (الرأي العام) أسعد عبد الرحمن بحر الدين القيادي بقبيلة المساليت، وشملت: دواع ثقافية تتعلق بتباين موروثات كل قبيلة، واجتماعية ترتبط بعادات كالزواج، وأضاف لتلك القائمة الاعتداد بالرأي الشخصي. وأوضح أن زعيم القبيلة لكونه ممسكاً بتلابيبها بمقدوره زج كل أفرادها في أتون صراع إما بسبب التمسك بقرار بعينه، أو لتحقيق مصلحة شخصية وربما بسبب قراءة خاطئة لما يحدث في الساحة. وفيما كانت الإدارات الأهلية خلال العقود الماضية قادرة على احتواء المسببات التي ذكرها الخبراء للصحيفة كعوامل رئيسة في تفجير فتيل العنف القبلي وعند طور مبكر عبر إجراء المصالحات العاجلة وعقد مؤتمرات للسلم وتنظيم المسارات الرعوية للقبائل بصورة تحول وأتساع دائرة العنف، دخل العامل السياسي -الآونة الأخيرة- كعامل مرجح في الصراع وبات الاستقطاب السياسي داخل المنظومات القبلية على أشده وبات من الطبيعي سماع مقولات عن قبيلة بكاملها أعلنت ولاءها لصالح حزب سياسي محدد. وفسر د. واني تومبي الأمر بالإشارة إلى أن أقصر الطرق التي يسلكها السياسيون - على انتهازيتها- لتحقيق أهدافهم التكتيكية قصيرة الأجل بغض النظر عن النتائج الإستراتيجية الوخيمة، طريق القبيلة وضرب مثلاً باتقاقية السلام الشامل (نيفاشا) والتي قال إنها أحالت الجنوب لحلف قبلي كبير. وفي ذات السياق النقدي لنيفاشا، أبان تومبي أن الجيش الشعبي تحول بمقتضى الاتفاقية لجيش قبلي يهدف لحماية أبناء قبيلة محددة، ما قاد إلى انطلاق سباق تسليح بين قبائل الجنوب، الأمر الذي أشار إلى أنه مهدد أمني كبير سيقود الجنوب لحرب أهلية طاحنة مستقبلاً. من جهته أتهم أسعد بحر الدين جلّ الساسة بالمتاجرة بقضايا المواطنين وذلك لعدم التصاقهم بالهموم الحياتية اليومية للمواطن. ووصف اتفاقيات السلام الجارية والمبرمة بالفوقية المنحصرة في أطماع ضيقة هدفها الثروات وكراسي الحكم. وحذر بحر الدين من تفتيت القبائل وتحويلها إلى كنتونات سياسية متناحرة عبر إستقطاب أفرادها بنداءات تنز بالعنصرية والقبلية. وفي الإطار العام، يحذر عدد من الخبراء من التهديدات القبلية في موضوعات من صميم عمل الدولة نحو نيل مناصب سياسية، وترسيم الحدود، وقضايا السدود، واتفاقيات السلام ويطالبون الدولة ببسط هيبتها والعمل الفوري على نزع الأسلحة من أيدي المواطنين، وذلك بغض النظر عن العواقب. فيما ينادي آخرون بسياسة التعامل مع الأمر الواقع وضرورة استصحاب المكون القبلي في كل الحلول بغية استدامة السلام والاستقرار. فيما يناشد الفريق الثالث بتقوية منظمات المجتمع المدني وإشاعة الوعي لدرجة تكون فيها المواطنة أساساً للحقوق والواجبات. وفي وقت يثمن فيه الجميع الأدوار التي لعبتها القبيلة إبان مراحل سابقة في محاربة الاستعمار ودعم المجموعات الوطنية، تبرز الحاجة ملحة لوضع لافتة تحذيرية في طريق القبلية حال كان مؤداه التناحر والعنف، فلا أحد يريد للوطن أن يصبح كما المقولة البائسة التي انتشرت أخيراً (مجرد واطة .. لمة ناس).