قيمة هذا الكتاب أن مؤلفه واني تومبي مثقف جنوبي بخلفية قانونية صحفية، أي أنه يصدر أحكاماً موضوعية.. وعندما يوجه مثله نقداً لحكومة سلفاكير وهي في الفترة الانتقالية قبل الاستفتاء على تقرير المصير في عدة مقالات بصحيفة إنجليزية، وجه فيها نقداً مباشراً للحركة الشعبية بأنها لم تعمل لأجل الوحدة، الأمر الذي يبريء الشمال من التهم التي يوجهها بعض الإخوة العرب خلال فضائياتهم وحتى شماليين بأنه لم يعمل حتى تكون الوحدة جاذبة. وأهم ما عرضه الكتاب هو عدم العدل وسيادة روح القبلية والجهوية وتفضيل قبائل على أخرى وانتشار الفساد من بعض القيادات وهو ما لم يره الجنوبيون ولكن ذاقوه.. وربما أجاب على أسئلة دون أن يقصد كانت تدور في رؤوسنا عن سر تلك الرغبة القوية لمعظم الجنوبيين للإبقاء على العلاقة مع الشمال كما كانت قبل الانفصال. الكتاب يتناول بالتحليل خطاب الرئيس سلفاكير عندما كان نائباً أول لرئيس الجمهورية، تحليلاً يؤكد فيه عدم انطباق الأقوال مع الأفعال. في البداية أورد ما ذكره في مدخل خطابه من أن اتفاقية السلام الشامل قد «أحدثت تغييراً جذرباً في الوضع السياسي في السودان»، ويوافق «واني تومبي» سلفاكير في أن هناك تغييراً أحدثته الاتفاقية ويصفه بالجذري، إلا أنه يرى أن هناك سلبيات وإيجابيات لهذا التغيير، وتساءل ماذا فعلت الحركة الشعبية تجاه التغييرات الإيجابية؟.. ويمضي في التساؤل وهل يمكن أن يحدث التغيير مسؤولون جنوبيون ذوو مسلك جامد يراهم غير متمتعين بالنوايا السياسية البناءة والتغيير الذي يرونه هو تطلعات سياسية جوفاء، ويؤمن الكاتب بأن أدبيات ونصوص التغيير السياسي كان من الممكن أن تترجم في شكل بضائع وخدمات على أرض الواقع ينتفع منها المواطن الجنوبي، وأضاف بالقول بما أنها لم تترجم في شكل خدمات وبضائع، فهي بالتالي غير ذات فائدة، ووجه حديثه إلى الحركة الشعبية قائلاً إن التغيير لا يعني أن تحتكر الحركة الشعبية كل المواقع السياسية والإدارية في حكومة الجنوب بواسطة عملاء الحركة والجيش الشعبي «وفي كل صفحات الكتاب أكد الكاتب أن السلطة والثروة تحتكرها الحركة الشعبية في قبائل معينة». وأشار الكاتب إلى نقطة مهمة حينما خاطب الحركة الشعبية بالتخلي عن سياسة الحقد والأذى القديمة واستبدالها بالحب وتبادل المنافع»، مذكراً الحركة الشعبية بأن التغيير السياسي الجذري لن يحدث بمجرد أن نتغنى بميزاته خلال لقاءاتنا العامة، بل يتحقق إذا آمنا به واعتقدنا فيه حقاً، ويشير بذلك إلى أن قيادات الحركة الشعبية، وأشار إلى النتيجة بقوله «إذا ما واصلت الحركة الشعبية والجيش الشعبي سياساتهما الراهنة في الجنوب من خلال حكومة الجنوب، فسينتهي الأمر إلى تأسيس تغيير سياسي جذري سالب يمكن أن يرجع بالجنوب أكثر من مائة عام إلى الوراء». قال ذلك قبل أكثر من ستة أعوام، فلننظر إلى المشهد في الجنوب، نجد أن المواطن الجنوبي لا يتمتع بالحد الأدنى من الحريات والخدمات التي ينعم بها إنسان في هذا العصر، بل إن ما كان يصل من الشمال من مواد تموينية وخدمات أخرى انقطعت عنه بسبب سلوك الحركة الشعبية ولإصرارها على تنفيذ أجندة إسرائيلية وأمريكية تهدف إلى إسقاط الحكومة في الخرطوم بدلاً عن الاهتمام بأولويات المواطن الجنوبي مما قاد لإهدار كل الأموال وإهدار عائدات البترول على التسليح ودعم الحركات المسلحة المتمردة في دارفور وكردفان والنيل الأزرق ولم تحقق فائدة واحدة لحكومة الجنوب، بل تسببت في مصرع الآلاف في معارك لا معنى لها مع الشمال وإهدار ملايين الدولارات فيما لا يفيد المواطن في جنوب السودان». وأشار إلى فخر الحركة الشعبية بالاتفاق الذي وقعته مع «فاولينو ماتيب» وقال إن المراجعة النقدية لهذا الاتفاق الذي سمي باتفاق جوبا تشير إلى قدر كبير من عدم الثقة السياسية والعسكرية بين أطراف هذا الاتفاق، فحوادث إطلاق النار في واو والأحداث الكثيرة في جوبا بين جنود أطراف الاتفاق توضح انعدام الثقة والاطمئنان. وطالب الحركة الشعبية بابتكار أشكال وتعاليم سياسية لحل الجدل الكامن بين قبائل معروفة في جنوب السودا، وأشار إلى نزع الأسلحة الانتقائي والقسري من بعض قبائل الجنوب والسماح لقبائل أخرى بحمل السلاح بحجة حماية مواشيهم وممتلكاتهم، فهذه القبائل المسموح لها بحمل السلاح ليست القبائل الوحيدة التي تحتاج لحماية مواشيها وممتلكاتها.. وأضاف أن كل المواطنين السودانيين الجنوبيين يجب أن تكون لهم نفس الحقوق وأن يعاقبوا بنفس العقوبات إذا خرجوا عن القانون، وبدون ذلك فستظل الحركة الشعبية تحلم بالجنوب آمناً وبدون أسلحة غير قانونية، وتساءل لماذا تعجز الحركة الشعبية في عملية المصالحة وعن الدخول في مفاوضات مثمرة مع إخوانهم في جنوب السودان حتى يعم السلام، وأضاف لماذا يسمح بعض قادة وضباط الحركة الشعبية لأنفسهم أن تسيطر عليهم الكراهية الفردية والحقد على كل مجموعات جنوب السودان المسلحة. وقال إنه ليس من المعقول أن يظل الجنوبي مشبعاً بكراهية الإخوان، ثم يلوم الآخرين مثل الأحزاب السياسية الشمالية، باعتبارهم مسؤولين عن الصراع المسلح بين الجنوبيين، مؤكداً أن الجنوبيين إذا داوموا على ذلك فإنهم سيعكسون للعالم الخارجي صورة شعب غير مؤهل ليحكم نفسه. وختم الفقرة بالإشارة إلى أنه يكتب كجنوبي متألم يتوق لأن يقوده زعماء أمناء مخلصون في جنوب السودان بدلاً عن زعماء قبليين يتنكرون كشخصيات وطنية قيادية. وأشار في هذا الجزء إلى مخالفات خطيرة للحركة عندما قال: هل نستطيع أن نقول إن اغتصاب النساء العشوائي بواسطة جنود الجيش الشعبي في منطقة منوكي السكنية في جوبا وسيلة لإخماد مصادر الصراع المحتملة؟.. وهل يكون فرض موظفين متغطرسين وقليلي الخبرة والتعليم على آخرين متعلمين ومتحضرين.. وسيلة أيضاً لإخماد مصادر الصراع في جنوب السودان؟! وأشار إلى تسوير الأراضي القبلية توطئة لتوزيعها على منسوبي الحركة، مؤكداً أن القيادة غير المسؤولة هي أضمن سبيل لإثارة واستدامة مصادر الصراع المحتملة في السودان. «عموماً وضع الكتاب عندما كان الجنوب موحداً مع الشمال»، وفي أكثر من فقرة أثبت المؤلف أن الحركة الشعبية تعتبر أي جنوبي لم ينضم لها خلال فترة الحرب من خصومها. وأورد اقتباسات من خطابات لقرنق وقيادات أخرى تؤكد ذلك، بل وحتى داخل هذه الحركة هناك تمييز بين قيادات وأخرى، فالعسكريون يتعاملون باستفزاز مع المدنيين مهما كان مؤهلهم التعليمي وخبراتهم بالمقارنة مع عسكريي الجيش الشعبي. وأورد تومبي نماذج على ضرب الوزراء وإقامة حواجز في الطرق دون أن تدعو الحاجة لذلك ولكن فقط لمضايقة وإزعاج المدنيين بمن فيهم الوزراء وكبار المسؤولين الحكوميين خارج قوائم الحركة الشعبية، ليس بسبب وحشية الجيش السوداني، بل كانوا يفرون من السلب أو النهب والاغتصاب ووحشية جنود الجيش الشعبي ومن قياداته المتعطشة للدماء «هذا ما ذكره حرفياً». وصحح تومبي مفهوماً سائداً عندنا في الشمال حول تمثيل الحركة الشعبية للجنوبيين وقال إن جنوب السودان ليست فيه مجموعة سياسية واحدة تستطيع أن تدعي الشرعية المطلقة واحتكار عملية التحرير في جنوب السودان، والحركة حازت على هذه المكانة لأنها فقط هي المعروفة وهي التي وقعت اتفاق السلام، مشيراً إلى غياب المؤسسات العسكرية والأمنية المتوازنة التي تأخذ في اعتبارها الواقع الاجتماعي والثقافي والأثني والقبلي، مؤكداً أن الطريقة التي تكون بها الجيش الشعبي لتحرير السودان لا تمثل في الحقيقة المجموعات الاجتماعية والسياسية والثقافية والقبلية في جنوب السودان، وكانت نتيجة ذلك أن هناك عنفاً متزايداً ضد مجموعات بعينها ولكن الناس يتخوفون من التبليغ عن السلوك الإجرامي الذي ارتكب ضدهم بواسطة عضو في هذه القبيلة المسيطرة، مؤكداً مرة أخرى أن الحركة اتفقت مع مجموعة «فاولينو ماتيب» فقط ولم تبذل أي جهد للاتفاق مع المجموعات الأخرى.