صبيحة الخميس الماضي، كانت مديرة مكتب رئيس مفوضية الاستفتاء، تتلقى اتصالاً يفيد بدنو ساعة وصول ثامبو أمبيكي رئيس جنوب أفريقيا السابق، ورئيس لجنة حكماء أفريقيا إلى المكتب لمقابلة ب.محمد إبراهيم خليل ، فأمبيكي، منذ أن عينه مجلس الأمن والسلم الأفريقي على رأس لجنة الحكماء، بات ضيفاً ثابتاً على معظم القضايا السودانية الساخنة بحضوره الدائم عبر زياراته المتكررة أو تصريحاته، سواء أكانت ذات صلة بدارفور، أو الانتخابات، أو الأحزاب المعارضة، وأخيراً الاستفتاء، وباتت أخبار لقاءاته مع المسئولين في الخرطوم، و زعماء المعارضة كالصادق المهدي، والمسئولين في جوبا، بدورها أنباء معتادة، كأنما حجز الرجل لنفسه خانة دائمة ضمن فريق اللاعبين الأساسيين في المشهد السياسي بصفته محترفاً أجنبياً..! ..... ولدت مهمة أمبيكي في أجواء ترقب مشوبة بالتوتر أعقبت تسريب وسائل الإعلام الغربية، والأمريكية على وجه الخصوص، نبأ اعتزام مدعي محكمة الجنايات الدولية توجيه الاتهام للبشير والمطالبة بتوقيفه، إذ صعدت قضية تحقيق العدالة في دارفور للواجهة، ليأتي قرار مجلس السلم والأمن الأفريقي بإنشاء لجنة الحكماء، يتفويض يتضمن دراسة الأوضاع في دارفور، وتقديم توصيات بمعالجات مقترحة لقضية العدالة، وقضية السلام والمصالحة، وأرفق المجلس ذات القرار ببيان رفض فيه تحركات المحكمة الجنائية الدولية ضد البشير، ورفض في ذات الوقت مبدأ الإفلات من العقاب. أمبيكي، الذي ينحدر من عائلة متمرسة في النشاط السياسي (مارس كل من والده ووالدته العمل التنظيمي)، بدأ مهمته بنوع من الحذر والتحفظ على مستوى الزيارات الميدانية وعلى مستوى التصريحات، وقام خلال عامه الأول بعدد من الزيارات للسودان ودارفور، استمع فيها لمسئولين ومواطنين وخبراء، والتقى بكثير من الساسة والناشطين والدبلوماسيين، قبل أن تقدم لجنته لمجلس السلم والأمن الأفريقي تقريرها الشهير أواخر العام الماضي، تقرير جذبت الأنظار إليه مطالبته بتأسيس محاكم مختلطة من قضاة سودانيين وأفارقة، تتولى النظر في جرائم دارفور، كما دعا التقرير إلى خطوات أخرى أبرزها تأسيس مفوضية للحقيقة والعدالة والمصالحة، ولم يخل موقف الحكومة عقب التقرير من غموض، إذ اكتفت بالقول إن القوانين السارية لا تتيح تشكيل محاكم (هجين)، وبينما تبنى مجلس السلم توصيات لجنته بالإجماع، شكلت الخرطوم بدورها لجنة أخرى برئاسة علي عثمان محمد طه للنظر في التقرير. ما يفعله الرجل في السودان، أوما يريد فعله، حظى بترحيب حكومي يسهل على المتابع ملاحظته، تمت ترجمته عملياً إلى مجموعة تسهيلات واسعة أتاحت لأمبيكي ورفاقه من الرؤساء والمسئولين الأفارقة المتقاعدين التحرك في دارفور بحرية، ومقابلة الرئيس، وعدد كبير من الشخصيات داخل السودان، على الجانب الآخر، عبر بعض قادة الحركات المسلحة عن الشك في نوايا اللجنة، ومضى البعض لوصفها بأنها مصممة خصيصاً لمساعدة الخرطوم في احتواء قضية المحكمة الجنائية. أهمية ملف أمبيكي ولجنته بالنسبة للحكومة، جعلته يتجاوز الخارجية ليستقر داخل جدران القصر الجمهوري كما يؤكد مصدر مطلع، فأمبيكي، رئيس الفريق الأفريقي رفيع المستوى حسبما يتم توصيفه لدى الأوساط الممسكة بالملف، تصطاد الحكومة بإفساحها بعض المجال أمامه عصفورين بحجر لجنته، أولهما تقديم معالجات (إيجابية) لقضية دارفور(العدالة والسلام والمصالحة)، وفي ذات الوقت تحقق الحكومة عبر لجنة الحكماء هدف قطع الطريق أمام التدخلات الغربية السلبية غير المرغوب فيها من جانبها. أمبيكي، أضاف بعد تبني مجلس السلم والأمن الأفريقي لتقريره بنوداً أخرى لقائمة مهامه، فبعدما كان تفويضه يقتصر على قضية دارفور فحسب، وسعه مجلس السلم ليشمل حل مشكلة السودان برمتها، توسعة عبر عنها الرجل بنفسه عندما زار القاهرة في فبراير الماضي وصرح بأن أجندته باتت تتضمن تنفيذ اتفاقية نيفاشا، وإجراء الانتخابات، إلى جانب أجندته القديمة المتمثلة في حل أزمة دارفور. المحطة التالية في نشاط أمبيكي المتصاعد، كانت الخرطوم نفسها، عندما زارها في أبريل وأبدى بعض الملاحظات على الانتخابات، وامتدح اتجاه البشير لتشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة، وذكر بأن الاستفتاء يحتاج لاستعداد مبكر، قبل أن يواصل ممارسة صلاحيات تفويضه الجديد ويستفسر في الشهر التالي لجنة ترسيم الحدود عما تم تحقيقه بشأن رسم الحدود بين الجنوب والشمال، ويتوجه في الشهر التالي إلى نيويورك للقاء مجموعة السفراء الأفارقة لدى الأممالمتحدة وإطلاعهم على ما تفعله لجنته، قبل أن يعود إلى السودان ويشارك مطلع الشهر الحالي في مؤتمر الفاشر الذي دعت له بعثة اليونميد. خطاب الرجل الأخير أمام مجلس الأمن، الذي قدمه قبل شهر تقريباً بصحبة باسولي ومنكريوس وقمباري، يصفه مصدر دبلوماسي بالإيجابي، ولم يكتف أمبيكي بذلك، بل اضطلع لاحقاً بمهمة الرد على باقان أموم - الأمين العام للحركة الشعبية في محاضرة بواشنطن، عندما قال الأخير إن الحكومة عطلت الاستفتاء من خلال تلكؤها في إنشاء مفوضيته، فعقب أمبيكي بأن نواب الحركة في البرلمان كانوا الطرف الذي رفض اتفاق طه - مشار حول الاستفتاء ومفوضيته. رغم الحديث أعلاه الذي جعل رئيس لجنة الحكماء يبدو بالنسبة للبعض مقرباً أكثر مما ينبغي من الحكومة، إلا أن الرجل لا يخدم أجندة الخرطوم بقدر ما يخدم الأجندة المتعلقة بمهمته الخاصة، ويقول د.صفوت فانوس المحلل السياسي إن أسلوب أمبيكي الهادئ في دفع الحكومة لتقديم التنازلات أوحى للبعض بأنه يخدم أجندة الخرطوم، بينما يعمل رئيس لجنة الحكماء لتحقيق أجندته الخاصة في واقع الأمر، وهي دفع الحكومة لإجراء الاستفتاء وقبول نتائجه أياً كانت، وإيجاد وسيلة لإخراج المحكمة المختلطة بطريقة مقبولة لجميع الأطراف، لتصبح بديلاً عن المحكمة الجنائية، وتقديم ما يلزم لتحقيق السلام بدارفور. تمنح بعض الأوساط الحكومية أمبيكي علامة جيدة فيما يتعلق بأدائه ومدى نجاحه في لعب الدور المتوقع منه، على خلفية نجاحه في تعزيز الدور الأفريقي في السودان، ونجاحه في توجيه الاهتمام نحو قضية السلام ومنحها أولوية طفيفة على قضية العدالة، في المقابل، يرى آخرون أن توصيات تقرير لجنة الحكماء لا تزال حبراً على ورق، بلا تقدم يذكر، ويقول صفوت فانوس أن دور الرجل آخذ في الصعود على حساب دور الوسيط المشترك باسولي الذي أخذ في التراجع، ويضيف: (لا يمكن القول إنه نجح في مهمته، ولا يمكن القول إنه فشل، فالأزمة السودانية لا تزال تراوح مكانها). ما يفعله أمبيكي ولجنته قد يقترب من مصالح السودان أو يبتعد عنها، حسب الزاوية التي يقف فيها هذا الطرف أو ذاك، وبينما يؤكد البعض أن أجندة اللجنة أفريقية بالكامل، تهدف إلى حل الأزمات السودانية المتعددة لا غير، بعيداً عن الأغراض الخفية، يؤكد آخرون أن الرجل ولجنته، والاتحاد الأفريقي نفسه ليسوا سوى راقصين إقليميين على أنغام القوى الدولية الكبرى، التي ترسم المسار الاستراتيجي للأحداث، وتترك للاعبين الأصغر حجماً مهمة الاعتناء بالتفاصيل..!