تهدر دول العالم الثالث فى مرحلة مابعد الاستقلال سنوات طويلة من تاريخها للوصول الى درجة من الاستقرار تجعلها قادرة على الحركة والتفاعل للارتقاء بحياة شعوبها . ويقول الكاتب النيجيرى وولى سوينكا : (نكاد جميعا فى العالم الثالث أن نكون ضحايا وفى الوقت نفسه طغاة وظالمين ! .. فكل ضحية منا تتخصص فى صناعة الموت فى اليوم التالى للآخر ! فحروب الداخل هى الأقسى عادة وهى الأصعب لأنها تتم بين أطراف تعرف نقاط ضعف خصمها وتجعل كل شىء مستباحا) .» ! ويضيف : (ان قوة الأنظمة وبطشها يستر فى الوقت نفسه ضعف الحجة مما يزيد من التناقض واستمرار شلالات الدماء .!) فاذا كان اى جندى نظامى فى العالم الثالث يحلم بأن يهب فجرا للاستيلاء على السلطة فالتوازن المضاد يغرى كذلك شبابا للامساك بالبندقية والتمرد على السلطة وفق المعادلة الأزلية اذا كنت قادرا على فعل شىء فغيرك قادر عليه وان اختلفت الوسائل ..! والسؤال المهم لماذا ترسخت هذه القناعات فى العالم الثالث؟ هناك عدة اجتهادات : - اسلوب التعامل مع كل اختلاف :«ىنطلق من عدة خيارات : الغاء الآخر أو تحجيمه او القضاء عليه أو تجاهل وجوده او تطويقه او اخضاعه . «! هل تنطبق هذه الخيارات على التجربة السودانية ؟ هناك دراسات، خارج فضائنا السودانى ،اعتقد حيدتها وافضل مناقشتها : ان ضيق قاعدة الطبقة الحديثة فى السودان وارتكازها الجغرافى فى الخرطوم جعل طموحها السياسى يصطدم دائما بعقبة كؤود تتمثل فى سيطرة الأحزاب ذات القاعدة الطائفية على السلطة الديمقراطية مما عزز من قوة التوجهات الراديكالية المعادية للديمقراطية البرلمانية الغربية . وجعل قطاعا رئيسيا منها يفضل الانقلاب كمدخل للمشاركة فى الحكم مستبعدا المداخل الاطول مدى وأكثر عمقا ، كما حدث فى تجربتى الحزب الشيوعى , مايو 1969 ويوليو 1971 والجبهة الاسلامية القومية يونيو 1989 م. (الاستاذ علاء قاعود , مدير مركز دراسات حقوق الانسان - مصر - الفجر 1998م). - حصل السودان على استقلاله عن طريق المناورة السياسية على الطرفين مصر وبريطانيا . هذا أورث سياسيا نجاعة هذا الاسلوب الذى ترسخ فى التحالفات والتحالفات المضادة بين الاحزاب او مع قوى نافذة مسيطرة. (د. سيد فليفل - الفجر 1998م). - السودان بلد غنى بامكانياته المادية والبشرية انتهى بسبب المكابرة والطائفية الى ان وضع نفسه بين البلدان الاشد فقرا ويعتبر نموذجا صارخا لعدم الاستقرار المتوطن وضراوة النزعة الدوجماتية والخيلاء الانسانى فلماذا سقط السودان فى هذا الاضطراب فى حين انه بمقدوره ان يصبح بلدا متقدما ومزدهرا . ان السعى لخلق استقرار فى الشرق الاوسط يعنى ايضا الاهتمام باستقرار السودان. (ميشيل جوبير - وزير الخارجية والتجارة السابق الفرنسى- فى كتابه : (رؤيا عالمية للشرق الاوسط ). واذا نظرنا بموضوعية الى مسلسل الأزمات الدامية فى بلادنا منذ الرصاصة الاولى فى حرب الجنوب عام 1955 وما تبعها من اتساع المنازلات فى جنوب النيل الأزرق وجبال النوبة ثم دارفور نجد ان خيار التدمير الذاتى للذات يتصاعد وفقاً لهذا التراث الممهور بالدم وتسعره سعاراً جنونياً الرغبة المتقدة للانتقام، كلما سقط قتيل او انتهك عرض.ولا توجد حرب نظيفة فى تاريخ صراعات البشر ! والتدمير الذاتى شمل ايضا أحزاب المدى التاريخى فدمرت أروع نماذج تحالفها بعد تجربة مؤتمر الخريجين فى الاربعينيات لتنسف تحالفها فى التجمع الوطنى الديمقراطى , وميثاقه فى التسعينيات الذى قدم افضل الحلول لتثبيت وحدة السودان كما أشرنا فى المقال السابق . «انفجرت كل فصائل التجمع بالخلافات الداخلية والصراعات والانقسامات . حزب الامة تحول الى كتل فى امدرمان و لندن والقاهرة ونيويورك . انقسام عمودى فى الاتحادى الديمقراطى بخروج اهم مكوناته -جناح الشريف- ثم الأزهرى . القيادة الشرعية انقسم عنها التحالف الوطنى بقيادة عبد العزيز خالد . الحزب الشيوعى انقسم الى حق والمنبر الديمقراطى ، وكذلك مؤتمر البجا والحزب القومى والاتحاد الفيدرالى . « والنتيجة ترسيخ مبدأ التحالفات المضادة والمناورات ونقض العهود والمواثيق ، وانسداد افق الممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب نفسها . ظلت الحركة الشعبية لتحرير السودان، والمؤتمر الوطنى القوتين الرئيسيتين على مسرح السياسة السودانية. ويئست القوى الاقليمية والدولية من استمرار الازمة السودانية وتصاعد تكلفتها بشرا واموالا بمعدل (650 ) مليون دولار سنويا . وبالرغم من نقل (116) ألف طن من الاغذية عام 1998 الا ان الاممالمتحدة كانت بحاجة الى المزيد من المال لتمويل نقل السكر والحبوب . وشاركت عشرون دولة اوروبية وآسيوية اضافة الى امريكا ومصر والاممالمتحدة والمفوضية الاوروبية و كينيا كمراقب فى اجتماعات حاسمة طوال عامين وهددت بالغاء معونة الدول المانحة للاغاثة اذا لم تتوصل الحركة الشعبية والحكومة السودانية الى اتفاق . وتم توقيع بروتوكول ماشاوكس واتفاقية نيفاشا 2003م 2005-م و اصبحت احزاب المدى التاريخى خارج عوامل التأثير على مجريات السياسة السودانية . واستطاع حزب المؤتمر الوطنى نهش ما تبقى من قواعدها المحبطة ! وتعاملت معها الحركة الشعبية بحذر وفقا لاجندتها وبرامجها المرحلية ..وفى المقابل ادى انهيار التجمع الى تمتين الانتماءات الجهوية والاقليمية وتنظيمها فى حركات مسلحة . فالقبيلة او المذهب الدينى هما دائما بمثابة ( الجلد للانسان ) آخر الملاذات للدفاع عن النفس! ومكنت اتفاقية نيفاشا المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية لترسيخ برامجهما السياسية فى الشمال والجنوب . وكان رهان القوى الدولية الضامنة لبروتوكول مشاكوس واتفاقية نيفاشا ان المعادلة الجديدة ستضمن التوازن داخليا وخارجيا فى توجهات الحكومة السودانية خاصة بعد المفاصلة التاريخية وخروج الدكتور حسن الترابى من سدة الحكم في العام 1999 م وهو انجاز لم يكن متوقعا كما أشرنا فى المقال السابق .ومن الغباء ان يظن أحد بأن السياسة الدولية مبنية على معايير اخلاقية مجردة، وانما على مصالح دائمة تتنوع وفقاً للمتغيرات والضرورات الاقليمية والدولية , لا عداوة دائمة ولا صداقة مستمرة الا من خلال ترسيخ هذه المصالح . والمصطلحات تتغير فالمفاهيم القديمة عن السيادة الوطنية وعدم التدخل فى شئون الغير او عدم الانحياز، اصبحت لها دلالات حديثة مشروطة بنظام دولى جديد و بمقاييس مقننة ومرتبطة بمواجهة الارهاب العابر للحدود , بعد زلزال الحادى عشر من سبتمبر 2001م. واصبحت قضايا حقوق الانسان مرادفة لسيادة الدول وليست شأنا داخليا. ولم تعد أهمية الدول تبنى من منطلق اطماع فى ثرواتها وانما لاهمية موقعها الاستراتيجى ومداها الحيوى ومشاريعها السياسية ومدى تأثيرها فى فضائها الداخلى بمكوناته الاثنية و الاجتماعية والفكرية المختلفة وامتداده الى دول الجوار ومابعدها ! وأصبح الدكتور الترابى بعد خروجه من السلطة وتأسيسه للمؤتمر الشعبى يشكل العامل الاكبر لتمسك المؤتمر الوطنى بالمنطلقات الفكرية المتجسدة فى - المشروع الحضارى- والتى استند إليها لقيام الدولة قبل المفاصلة وهى معادلة جعل الدكتور الترابى من المستحيل لأحد ان يتجاوزها وهى أشبه بنظرية» بافلوف « فى الفعل ورد الفعل :» ان تجعل خصمك يعمل لمصلحتك وهو مؤمن انه يمارس أقدس واجباته الوطنية ويحقق مصلحته السياسية والقومية .» ! اعاد الدكتور الترابى بعد المفاصلة تقديم نفسه بانه المجدد والبديل والوسطية السياسية والفقهية الضامنة لوحدة السودان فى الجنوب والغرب وفى صياغة فكر اسلامى سياسى عالمى متجدد ! وتحرك فى كل الاتجاهات . كاريزما الدكتور الترابى وقدراته على التأثير لا تحتاج الى تأكيد . كان الدكتور خليل ابراهيم زعيم العدل والمساواة فى بعثة دراسية فى هولندا عام 1999م وحدثت المفاصلة فى غيابه، وبعد عودته «فوجىء بانقسام الاسلاميين و اعتقال الترابى وقيل له ان الخيار كان بين الحفاظ على الدولة أو الابقاء على الدكتور وكان رأيه :ان الدولة صنعها الترابى فمن الواجب الابقاء عليه واستمراره مرشدا لها .. « ! هل كان د. خليل ابراهيم أبعد نظرا من رفاقه فى الحركة الاسلامية أم غرر به . ؟ نواصل فى لقاء قادم