بمنديل ناصع البياض، مسح البروفيسور ابراهيم غندور أمين العلاقات السياسية بالمؤتمر الوطني الدموع التي إنسربت من عينيه يوم الثلاثاء الماضي على نحوٍ مباغت أثناء حديثه العاطفي عن الوحدة. غير أنه فشل في مقابل ذلك، في وقف سيل الكثير من التساؤلات التي دارت في فضاء تلك الدموع النادر ذرفها في قضايا سياسية. .... الكثيرون إنقسموا في تكييف تلك الدموع بإختلاف الزوايا التي نظروا منها إلى وجه غندور. فهم إما متعاطفون معها بشدة، أو مشككون في صدقيتها كذلك، ولم يكن هناك مجال للرمادية بينهما. وهو ما جعل هناك حاجة لمعرفة مبعث تلك الدموع المفاجئة التي أعقبها إجهاش بالبكاء إقتسمه معه بعض أعضاء اللجنة المركزية لإتحاد نقابات عمال السودان الذي يرأسه، فيما آثر آخرون من ذات الإتحاد، أن ينخرطوا في موجة من التصفيق. السؤال الذي ألححت في طرحه على غندور ولا إجابة كان بإختزال: ما الذي أبكاك تحديداً ؟. فيما أرجأت أخرى، لحين إيفاء بوعد لم يتم كان قد قطعه بالحديث معي في ذات الموضوع الذي أضحى مادة دسمة في مجالس المدينة ونقاشات المهتمين. ومن تلك الأسئلة: (هل تلك دموع إستباقية لما يمكن أن تسفر عنه نتائج الإستفتاء؟ أكان سبب البكاء شعوراً تبلور لديه بأن مجريات الأوضاع بالبلاد وصلت إلى مرحلة اللا وحدة؟ أم لإدراكه بحكم موقعه كأمين للعلاقات السياسية بالمؤتمر الوطني، أن حزبه يتحمل الوزر الأكبر في حال الإنفصال؟ أم أن بكاءه كان من ذلك النوع الذي يكون على اللبن المسكوب، أو بالأحرى، الوحدة المسكوبة؟). ولمن فاتهم الإطلاع، تعود القصة إلى أن البروفيسور أبراهيم غندور، وأثناء حديثه صبيحة الثلاثاء الماضي بصالة المعلم أمام حشود كبيرة في فاتحة إجتماعات اللجنة المركزية للنقابة، كان يتحدث عن أهمية العمل من أجل تحقيق الوحدة والوعى بالمؤمرات التي تستهدف تقسيم البلاد. ثم قال إن التاريخ لن يرحمنا إذا انفصل السودان، ولن يرحم من يقف على الرصيف.. ثم أجهش غندور بالبكاء. بعدها، تبعه حتى سيارته العديد من أفراد اللجنة المركزية في أجواء مشحونة بالعاطفة والخوف على وحدة البلاد فيما يبدو، كان ذلك وسط ذهول قيادات النقابات التي شاركت وقتها في ذلك اللقاء من ثماني دول عربية وإنطلقت منه دعوة للوحدة النقابية على الصعيد العالمي في الوقت الذي تواجه فيه وحدتها على الصعيد الداخلي، بتحديات تحمل على البكاء. دموع البروف يرها بعض المتحاملين عليه، ضرباً من دموع التماسيح التي تذرف من أجل آبار البترول المتوقع فقدانها في حال الإنفصال، وبمعنى أدق، هي دموع مصنوعة بعناية فائقة لإصابة هدف سياسي واضح.. هدف برع المختصون في صناعة الصور الذهنية من دهاقنة العلاقات العامة وعلماء النفس في إصابته بهندسة مثل تلك الصور الباكية لإحداث تأثير ما أو إصابة هدف معين بعد أن تنطلى على الجميع خدعة الدموع. وفي هذا السياق، يذكر الجميع قصة أوردتها هذه الصحيفة في إتجاه غير بعيد كان لها أثر كبير في تغيير الاتجاهات والتأثير، عندما تحدثت ابنة السفير الكويتي في الأممالمتحدة عقب العدوان العراقي على بلدها في العام 1991م، عن نزع جنود عراقيين لكمامات أوكسجين من أطفال مرضى في الكويت، ومثل ذلك من الحديث الباكي الذي أثر في تغيير اتجاهات مجلس الأمن، فاصدر قراره ضد العراق بموجب الفصل السابع قبل ان يتضح فيما بعد، ان ابنة السفير دربت على البكاء من قبل شركة علاقات عامة امريكية من أجل القيام بمهمتها التأثيرية. لكن ذلك الضرب من المكر، وإن عُرف في الغرب، فإنه غير معروف أوغير وارد في حالة غندور حسب رأي د. محمد محجوب هارون أستاذ علم النفس السياسي بجامعة الخرطوم. ورغم حديثه عن أن السياسة هي في الأساس فعل مجرد عن العاطفة، وأن السياسيين لا يذرفون دموعهم على مرأى من الناس إلا نادراً، إلا أن د. محمد محجوب رجح أن تكون دموع البروف قد ذرفت عن صدق ربما كان مرده إستشعاره - أثناء حديثه عن أهمية- الوحدة لعِظم المسؤولية الملقاة على حزبه الذي وقع على أول مخطوطة توافق على مبدأ تقرير المصير. أو ربما إستشعر لحظة بكائه، بعض التحديات سيما وأنه من قيادات الصف الأول في المؤتمر الوطني. وبعيداً عن ذلك ربما إستدعى غندور ذكريات خاصة مع بعض الجنوبيين الذين يتداخلون مع أهله في بحر أبيض بشكل حميم، كما أن لديه صداقات مع الكثير منهم في الحزب وإتحاد النقابات، وفي جامعة الخرطوم أساتذة وطلاب، وفي خارج البلاد حيث يسافر البروف كثيراً. وقريباً من ذلك، أذكر أن الأستاذ فاروق أبو عيسى قال لي مرة: «إن الدموع الغالية لا تذرف إلاّ لمن يستحقها من الناس أو الاحداث. واضاف: إن الذي يبكي هو السياسي الانسان المرتبط بقضايا وطنه وبمن يعملون معه في ميدان السياسة، فعندما يفتقد أحدهم، او يفقد واحداً من الاهداف التي كان ينادي من أجلها فإنه يبكي. أما السياسي التاجر، الذي يتعامل مع السياسة بمفهوم الربح والخسارة، فإنه لا يبكي ولا يعرف الدموع». وعوداً على بدء، فإن بعض من تحدثت إليهم من الزملاء الصحفيين الذين حضروا ذلك اللقاء، وإن شئت الدقة ذلك البكاء، عزوه إلى التجاوب الكبير من الحضور مع غندور، تجاوب ظل آخذاً في إزديادٍ مستمر بصورة كان منطقياً معها أن ينتهي إما إلى البكاء، إو إلى شئ قريب منه، وقطعوا بأن بكاء غندور ترك حينها شعوراً إيجابياً وأكسبه تعاطفاً كبيراً من الحضور. وعن هكذا تعاطف، يرى د. خالد الكردي أستاذ علم النفس بجامعة النيلين، إن بكاء السياسيين المتسق مع الموقف، خاصة إذا كان في شأن انساني او وطني، يترك شعوراً ايجابياً تجاه السياسي الباكي، حيث يسهم في تغيير مفاهيم الجماهير بشأنه، وينظرون إليه كشخص مهموم ومرتبط بقضايا أهله ووطنه. وقال ل «الرأي العام» رغم أن من مميزات القادة السياسيين كتمان البكاء، إلاّ إن السياسيين السودانيين لديهم شحنات انفعالية قوية يتفاوتون في السيطرة عليها، من سياسي إلى آخر. ومهما يكن من أمر، فإن البعض يذهب إلى أن البروفيسور إبراهيم غندور الذي بكى مؤخراً، ليس في وضعية قيادية في الحزب تجعله مسؤولاً مسؤولية مباشرة عن نتيجة الإستفتاء كمهندسي الإتفاقية في المؤتمر الوطني. فهو كان بعيداً فيما يبدو عن ملف السلام، وإتفاقيته التي أوقفت الحرب ولكنها جاءت بحق تقرير المصير.. ذات الحق الذي وافقت عليه قوى التجمع الوطني الديمقراطي منتصف التسعينيات في أسمرا، وهو الأمر الذي يجعل الكثيرين في حال جاءت النتيجة لغير وحدة البلاد، ينخرطون في بكاء سياسي مرير على غرار ما فعل غندور.