كلفت بمهمة شاقة تمثلت في إدارة ندوة سياسية عاصفة عقدت في العاصمة السياسية الهولندية لاهاي حول جدلية الوحدة والانفصال تحدث فيها كل من معالي الدكتور «لوكا بيونق» وزير شؤون مجلس الوزراء وعقب عليها سعادة سفير السودان لدى هولندا «سراج الدين حامد»، وقد أم الندوة لفيف من أعضاء الجالية السودانية بهولندا وبعض الأجانب المهتمين بالشأن السوداني. سأحاول في هذه السانحة تسليط الضوء على بعض أهم أحداث تلك الليلة التي شهدت مستوى حاداً من الاستقطاب جعلت من الصعب علىّ السيطرة عليها إلا بصرامة وفي بعض الأحيان دكتاتورية كانت في ظني ضرورية لحفظ النظام، فقد ظهرت بوادر ذلك الاستقطاب قبل بدء انعقاد الندوة، حيث عبر بعض أبناء الحركة الشعبية عن عدم رضاهم عن الموقع الذي اختارته السفارة لعقد الندوة في منطقة شبه صناعية، وعكست قمة ذلك الاستقطاب طريقة جلوس الحاضرين حيث اصطف أبناء الشمال في جانب من القاعة وأبناء الجنوب في الجانب الآخر بينما بدت على أبناء جبال النوبة الحيرة فجلسوا مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، بينما قاطع أبناء دارفور الندوة. إبتدر معالي الوزير كلمته بفذلكة تاريخية لتطورات مشكلة الجنوب ثم دلف إلى تطورات الوضع السياسي الراهن في السودان وسيناريوهات ما بعد الاستفتاء، وشدد على أهمية إجراء الاستفتاء في موعده بغض النظر عن ترسيم الحدود من عدمه، وأكد خلال كلمته على أهمية السلام بين الشمال والجنوب في مرحلة ما بعد الاستفتاء، وأمّن على أهمية دور الشمال في تطوير الجنوب في حالة الانفصال خاصة القطاع الخاص في ظل قرب التجار الشماليين الثقافي واللغوي للجنوبيين مقارنة بنظرائهم القادمين من كينيا وأوغندا، كما نوه لأهمية دور مناطق التمازج القبلي في حفظ السلام بصفتها جسر وصمام أمان للسلام الاجتماعي، وأشاد بالدور المهم الذي يلعبه حالياً نائب الرئيس السوداني «علي عثمان طه» في تمتين التواصل بين الشمال والجنوب عبر تنفيذ مشاريع استراتيجية وحيوية، وأكد أهمية إيجاد آليات لضمان حقوق الجنسية والمواطنة للجنوبيين المقيمين في الشمال ونظرائهم الشماليين المقيمين في الجنوب، وتوقع أن تكون الأعوام العشرة الأولى بعد الانفصال - في حالة حدوثه- صعبة على الجنوب بالرغم من وجود خطط محددة لحكومة الجنوب وذلك لافتقار الجنوب للبنية التحتية القوية وقلة الخبرة. أكد سعادة السفير في تعقيبه على كلمة الوزير التزام المؤتمر الوطني بتنفيذ الاتفاقية واحترام نتيجة الاستفتاء مهما كانت، وشدد على أهمية السلام بين الشمال والجنوب في حالة حدوث الانفصال، وأكد أن ثمن السلام كان غاليا حيث وافقت الحكومة على منح الجنوب حق تقرير المصير، وشدد على أن من مصلحة الشمال وجود دولة جوار قوية في الجنوب قادرة على ضبط الأمن والحدود، وعبر عن وجود قلق ومخاوف مشروعة في الشمال من أن يصبح الجنوب مصدراً لزعزعة الأمن في الشمال في ظل وجود خميرة عكننة بين مكوناته وبوادر تمرد داخلي وصراع قبلي. وشدد على أهمية تحمل الجنوب لمسؤولياته كاملة في حالة قرر الانفصال، وحذر من أن كل من يشارك من الجنوبيين المقيمين في الشمال في الاستفتاء يجب عليهم مغادرة الشمال في حالة الانفصال وأستدل بالمثل الشعبي (البرقص ما بخجل وما بدس دقنو). أحدث التحذير الذي أطلقه سعادة السفير ردة فعل عنيفة بين أعضاء الحركة الشعبية الحاضرين، حيث ارتفعت درجة حرارة القاعة بالرغم من الجو الهولندي البارد، فطالبت إحدى المشاركات السفير بتقديم اعتذار لما فهمته من أنه يقصد بأن الجنوب غير قادر على تحمل مسؤولياته في حال الانفصال بصفته قاصراً وفي حاجة لمساعدة الشمال الذي يرغب في لعب دور الأم الرءوم، ووصلت قمة تراجيدياً الصراع عند اتهام ممثل حكومة الجنوب لدى الإتحاد الأوروبي لسعادة السفير باستخدام لغة غير دبلوماسية في الندوة. وقد نجح السفير في نزع فتيل الاحتقان وعتب على ممثل حكومة الجنوب لعدم لباقته ووصفه له بالافتقار للدبلوماسية، وأكد له أنه يكفيه فخراً أنه نجح كأول دبلوماسي في جمع الرئيس السوداني«عمر البشير» والراحل «جون قرنق» في لقاء جمعهما في كمبالا قبل إتفاق مشاكوس الذي وضع حجر الأساس لاتفاقية السلام الشامل. ومن ناحيته أكد د/ «لوكا بيونق» أهمية مثل هذه اللقاءات لتفريغ ما في الصدور من حمم بركانية والتنفيس عنها، وشدد على أهمية المحافظة على الصلات الاجتماعية بين أعضاء الجالية شماليين وجنوبيين في حال الانفصال وذلك بصفتهم سودانيين وسيبقون سودانيين، كما أكد أهمية التفاف الجالية حول السفارة لدعمها في المهمة المنوطة بها، وأكد أهمية دور أبناء الجالية السودانية بصفتهم هولنديين جدداً في دعم السودان بخبراتهم التي اكتسبوها خلال وجودهم في هولندا وذلك حتى يصبح السودان دولة جاذبة تغريهم على العودة والاستقرار فيه. انفضت الندوة الصاخبة وذهب كل في طريق (كما تقول أم كلثوم) وذلك بعد تدخل مدير القاعة الهولندي الجنسية الذي أعلن انتهاء الوقت المحدد للمعركة آسف الندوة)، وبالرغم من نجاح الندوة من الناحية النظرية فقد صب بعض أصدقائي جام غضبهم علىّ لعدم إعطائهم فرصة للنقاش، فرددت عليهم ضاحكا بأنني سمعت حكمة بليغة من أحد حكام مباريات كرة القدم بعد انتقاد بعض المشجعين لأدائه في مباراة مصيرية خسروها، حيث سألهم: (هل سبق ورأيتم حكم مباراة تحمله الجماهير على الأكتاف بعد انتهائها). * لاهاي