تعامل المسؤولون والمستثمرون مع القطاع المطري بالسودان في السنوات الماضية بنظرة قاصرة وغير استراتيجية وهم يتجهون لاستغلال موارده الزراعية الكبيرة، عندما اتاحت لهم الثروة الصناعية توظيف مستجدات العلوم الزراعية الحديثة من آليات زراعية وثقافات زراعية متطورة بديلة لتلك التي كان يستخدمها صغار المنتجين في زراعة مساحات صغيرة تكفي لاحتياجاتهم المحدودة عن طريق ما عرف بزراعة الحريق وباساليب انتاجهم التقليدي فيما سبق فترة دخول الزراعة الآلية المطرية بالسودان في منتصف عقد الاربعينيات من القرن العشرين كحاجة ملحة فرضتها ظروف الحرب العالمية الثانية لتوفير الغذاء لجيوش الحلفاء التي كانت تحارب في اثيوبيا واريتريا من جانب ولتوفير فرص عمالة للجنود المسرحين من تلك الجيوش. لقد كان السودان ضمن الاقطار التي رصدتها القوى العالمية كاحد الاقطار ذات الامكانات الزراعية الكبيرة في ظل مستجدات الثورة الصناعية التي استقطبت العمالة من القطاع الزراعي مع تنامي الحاجة للغذاء، وكانت الحرب العالمية الثانية هي اللحظات المناسبة بالنسبة للسلطات الاستثمارية التي كانت تحكم البلاد لادخال الزراعة الآلية المطرية في السهول الطينية الوسطى من البلاد، وشكلت بذلك البدايات لمرحلة جديدة من تطور الزراعة بالقطاع المطري بالسودان، كان من المؤمل ان تتسارع خطوات تطور الزراعة المطرية بالسودان منذ ذلك الحين إلاّ أن الظروف سارت في القطاع المطري بغير ما كان متوقعاً من تطوير وتحديث للزراعة المطرية لاسباب متعلقة بطبيعة وخصوصية الزراعة المطرية ومشاكلها من جانب وغياب استراتيجية كلية لتحديث وتطوير الزراعة المطرية وتقديرات وفهم خاص للمسؤولين بالبلاد وفق ظروف ذلك الزمان فيما ينبغي عليه الوضع في القطاع المطري بالسودان. كانت الثنائية في التعامل مع القطاع المطري بين القطاع الآلي المطري وبين القطاع التقليدي المطري، حيث كان التركيز في اتجاه تطوير الزراعة الآلية المطرية مؤجلين لتوجيه الاستثمارات التنموية في القطاع التقليدي المطري باعتبار محدودية الموارد المالية المتاحة للدولة لتغطية احتياجات القطاع المطري كله. لم يكن في ذلك الاتجاه في تقديري الخاص أية شبهة لتفضيل فئة دون آخرى كما يظن بعض ابناء مناطق الزراعة التقليدية وانما كان ذلك خياراً بين خيارات اخرى متاحة لديهم لاعتماد الخيار الاقتصادي الأكثر حظاً في العائدات في وقت لم تتبلور لدى هؤلاء الجوانب الاجتماعية لأهمية توزيع مشروعات التنمية بالقدر الذي حدث مع مرور الزمن. كان خيار المسؤولين آنذاك خياراً اقتصادياً بحتاً مستندين على الآتي: 1/ ان القطاع الآلي المطري بحكم شروط اختيار منتسبيه من المنتجين من الذين تتوافر لديهم بعض الامكانات المالية التي ستوفر على الدولة بعض أعباء تكاليف انشاء مشروعات القطاع الآلي المطري من جانب وان هؤلاء المختارين للحصول على مشاريع آلية مطرية هم أكثر وعياً وادراكاً بأهمية تحديث الزراعة المطرية وعلى استعداد لتبني الاساليب الحديثة وقبول ثقافات زراعية حديثة لزيادة الانتاج الزراعي، ومن ثم توفر عائدات اقتصادية كبيرة ومجزية تمكن الدولة من قاعدة توسيع قاعدة المشروعات التنموية لتغطية القطاعات الأخرى وعلى رأسها القطاع التقليدي المطري. 2/ الخيار الاقتصادي المباشر وليس الخيار الاجتماعي كان هو العنصر الغالب في الاختيار في ذلك الوقت، في فترة لاحقة شعر المسؤولون عن التنمية الزراعية بأهمية التوجه للقطاع المطري التقليدي لتحديثه وتطويره وشكلت الخطة العشرية (61/60 - 71/70) البدايات الجادة في ذلك الاتجاه، إلاّ أن الخطط الخمسية في العيد المايوي شهدت العديد من مشروعات التنمية في القطاع المطري التقليدي من خلال الخطط الاقتصادية والاجتماعية. وفي هذا الاطار نشير الى مشروعات التنمية الريفية المتكاملة في مشروع جبل مرة، ومشروع غرب السا?نا بدارفور، ومشروع تحديث الزراعة التقليدية بمؤسسة جبال النوبة الزراعية ومشروع النهود للائتمان الزراعي ومشروعات المناطق المختارة في عدد من مناطق الزراعة المطرية التقليدية بالبلاد ومشروعات درء آثار الجفاف والتصحر بعدد من مناطق الزراعة المطرية التقليدية بالبلاد، والمشروع الأمريكي للتنمية الريفية المتكاملة بجنوب النيل الأزرق، ومشاريع التنمية الريفية المتكاملة لكل من جنوبكسلاوجنوب كردفان.. الخ، الوقت الحالي يشهد العديد من هذه المشروعات التنموية في القطاع التقليدي المطري كسياسة عامة لتعويض بعض تلك المناطق، مافاتها من فرص التنمية وفي محاولة للتوزيع العادل لمشروعات التنمية في كل ارجاء الوطن وهي السياسة المعتمدة الآن لا بد من الاشارة هنا بأنه وبرغم المساعي الجارية لانشاء العديد من مشروعات التنمية الريفية في مناطق الزراعة المطرية التقليدية إلاّ أن الفارق ما بين الاحتياجات وما هومطلوب من المشروعات مازال كبيراً وذلك لكبر المساحات المطلوبه تغطيتها.. وفي كل الأحوال تقف محدودية الموارد المالية المتاحة حائلاً دون الطموحات. الثنائية في التعامل مع القطاع المطري بالسودان كان في تقديري عنصراً اساسياً في تخلف اداء القطاع المطري بشقيه الآلى المطري والتقليدي المطري وكانت النزاعات التي كانت تحدث بين القطاع الآلى المطري من جانب والقطاعات الزراعية الاخرى في القطاع المطري وعلى رأسها القطاع التقليدي المطري وكلها تستهدف الحصول على أكبر مساحة ممكنة من القطاع للتمدد فيها سبباً مباشراً في ضعف الاداء الكلي للقطاع المطري وضعف استغلال موارده الزراعية الكبيرة بل وتدهور الاوضاع فيها. والأمر هكذا فان اعادة هيكلة القطاع المطري وترتيب وتنظيم اوضاعه يأتي في مقدمة الخطوات اللازمة لتصحيح مساره. ومن هذا المنطلق تأتي دعوتي لتكامل العمل بين كل القطاعات الزراعية الفرعية بالقطاع المطري من خلال انشاء جهاز قومي للزراعة المطرية بالسودان على ان يشمل هذا الجهاز القومي في بدايته قطاعي الزراعة الآلية المطرية والزراعة التقليدية، وفي مرحلة لاحقة ينظر في امر الحاق بقية القطاعات الزراعية الاخرى في القطاع المطري. ينبغي ان تكون أهم مسؤوليات هذا الجهاز القومي للزراعة المطرية الاشراف الفني والاداري على القطاع المطري وحسن استغلال وتوظيف موارده الزراعية وحمايتها من التدهور، واستدامة عطائها وادارتها وفق نظم زراعية حديثة ومتطورة. يستوجب هذا الأمر ارادة سياسة فاعلة ورعاية واهتمام هذا القطاع المطري بكل موارده الزاخرة وبفهم خاص بخصوصيته المتفردة وبمستحقاته من معينات التنمية والتطوير مع اعطاء العيش لخبازه وأهل مكة ادرى بشعابها، ولتكن تجاربنا مع هذا القطاع عبر الزمان دروساً مستفادة في بناء وارساء قاعدة صلبة ننطلق منها كنشاط زراعي مسؤول في قطاعنا المطري بالبلاد، ذلك هو التحدي الماثل أمامنا نسأل الله العلي القدير ان يعيننا في تحقيقه. والله من وراء القصد ? مهندس زراعي بالمعاش