الكلام على الشعر العربي الحديث يفترض وجود ظاهرة درجنا على تسميتها «الحداثة».. وتجربة الحداثة بداية زمان جديد لا قواعد فيه تخضع لسلطانها. كل قصيدة جديدة أبداع جديد، فالتبدل هنا أساس: تبدل في الأساليب وطرق التعبير والتفكير. لا قاعدة غير التحولات. ماذا ننتظر منها إذن؟ كل غريب وغير مألوف، فالحداثة مفاجأة تبهرنا برونق جديد.. بحركة لا تعرف الثبات.. حدودها خارج كل الحدود، ومساحتها خارج كل المساحات، وتجربتها وسع المدى. الحداثة توتر يؤرقه الآتي، فتغنى: «أنا سيده. ترسم الملامح، والمستقبل نصب عينيها. إن تمردت على الماضي، فلأن المستقبل يشدها نحوه. إن حطمت التقاليد، فلأن حلم الإبداع الآتي يجذبها إليه. إن قلعت التافه من التراث، فلأنها تزرع نصب إبداع. الحداثة ثورة في تاريخ العرب بدلت من طبيعة الابداع الشعري، فازدهرت تجربتها في أوطان عربية قليلة نعمت بالحرية، وبدأت تجارب جديدة، إلا أن الخطر الذي ظل يهدد الشعر في هذه الأوطان هو اعتباره هامشياً، سطحياً، وأنه يأتي من باب التسلية لا في رأس سلم الأولويات. هكذا حورب الشعر الحديث، بإهماله. الحداثة موقف من الوجود لا يغطي العيوب وأنما يكشفها، لا يقنع التقصير بالنجاح والهزيمة بالنصر، والخيبة بالأمل، والخواء بالامتلاء. عبر رواد الحداثة عن هذا الموقف الشجاع وهم يعانون تجربة الانقطاع عن التراث والانفصال عن السلفية، متحدين الأشكال الشعرية القديمة، فابتكروا تفاعيل جديدة، غير الخليلية. ومن بعد الرواد جاء شعراء دفنوا الشكل القديم تماماً ورفعوا أشكالاً لا تتكرر أبداً. خرجوا عن قيود الأوزان والقوافي. فلم يعد وزن الشعر خارجياً عامود القصيدة وإنما وزنه داخلياً. ترابط كلماته يعطيه موسيقاه.. في الماضي لو كسر الوزن الخارجي كُسرت القصيدة، كُسر الكمال، وغاب الجمال. اليوم لا يكسر الشعر شكلاً ولا وزناً. القراءة هي وحدها عامود الشعر، فهي التي تنصب النص ملكاً أو تلقى به جسداً بلا روح. مع نزول الحداثة بدأ الشعر يتخلص من الاستعارات الفارغة والكنايات السخيفة. صار أكثر نقاء وأبهى صورة. النص الشعري اليوم مفتوح أمام تفاسير جديدة مع كل قراءة جديدة. هذا لم نعرفه من قبل في تاريخ الشعر العربي. كلمات القصيدة كانت مفردات المعجم. اليوم هي نبضات التجربة الحية. الشاعر الحديث يسمو باللفظة إلى بهاء الشعر. هذا هو السر الذي يحملنا دائماً على ترديد مقولة الشاعر الساحر. ساحر يأخذ تجربة من مجرى الأحداث والتاريخ. فوق الزمان. الشعر زمان فوق الزمان. ذاكرة الزمان السرية. يومياته الخفية، مفكرته الحميمية. وتأتي الكلمات والصور والقوالب لتسكب المسموع والمرئي في قصيدة تكون صورة للتجربة، تكشف أحياناً عن جوانب من الوجود بما تقوله، وتكشف أحياناً عن جوانب أخرى بما لم تقله، وكثيراً ما يكون الذي صمت عنه الشاعر أعمق مما قاله، لذا ربما أعترى الشعر الحديث بعض الغموض. الغموض يعني أن لا تفسيراً واحداً ونهائياً. فالحداثة ضد الوضوح الذي لا يكشف عن جديد. أما لماذا يصعب علينا أحياناً فهم الشعر الحديث، فباختصار لأننا مقصرون في الشأن الثقافي، في الماضي كنا ندرس الشعر لنتثقف. اليوم نعجز عن فهمه إن لم نكن مثقفين قبل قراءته. في النص الحديث تركيب خفي وحركة سرية متواصلة لمجموعة كلمات تترابط في القصيدة الواحدة. وبالتالي لا نستطيع ان نقرأ شاعراً تراثياً بالطريقة نفسها التي نقرأ بها شاعراً حديثاً. قراءة الشعر الحديث مشاركة في إبداعه، ولتقصيرنا الرهيب في الشأن الثقافي لم نتوصل بعد إلى القراءة التي تستحقها قصائد حديثة كثيرة. هل الحداثة مدرسة شعرية جديدة نؤرخ لها؟ المدارس الشعرية تكون عادة ردات فعل في وجه المدارس القائمة، كما الرومانطيقية ردة فعل في وجه الكلاسيكية، مثلاً، وتظل المدرسة قائمة حتى تأتي مدرسة أخرى تتحداها لتقيم قواعد جديدة للإبداع. لهذا لا نستطيع ان نؤرخ للحداثة، فهي، وإن بدأت في زمان، مثلها مثل مركزة الدائرة. كل تجربة شعرية جديدة شعاع جديد يطلع من المركز. مع كل عمل شعري جديد تبدأ الحداثة من جديد. الحداثة تجربة دائمة البدء، لا تنتهي. الثورة الشعرية التي ولدتها الحداثة خلقت تراثاً جديداً نسميه «تراث الحداثة». هذا التراث أصيل، دائم الحضور. أنجرؤ على التنبؤ باتجاه الحداثة؟ لا نستطيع القول أكثر من أنه شريط من المفاجآت. والمفاجآت تعني الضرب على أوتار جديدة أبداً. كل ما يتكرر أو يعاد، مصيره الإهمال والموت. إذن، ماذا يبقى من احتمالات؟ سباحة عكس التيار؟ لا، فالسباحة عكس التيار مصيرها التكرار. الاحتمال الوحيد ان تبقى الحداثة متيقظة لالتقاط المفاجأة المستمرة في التجربة الانسانية الشاملة، وصياغتها في لغة جديدة تواكب العصر. بها نحفظ التراث وبها ننقطع عنه. بها نخرج من الفردوس لتمردنا، و بها نستعيد بهاءه لحريتنا. «المكسيك».