من المفارقات أو الإشراقات التي يقف عندها المهتمون بتاريخ الحركة السياسية المعاصرة تلك الزيارة التي قام بها الفريق عبود عندما كان رئيساً للسودان للولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في جولة واحدة أي «طارجوز» فإذا أخذنا تاريخ الزيارة في الاعتبار وهو النصف الأول من ستينيات القرن المنصرم يمكن أن نصف الزيارة بأنها «مبالغة عديل كده» لأنها جمعت بين القطبين الدوليين المتنافرين ولكن عبود استفاد من قوة وزخم حركة عدم الانحياز وقد عاد من تلك الزيارة بمكاسب كثيرة ويقال -والعهدة على الراوي- إن الرئيس الأمريكي جون كنيدي انفرد بعبود وقال له إننا على استعداد أن نجعل السودان مثل كوريا الجنوبية شريطة أن تصبحوا لنا شوكة في خاصرة عبدالناصر كما بقيت كوريا الجنوبية شوكة في خاصرة كيم إيل سونغ وعندما استشار عبود وفده رفض أحمد خير وزير الخارجية بشدة وقال إن على السودان أن يتمسك بمبدأ عدم الانحياز وأحمد خير عندي من أكثر الخريجين استنارة ومبدئية ووعياً سياسياً لكن التاريخ ظلمه لأنه اختار العسكريين على الطائفية وهذه قصة أخرى. مناسبة هذه الرمية أنه اجتمع في بلادنا الأسبوع المنصرم مندوبان للقطبين الدوليين القديم والجديد الولاياتالمتحدة والصين. فمن الصين جاءنا السيد ليو قوي جينغ مندوبها لقضية دارفور ومن الولاياتالمتحدة جاءنا ربتشارد وليامسون مبعوث الرئيس الأمريكي للسودان، ولعله من نكد الدنيا على السودان أن لا تكتفي الدول الكبرى بسفارتها فيه وتعين لها مندوبين خاصين يأتون للبلاد كالمفتشين الدوليين، مندوب الصين كالعادة كان حنيناً على حكومة السودان إذ أعلن أن الأمور في دارفور تسير الى الأمام وأن قوات حفظ الأمن الدولية بدأت مهامها بنجاح وقدم القسط الثاني من المعونة الصينية لدارفور فكانت عبارة عن محطات مياه ومعدات صحية ومدارس جاهزة. أما السيد الأمريكي وليامسون فمقارنة مع المبعوثين الأمريكين السابقين كان نفسه هادئاً ويبدو أن هناك «شوية شغل» في مسألة العلاقات الأمريكية السودانية ناجمة من زيارة دينق ألور ومصطفى عثمان لأمريكا وإن ظهر تعارض في تصريحات الطرفين، فالسيد دينق ألور يقول إن هناك جدولاً زمنياً لمناقشة أزمة العلاقات بين البلدين بينما الخارجية الأمريكية نفت ذلك، ومن المؤكد أن وليامسون قد جدد الروشتة الأمريكية المعروفة تجاه السودان بقبول القوات الدولية دون قيد أو شرط، وحل عصابات الجنجويد، والتفاوض مع حملة السلاح، ثم تنفيذ نيفاشا بما في ذلك بروتوكول أبيي. تقاطع السيدين الصيني الأصفر والأمريكي الأبيض في الخرطوم يكشف الصراع الصيني الأمريكي المحموم على إفريقيا، فالصين دخلت إفريقيا بخطوات ثابتة وثوابت واضحة يمكن تلخيصها في سياسة «أمسك لي وأقطع ليك»، فهي تريد أن تستثمر في إفريقيا لمصلحتها ولمصلحة إفريقيا ولا تتدخل في أي شأن للدول التي تتعامل معها، فالسيد دوتشي ون مسؤول الشؤون في الحزب الشيوعي الصيني قالها صراحة في الأسبوع الماضي في بروكسل عندما طالبه الاتحاد الأوربي بالضغط على السودان، قال إن سياسة الصين الخارجية تقوم على عدم التدخل في شؤون الأصدقاء الداخلية، وقال إننا نتبادل المعلومات مع الحكومة السودانية على أساس المساواة والاحترام المتبادل وإننا نحاول أن ننقل لهم تطلعات المجتمع الدولي، وقال إن بلاده ليست الداعم الأول للسودان اقتصادياً أو عسكرياً، أما الولاياتالمتحدة فمعروف أن سياستها في إفريقيا تقوم على أوهام ممثلة في مكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان والحكم الراشد مع أن أمريكا نفسها أكبر داعم للحكومات الفاسدة ويكفي أن المساعدات الامريكية لافريقيا والتي تحتسب بالمليارات تصرف على أمريكا نفسها. وعلى الحكام الأفارقة ولا ينال المواطن الإفريقي منها شيئاً. عودة الى السودان، فالتنافس الأمريكي الصيني يتجسد في خط أنابيب بترول يتحرك من جنوب وجنوب غرب السودان الى بورتسودان وخط آخر مقترح يتحرك من ذات المنطقة الى ميناء دوالا الكاميروني مروراً بتشاد ونيجيريا فمن يكسب الأول الأصفر أم الثاني الأبيض. ونتمنى أن يكون الرجلان استمتعا بكرم الضيافة السودانية.