مهنة الصحافة باتت في خطر بسبب الإهتزازات المالية التي ظلت تواجهها عدة مؤسسات صحفية عانت من أزمات متكررة لفترة طويلة من الزمن أدت إلى فشلها في الإيفاء بإلتزاماتها المالية تجاه العاملين فيها رغم استمراريتها في الصدور بانتظام.. فإدارات الصحف التي تراكمت عليها الاستحقاقات لعدة شهور باتت عاجزة عن تقديم حلول واقعية لمعاناة عشرات العاملين الذين لا زالت حقوقهم معلقة بين انهيار المؤسسات الصحفية التي ليس لها أصول سوى معدات العمل اليومي، وحكم القانون الذي يتطلب وقائع مادية لتنفيذ سلطة القضاء، فيما المجلس القومي للصحافة والمطبوعات والاتحاد العام للصحافيين السودانيين اللذين انهالت عليهما شكاوى الصحافيين لم يتبق لهما سوى حث الصحافيين على رفع دعاوى قضائىة ضد الصحف التي تعجز عن سداد مستحقات العاملين فيها. ------------------------- حقوق الصحفيين العمل الصحفي في معظم دول العالم الثالث مهنة محفوفة بالمخاطر بسبب الصراع المستمر بينها، كمنبر شعبي حر مختص بكشف الأسرار التي لا ترغب السلطة في إطلاع الشارع العام عليها ومؤسسات الدولة المختلفة التي تنظر الى العمل العام كشأن خاص بالمسؤولين، نشر أسراره، فيه تشهير بالدولة الأمر الذي جعل العاملين في مجال الصحافة والنشر مهيئين لفقدان مصادر أرزاقهم في أية لحظة حتى دمغت الصحافة «بمهنة من لا مهنة له»، ولكن في الوقت الراهن تبدلت مفاهيم الدولة حيث أصبحت الصحافة جزءاً من أدوات اتخاذ القرار نتيجة الإنفتاح الإعلامي الذي حطم حدود تداول المعلومة التقليدي بينما ظهرت في الأفق تحديات جديدة باتت تهدد مستقبل الصحفيين بصورة مباشرة بسبب عجز بعض المؤسسات الصحفية عن الإيفاء بالتزاماتها المالية تجاه الصحفيين الذين أصبحوا يؤدون واجبهم لبضع شهور دون أن يحصلوا على أجر، رغم انتظام الصحف في الصدور بصورة يومية، الأمر الذي جعل من قضية أجور الصحافيين رأياً عاماً يتداوله الشارع في المنتديات الخاصة والعامة، فالصحافة تحولت من رقيب تشريعي شعبي يطالب بحقوق الضعفاء والمستضعفين الى مؤسسات واهنة يتعاطف مع العاملين فيها الشارع العام، من اجل استرداد حقوقهم، فالشارع العام يطرح عدة أسئلة: لماذا تعجز الصحف عن سداد مرتبات العاملين فيها؟ وهل تحولت الصحف الى واجهات مادية هدفها تحقيق الأرباح وليس تطوير الإنسان والارتقاء به؟ وإذا كانت الصحف تحاسب المقصرين في أداء الحق العام من الذي يحاسب الصحف التي تقصر في أداء واجبها بعجزها عن سداد حقوق العاملين فيها؟ هذه الأسئلة تشكل محاكمة شعبية رمزية لاسترداد حقوق الصحفيين من قبل الشارع العام. إتحاد الصحفيين يقول الدكتور محيي الدين تيتاوي رئىس الاتحاد العام للصحفيين السودانيين، عجز المؤسسات الصحفية عن الإيفاء بحقوق العاملين المالية يشكل هاجساً كبيراً للاتحاد، ولذلك على الصحفيين إتباع الطرق القانونية عند الالتحاق بالمؤسسات الصحفية كالتوقيع على عقد العمل، وتحديد مبلغ الأجر الشهري وشروط العمل الاخرى كالإجازات وتذاكر السفر وفق قانون الصحافة والمطبوعات لسنة 1997 الذي ينظم العمل بالقطاع الخاص، فكثير من الصحفيين يلتحقون بالمؤسسات الصحفية دون التقيد بشروط العمل التي تحدد فترة ثلاثة أشهر كفترة تجريبية يصبح بعدها العامل في المؤسسة مستحقاً لفوائد ما بعد الخدمة التي تستقطع من المؤسسات عبر صندوق التأمين الاجتماعي كضمان لحقوق العاملين في حالة إفلاس المؤسسات الخاصة، ولكن المؤسسات الصحفية كثير منها ليس لها حسابات في صندوق التأمينات الاجتماعي ولذلك حقوق الصحفيين تصبح معلقة في حال إفلاس المؤسسة أو تصفيتها الأمر الذي اضطر اتحاد الصحفيين لعقد ورشة عمل لمناقشة إيداع استقطاع الصحفيين لدى الصندوق القومي بمشاركة الصندوق القومي للتأمينات الاجتماعية، فيما لا زالت الصحف غير ملتزمة بسداد التأمينات الاجتماعية، فالإتحاد يحث الصحفيين على اللجوء الى محكمة العمل في حالة الفصل التعسفي أو إفلاس المؤسسة لاسترداد حقوقهم وفق الطرق القانونية، فالاتحاد عقد عدة اجتماعات مع إدارة الصحف وناقش معها بصورة مستفيضة حقوق الصحفيين المادية أثناء العمل ولكن إدارات الصحف ظلت تراوغ الاتحاد للحيلولة دون الوصول لاتفاق يقنن أوضاع الصحفيين وفق قانون القطاع الخاص فالمؤسسات الصحفية تعاني من ضعف مؤسسي لا يؤهلها الى توفير ضروريات الحياة للصحفيين بناء على شروط الخدمة التي أعدها المجلس القومي للصحافة لتطوير بيئة العمل الصحفي. ويضيف د. محيي الدين تيتاوي، هناك تنسيق مشترك بين مجلس الصحافة والاتحاد لتوفير شروط عمل تمكن الصحفيين من تطوير مهنة الصحافة في السودان، فالمجلس يمنح السجل الصحفي ويحدد شروط الخدمة ويصدر لوائح الأجور والاتحاد يعمل على ترسيخ حقوق الصحفيين المكتسبة، فالمؤسسات الصحفية يجب ألا تقوم على فصل صحافي عن عمله قبل إخطار الاتحاد، فإذا حدث فصل لأي صحفي دون إخطار الاتحاد يُعد ذلك تجاوزاً للقانون فيما فشل الصحف في الإيفاء بالتزاماتها تجاه حقوق الصحفيين يهدد مستقبل الصحافة بصفة عامة بسبب المفاهيم المادية لمعظم إدارات الصحف التي تضغط على الصحفيين من أجل زيادة الارباح دون مراعاة للجوانب الإنسانية الأمر الذي يحرم الصحفيين من تطوير مهاراتهم التحريرية ولذلك لابد من نظام اجتماعي يربط الصحفيين بالمؤسسات العاملين فيها لتطوير الانتاج بشكل نوعي يقوم على تأهيل الكادر البشري. فغالبية المؤسسات الصحفية في السودان تعاني من خلل في مفهوم الإدارة، الأمر الذي جعل كثيراً من خبراء الاقتصاد يفضلون استجلاب إدارات من الخارج لتطوير الشركات الصحفية التي ظلت تواجه انهيارات مستمرة منذ قيام المؤسسات الصحفية في السودان. كما أن هناك ضرورة لدراسة عدم قدرة كثير من المؤسسات الصحفية في السودان على البقاء لفترات طويلة. مجلس الصحافة يقول البروفيسور علي محمد شمو رئيس المجلس القومي للصحافة والمطبوعات الصحفية: أخلاقيات العمل تفرض على المؤسسات الصحفية الإيفاء بحقوق العاملين فيها بصورة منتظمة فالفشل في سداد حقوق العاملين لعدة أشهر فيه إخلال بشروط عقود العمل وقوانين وزارة العمل ولذلك حقوق الصحفيين ستظل محفوظة بالقانون، فالمجلس عندما طلب من الصحف التي يصدق لها بالصدور إيداع مبلغ مائة وخمسين مليون جنيه في البنوك كان المجلس يهدف الى حماية حقوق العاملين في مجال الصحافة ولكن عدم التزام الصحف بإيداع المبلغ، أدى الى ضياع حقوق العاملين بالمؤسسات التي واجهت مشاكل مالية، كما ان معظم الصحف لم تلتزم بتطبيق الحد الأدنى للأجور الذي حدده المجلس عبر دراسات استمرت عامين بمشاركة الاتحاد ووزارة العمل الأمر الذي حرم الصحفيين من الاستفادة من حقوق أصيلة، ولذلك الصحفيون المحترفون عليهم اللجوء الى محكمة العمل لإلزام المؤسسات الصحفية بتطبيق الحد الأدنى من الأجور، وتحسين بيئة العمل الصحفي التي تؤثر بصورة مباشرة على تطوير مهنة الصحافة، فمجلس الصحافة يشرع القوانين المهنية ولكنه لا يملك سلطة قانونية لانتزاع حقوق الصحفيين من المؤسسات التي تماطل في الإيفاء بالتزاماتها المالية للعاملين فيها، فهناك عدة صحف تمر بمراحل صعبة في مواصلة أداء رسالتها الصحفية، ولذلك إما ان تعمل على بناء مؤسسات صحفية قوية تمكنها من الاستمرار أو تقبل فكرة الإندماج في عدة صحف مع بعضها البعض لتكوين مؤسسات صحفية عريقة تُحظى باحترام الشارع العام، فالمجلس طرح من قبل فكرة اندماج الصحف المهددة بالانهيار ولكن الفكرة لم تجد القبول من الناشرين، رغم استعداد الدولة لتوفير التمويل اللازم لقيام مؤسسات صحفية قوية قادرة على المنافسة داخلياً وخارجياً، بينما أيدت ولاية الخرطوم استعدادها لتشييد مدينة متكاملة لصناعة الصحافة من أجل بناء صحافة تقود الأحداث وتؤثر عليها مهنياً، ولكن عدم استجابة الناشرين لمقتضيات التطور ظل عقبة أمام إحداث نقلة نوعية في صناعة الصحافة السودانية وهناك سبعة وخمسون صحيفة مصدق لها بالنشر معظمها لا يملك مقومات الاستمرار ولذلك ستتوقف معظم الصحف الحالية عن النشر إذا لم تتمكن من توفيق أوضاعها لمواكبة التطور الذي يشهده عالم الصحافة، فيما المؤسسات الصحفية التي تعجز عن الإيفاء بالتزامات العاملين فيها المالية غير مؤهلة لقيادة الرأي العام الذي يتطلع لإرساء قيم العدالة والمساواة اجتماعياً وسياسياً وثقافياً من الصحف.