أعادتني سهرة أول أمس الثلاثاء إلى الفضائية السودانية مع الفنان الكبير محمد كرم الله الذي غاب عن الساحة الفنية لمدة ثلاثين سنة، ومع الشاعرين الكبيرين محمد سعيد دفع الله الذي غاب عن البلاد لمدة ربع قرن من الزمن والسر عثمان الطيب الذي غاب لفترة قد تكون أقل من ذلك بقليل. ليس من السهل أن نعيد عقارب الساعة إلى الوراء ولكن وجود هذا الثنائي (كرم الله ومحمد سعيد) في الساحة قبل تلك السنوات الطويلة صادف أيام الشباب وأيام تألق فن الطمبور، ولذلك ترك في مخيلتنا تلك الصور الزاهية التي يصعب أن تمحى رغم تطاول السنين. وكانت فرصة جميلة أن نسمع فيها صوت الشاعر محمد الحسن سالم (حميد)، وكنت أتمنى أن أسمعه، في الدقائق القليلة التي أتيحت له، شاعرا وليس متحدثا. واستمعنا لمشاركة مبارك الكودة الذي لم أكن أعرف أن له اهتمامات فنية، واللواء محجوب أحمد محمد، والدكتور فتح العليم عبد الله، والأستاذ عثمان الكودة والأستاذ عباس عوض الكريم. ربما كانت السهرة أجمل لو قل فيها الكلام، فحشد هذا العدد الكبير من (نجوم الشايقية) خفض من تألقها. هذه واحدة، الثانية لو أن فناننا الكبير محمد كرم الله حدثنا قليلا عن سبب اعتزاله الغناء، وعن سبب عودته، وعن ماذا كان يفعل في فترة اعتزاله الغناء. مثلا سمعت أنه كان يقدم وصلات من مدائح أولاد حاج في بعض المناسبات، فليته قدم لنا نموذجا من هذا الوجه الآخر لفن الشايقية، وليته حدثنا عن الفرق بين الغناء والمديح بالنسبة للمبدع، وبالنسبة لمحمد كرم الله شخصيا، وأظن أن له دوافع شخصية في هذا التقلب. كذلك كنت أتصور أن عهد محمد كرم الله بنجومه الكبار مثل إسحاق كرم الله الذي لمع كالشهاب في سماء المنطقة ثم انطفأ، وعبد الرحمن بلاص والنعام آدم وعثمان اليمني ومحمد جبارة .. كنت أتصور أن ذلك العهد مختلف عن عهدنا اليوم، فالشعراء غير الشعراء، والشعر غير الشعر، والمفردات غير المفردات، والجمهور غير الجمهور، والمزاج العام غير المزاج. كان حسن الدابي أستاذا لكل الأجيال التالية من شعراء الشايقية، وجاء بعده جيل من الشعراء من أبرز رموزه محمد سعيد والسر وإبراهيم ابنعوف، ثم جاء جيل حميد .. كنت أتمنى أن أسمع شيئا عن ذلك من محمد سعيد أو السر، وهما دارسان متمكنان، كنت أتمنى أن أسمع عن هذه الانتقالات والأجيال المتلاحقة من الشعراء. وبعد .. كان عنوان السهرة (عودة الطيف)، والطيف في عهدها كانت أغنية كل السودان لمواسم متتالية، ومحمد كرم الله مثل أغنيته، هو بالنسبة لساحة الشمال الفنية كالطيف، نسمع به ولا نراه. ولكن يبقى بعد ذلك سؤال : هل الأفضل للطيف أن يبقى طيفا بكل هالته، رمزا لزمن الفن الجميل، أم يتجسد ويعود للناس فيروه بغير ما كانوا يتوقعون، خاصة بالنسبة للأجيال الجديدة التي أصبح لها طربها الخاص.