لم اصدق ناظري وأنا اشاهد (البوستر) الرسمي للمباراة النهائية لدوري أبطال أوروبا لهذا العام 2011م بين فرقتي برشلونة ومانشستر يونايتد وذلك لإنه كان يحتوي تناصاً كاملاً وتطابقاً في غاية الادهاش مع أحد المقاطع الشعرية التي كتبتها في تسعينيات القرن العشرين والمقطع يرد في قصيدة تحمل اسم بنات الجنوب والتي تقع هي الأخرى ضمن محور داخل المجموعة تحت عنوان: جنوبيات. يقول المقطع: يا بنات الجنوب لاتدعنني أنام (كيف وقد زار الزهر) وكفت عن الفحيح المدام (انتهى المقطع) والجملة بين الفاصلتين هي موضع التناص مع البوستر التنويهي بالمباراة النهائية الذي اشرنا إليه، والذي حملته بعض الصحف الرياضية صبيحة المباراة والذي يحمل الجزء الأعلى منه شعاري الناديين وكرة قدم بلورية (تشف عن مكونات خلفيتها) تحتهما شعار الاتحاد الاوروبي للكرة تحته عنوان المنافسة (champions league) هذه مكونات الجزء الأعلى والذي يحمل العديد من الدلالات والتي سنعود إليها لاحقاً. أما الجزء الأسفل من البوستر فهو موضوعتنا التناصية. لم تغفل حساسية الاتحاد الأوروبي لكرة القدم معطيات المكان فاستدعت ايقونة الأسد البريطاني، والذي أطلقت عليه حكوماتنا الوطنية في الستينيات صفة العجوز إبان موجة التحرر الوطني التي غطت آسيا وأفريقيا بعد تراجع زئيره الداوي من حدود الامبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس إلى أرفف البقالات كعلامة داعمة لمختلف السلع من الحلوى إلى علب الدخان الى الاحذية وما شابه ذلك، باذن خاص من جلالة الملكة والذي أصبح هذا المصدر المركنتايلي الترويجي من أهم دعامات جلال ورفاهية بلاط سان جيمس. ما يهمنا هنا هو اختيار مفردة الأسد كُملون رئيسي للبوستر. وحتمت الطبيعة التنافسية للعبة وجود وتقابل وحدتين من الايقونة المختارة: اسدان يزأر كل منهما في وجه الآخر. ولقد شكلت آلية التقريب والتقابل بين الوحدتين (الأسدين) كلاً واحداً يأخذ شكل الزهرة مما دفع بالرسم الى أجواء من المجازية ثلاثية الابعاد وتكاد تنطبق في تناص كامل مع المقطع الذي أشرنا إليه: (كيف وقد زأر الزهر)، ويمكن ان نطلق عليه مصطلح تناص عابر للأجناس الابداعية. ولقد استوقفتني في هذا المنحى للمجازات البصرية لوحة رائعة للرسام السوداني عمر خيري تصور حظيرة للأبقار يبدو من طبيعة سورها الحديدي وبواباتها انها جزء من وحدة حديثة لمنتوجات الألبان المنتشرة في الحدود الريفية للعاصمة. تكاد اللوحة بكل مكوناتها تحمل روح عنصر واحدٍ رئيسي وهو: اللبن والمكونات كلها تحمل اللون الأبيض: الأبقار والعامل والسور والصفائح وكلها على خلفية صفراء تغطي كافة الفراغات لها لون السمن الطازج. وقد اثبتت عبارة لبن على الصفائح الظاهرة في الصورة بخط جميل باللغتين العربية والانجليزية وقد تبدو ليّ هذه العبارة: لبن، كما لو أنها مفتاح للمجاز المسيطر على اللوحة أو كشف مباشر له كان اللوحة تريد (أو حققت ذلك بالفعل) ان توحد بين كل مكوناتها (شأن كل مجاز) وبين ناتجها الجليل: اللبن. لم يبخل عمر خيري في هذه اللوحة كعادته بالطرافة فجاءت أغلب أبقاره ضاحكة ومفتوحة الفم ولعل ذلك امعاناً في لبنية اللوحة (اذا صح التعبير)، ولا تخفي الاشارة: جبنة البقرة الضاحكة (لافاش كري) وأيضاً اتسم كعادته في التحرر من التقييدات المعلوماتية فوضع عبارة (13) رطلاً على صفيحة اللبن على غير ما هو معهود في تسميات وحدات معايير اللبن: رطل ثمنه (8 أرطال)، صفيحة.. إلخ.. ويبرز هذا التحرر كثيراً في رسومات هذا الفنان ولقد رأيت له بطاقة معايدة برأس السنة تحوي مزهرية رائعة بأزهار غريبة وقد كتب على سطح المزهرية التاريخ: (1984 من العام الهجري). هذا الفنان ادرات بعمق ان الجمال، تشكيلياً، فوق حدود المعلومة. ولعل هذا المجاز البصري هو جوهر شعرية الرسم ان لم نقل إنه هو شعرية اللوحة نفسها والتي تحمل الطابع الخاص لروح كل عصر أو مدرسة فنية فنجد ان جمال الجسم الانساني هو المجاز والتناص الواسع للمنحوتات الاغريقية ويشاركها في ذلك عصر النهضة الاوروبية حتى تستعير مفردات الطبيعة من نباتات وصخور وخلافه هيئة عضلات الاعضاء البشرية على نفيض العصور الوسطى التي كان التقديس هو مجازها فصار الشكل الانساني فيها اقرب إلى سكونية اللا هوتين واجسادهم التي اختزلت الى مجلدات، كائنات الارفف العتيقة، الانسان/ الكتاب وقد نحت المدرسة الرومانسية في الرسم ذات المنحى في استبعاد أهمية العنصر الانساني ولجأت إلى تمجيد الطبيعة متمثلة في الجبال والاودية السحيقة والغابات والبحار مغفلة الانسان الذي صار يبدو في لوحها ثانوياً متناثراً كبقع الضوء خلال الأشجار أو حبات الثمار المتساقطة في دروب الغاب.