تسلل عدد من منسوبي الجيش الشعبي لتحرير السودان في بهيم ليلة الثلاثاء المنصرم، من أعالي الجبال المطلة على مدينة كادوقلي، لقلب المدينة التي وصل ثيرمومتر التوتر فيها حد الغليان ولولا دعوات حكمة صدرت من ساستها تلك الليلة التي وصفتها التقارير بالعصيبة لربما كنا شهدنا نقض غزل اتفاق السلام الشامل بين الشمال والجنوب. أما رواية الحركة الشعبية لذات الأحداث فتقول بمهاجمة القوات النظامية وشرطة الإحتياطي المركزي لمواطنين في عاصمة جنوب كردفان الأمر الذي استدعى قواتها الموجودة ضمن القوات المشتركة الرد، دفاعاً عن أنفسهم ومواطني المدينة. (1) وشهد يوم الثلاثاء، أول أمس، تطوراً خطيراً ولافتاً في مستوى الصراع، إذ أقدمت مجموعات تتبع للحركة الشعبية على تصفية عدد من رموز حزب المؤتمر الوطني من أبناء النوبة أمثال (كبيي كوكو الغزال) رئيس المؤتمر الوطني بمحلية برام، و(موسى فضال) القيادي الشاب بحجر النار، في وقت نجا فيه (إبراهيم فلندية) رئيس المجلس التشريعي السابق بأعجوبة من الموت بحسب مصادر تحدثت للصحيفة ولكن بعد أن ترك المهاجمون في قدمه رصاصة وفي قلبه ذكرى مُرة لن تنمحي بسهولة. ولعل معقل الخطر الذي نقصده هنا، هو أن تسهم التوترات في خلق حالة استقطاب حادة تقود لتمزيق النسيج الإجتماعي بالتمترس خلف نظرية ال (مع .. والضد). وبالتالي فمن الوارد جداً حدوث تصفيات لرموز ضمن طاقم الحركة الشعبية في مسعى لإذاقتها من ذات الطبخة المسمومة. وذلك رغماً عن تأكيدات قادة الطرفين بالتزام السلام والعمل على إستدامته، وذلك بحسبان أن معظم الحوادث التي جرت مؤخراً بدت -بحسب الطرفين- بصورة فردية ومنعزلة، وسرعان ما تحولت لما هي عليه اليوم. واليوم يعاني سكان كادوقلي الأمرين جراء الصراع المسلح ما أدى لنزوح المئات منهم، وتقول تقارير بحدوث أزمة في مواد الغذاء نتيجة توقف الأسواق عن أنشطتها والمحال التجارية عن تعاملاتها، وهو ما لم يتسن للصحيفة الوقوف عليه هاتفياً، فالمدينة غارقة في بحر من الظلام الدامس بسبب تعرض محطة الكهرباء فيها لهجوم أدى لتوقفها وبالتالي أصيبت الهواتف النقالة بالسكتة وأصبحت عبارة (هذا المشترك لا يمكن الوصول إليه حالياً) صوتاً يعبر عن حال أهل المدينة الكردفانية. (2) وقبل هجمات كادوقلي، وقريباً منها، نذّكر بأحداث أبيي المتنازع حولها بين الشمال والجنوب، ودخلها الجيش الحكومي عنوة بعد تعرض قواته المنسحبة من قلب المنطقة تجاه أطرافها لكمين شرس أودى بحياة عدد منهم. تلى ذلك أحداث (أم دورين) القريبة من كادوقلي (35) كلم حيث اشتبكت القوات المسلحة بمن وصفتهم (متفلتين) يتبعون لشرطة الحياة البرية والقوات المدمجة، أثر تعدي الأخيرين على حامية تابعة للجيش قبل أن تعود الأوضاع للسيطرة، وقال العقيد الصوارمي خالد سعد الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة إن أحداث أم دورين فردية وتم إحتواؤها. ولكنه وكالعادة كان للحركة الشعبية وجهة نظر مغايرة تقول بأن الإشتباكات تمت بين قوات نظامية شمالية (الجيش وشرطة الإحتياطي المركزي) وبحسب بيان صادر من الحركة تلقت (الرأي العام) نسخة منه، نفت الحركة ضلوعها في الحادثة ودعت لعدم تعليق صراعات القوات النظامية على مشجب الجيش الشعبي. هذا من دون نسيان أحداث (تلودي) التي دار رحاها بين القوات المسلحة والجيش الشعبي، وتتهم فيها الأولى، الثانية، بمهاجمة مواطنين بالمدينة. وبعد تلك التوطئة، التي لربما تفسر جزءاً من حالة التوتر والإحتقان في الولاية الحدودية ومصدر نفط الشمال الرئيس، انسربت ومنذ صبيحة الإثنين أحاديث مزعجة عن وقوع اشتباكات داخل أحياء كادوقلي بين القوات النظامية من جهة ومنسوبي الجيش الشعبي وصلت ذروتها إبان إجتماعات بين قادة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لنزع فتيل الأزمة بمنزل والي الولاية وقريباً منه وبحسب عدد من الروايات فإن الإشتباكات شهدت استخدام نوعيات ثقيلة من الأسلحة أدت لخسائر في الأرواح والممتلكات (لم تحصر بعد) في ظل خلو تام لشوارع المدينة من المارة. وعن الأحداث صرح مولانا أحمد هارون والي الولاية يوم أمس الأول، بأن القوات المهاجمة لم يتنام لعلمها توصل الطرفين لإتفاقات بالتهدئة مؤكداً أن الأوضاع عادت إلى طبيعتها. وهو ذات ما ذهب إليه ياسر عرمان القيادي البارز في الحركة بألا عودة لمربع الحرب مرة أخرى. بيد أن التطورات وتواصل إطلاق النار حدا بهارون أن يندد أمس بمسلك قوات الحركة الشعبية العدائي تجاه القوات المسلحة، وإستمرار منسوبيها في عملياتهم العسكرية حاثاً السكان بالصبر وضبط النفس وعدم الالتفات للشائعات التي تقول بعدم استتباب الأمن. ومشدداً على قدرتهم على حفظ الأمن في أرجاء الولاية التي نصب والياً عليها في الانتخابات التكميلية التي جرت أخيراً. وتشير تقارير قادمة من هناك، بأن الأزمة اندلعت في أعقاب إصرار الحكومة على عدم شرعية القوات المدمجة بالشمال. وقال الفريق عصمت عبد الرحمن رئيس هيئة أركان القوات المشتركة: القوات الجنوبية الموجودة شمال حدود 1956م عليها الانسحاب فوراً، وسنبدأ الأسبوع المقبل عملية تطهير واسعة لكل القوات الموجودة في الشمال. وهو الأمر الذي عارضه قمر دلمان مسؤول الإعلام من جانب الحركة بجنوب كردفان بالقول ل (الرأي العام) حسب عُرف اتفاقية السلام الشامل هناك (3) آلاف جندي منتشرين في عدة مناطق بالولاية ويتبعون للجيش الشعبي ومنتمين جغرافياً للشمال وتنتهي مهمتهم في التاسع من يوليو، أجل نهاية الفترة الانتقالية بين الشمال والجنوب. مطالباً الشمال وبعد حلول ذلك التاريخ بالعمل على دمج وتسريح أبناء الولايات الشمالية المنضوين تحت ألوية الجيش الشعبي بإعتبارهم جزءاً من دولة الشمال. نافياً بشدة وصف مطالباتهم على أنها إدارة لظهر المجن بوجه من قاتل معهم طيلة سنوات. وقال: أبناء الولاية من النوبة والمسيرية وغيرهم، المنسوبون للجيش الشعبي، بعد التاسع من يوليو سيتحولون لجزء من دولة الشمال ومصيرهم مرهون بصياغة ترتيبات أمنية جديدة، ومدى تعافي العلائق بين ولايتهم والمركز. وتابع: عموماً هم مرحب بهم في دولة الجنوب. (3) وبالعودة لإتفاقية السلام الشامل، بند الترتيبات الأمنية نجده ينص على: (فيما عدا القوات التي سيتم نشرها للوحدات المشتركة، فإن بقية قوات الجيش الشعبي لتحرير السودان المنتشرة حاليا في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق سيعاد انتشارها جنوب الحدود بين الشمال والجنوب كما في 1/1/1956م حالما يتم تكوين الوحدات المشتركة وانتشارها تحت رقابة ومساعدة دولية) ما يعني -إجرائياً على الأقل- عدم وجود قوات تتبع للجيش الشعبي مباشرة في ولايات الشمال، وأن وجودهم يقتصر على القوات المدمجة فقط. وذهب فيليب أقوير الناطق باسم الجيش الشعبي لذات منحى النص بقوله: لا يوجد لدينا قوات بمناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق حتى نسحبها، والقوات الموجودة حاليا هي تابعة لإخواننا النوبة ومناطق النيل الأزرق؛ لذلك ليس لدينا حق سحبها لجنوب السودان، وزاد: القوات الموجودة تابعة للنوبة وشعب النيل الأزرق، وهم شماليون وليسوا جنوبيين حتى يحق لنا أن نصدر أمرا بانسحابهم. ويبدو أن وجهات النظر حول تلك النقطة تتباين عبر دورانها في فلك محورين: الأول برفض التسريح وتسليم السلاح قبل الوصل لصيغ مقبولة تضمن حياة كريمة للمقاتلين المسرحين من أبناء النوبة ويتبناها الجنوب, والثاني بإصرار الشمال بالحيلولة دون تحول تلك القوات لمخلب قط ينغرز في خاصرته وقتما توترت العلاقات مع الجنوب. وفي الصدد، اتهم الرشيد أبو شامة المحلل السياسي، الجيش الشعبي بالعمل على الإحتفاظ بعناصره من أبناء النوبة كخلايا نائمة داخل العمق الشمالي واستخدامهم ككروت ضغط لأجل تعكير صفو الأجواء الشمالية. وعندما سألته (الرأي العام) عن كيفية معالجة ذلك الوضع؟ أجاب أبو شامة: بانفاذ قرارات الرئيس البشير القاضية بإزالة كل بؤر التوتر التي يخلفها الجيش الشعبي في ولايتي النيل الأزرق وكردفان ولو بالعمل العسكري. (4) أما عن أهم مناطق إنتشار منسوبي الجيش الشعبي في ولاية جنوب كردفان نجدها على النحو التالي: كاودا بإعتبارها المعقل الرئيس للحركة الشعبية إبان الحرب الأهلية، أبيي التي أتفق الطرفان على وجود قوة مشتركة تعمل على تأمين الأوضاع في المنطقة بيد أن ذلك أنتهى في أعقاب هجوم الجيش الشعبي على القوات المسلحة الشهر الماضي، العاصمة كادوقلي، بمناطق أم دولو والرجيبية كركراية البيية والتي سرت شائعات قوية مفادها أحتشاد كتائب تتبع لعبد العزيز الحلو مرشح الحركة الشعبية لانتخابات والي جنوب كردفان إبان الانتخابات ومستعدة لمهاجمة كادوقلي، وتنضم للمناطق الأخيرة، الجبال المحيطة بالمدينة الكردفانية وأنسربت منها القوة المهاجمة في أحداث الإثنين الأخيرة فضلاً عن منطقة الأبيض (لا نقصد عاصمة شمال كردفان). (5) ومع وجود تباينات كبرى بين شريكي نيفاشا في جنوب كردفان، آخرها الإختلاف على نتائج الانتخابات الأخيرة، تبرز قضية النوبة داخل الجيش الشعبي، كقضية معقدة، تلتف أنشوطتها حول عنق الشمال الذي ترفض حكومته السماح بأي مظاهر وجود مسلح وخلق جنوب جديد، وبين مقاتلين ما زالوا مستمسكين بذات رؤى الحركة الشعبية القائلة بتهميش المركز لهم .. وبين الرؤيتين فجوة كبيرة، الأيام وحدها الكفيلة بأن تكشف إذا كان سيتم ردمها، أم تعمل المعاول المختلفة على تعميقها وتوسعة جانبيها.