ظاهر الأزمة في دولة جنوب السودان .. لا يشير إلى الأيادي الضاغطة على الزناد ، أو المتسبب المباشر فيها .. فكل المتصور أو المنقول أو المتداول هو تجديد لمعارك دامية بين طرفي أزمة فشلا في تنزيل اتفاق السلام الموقع بينهما على أرض الواقع .. ولم يتجاوز المنقول هذه الزاوية بينما تتدثر الحقيقة بدثار ضيق النظر والعتمة الناتجة عن كثافة النيران . عليه لا يمكن قراءة أحداث جوبا الأخيرة ، من تلقاء ما رشح من أنباء .. ولن تتكشف بواطن المؤامرة إلا بالنظر أو التحديق في الواقع الذي يعيشه الجنوب منذ الانفصال .. ثم بالتحليق في النتائج المترتبة على ذلك . بالنظر إلى واقع الجنوب تتكشف حقيقة العجز الملازم لإدارة الدولة الوليدة ، إذ لم يكن من المتصور أن تفشل النخب الحاكمة الجنوب سودانية في إدارة البلاد بهذه الدرجة .. ولم يكن المواطن الجنوبي يتوقع أن تتبخر آماله بهذه السرعة ويجابه المعاناة بهذه القسوة .. كما لم يكن يتوقع المجتمع الدولي والدول التي وقفت في صف الانفصال أن هناك من يضيع الفرص بهذه الرعونة .. وبالتحليق في ما آل إليه الحال ، لا بد من توصيف الأزمة التوصيف الدقيق باستدعاء بعض المشاهد كشواهد .. وفي هذه الحالة لن نستدل بالمشاهد منزوعة السياق ، على غرار (لا تقربوا الصلاة) .. بل إلى الحياد نحاول أن نتقرب . ومن هذه المشاهد خطاب العداء الذي ودعت به الدولة الخلف الدولة السلف، وما نتج عنه من استمرار لنزيف الحرب لتثبيت أركان الدولة الوليدة وبسط سيطرتها على أحلام الشعب ووأدها حتى لا تتطور إلى مطالب مشروعة .. ومن المشاهد كذلك الأثر الذي أحدثه غياب مؤسس الحركة والانقسامات التي تلت ذلك فيما عرف بتيار أولاد قرنق وتيار سلفا كير والتيار الثالث بقيادة مشار ، فبالرغم من جهود الدول الداعمة للانفصال لتلافي أزمة الحكم والصراع على المناصب إلا أن البندقية كانت حاضرة وأخذت موقعها كعامل حاسم لأزمة الحكم والسلطة قبل أن تتفجر الأوضاع وتتفاقم . بعض ما ذكر من مشاهد تصلح من حيث المبدأ للبناء عليها كأحداث ماضية تفسر الأزمة الحالية .. إذ فشلت البندقة كوسيلة إسكات في تثبيت أركان الدولة كونها لم تحتكر في يد طرف واحد بل نجحت جميع الأطراف في الحصول عليها – أي البندقية – بجانب حصولها على تفويض دولي باستخدامها .. وهنا أستفيض بما لا يستوجب الملل بالقول : إن التحديق ملياً يكشف المستفيد الوحيد من هذه الدماء التي تسيل الآن في جوبا وسالت من قبل في واو وراجا .. هذا إذا تفهمنا الداعي لهذه الإراقة العنيفة .إذن ، ماهو الداعي ؟ الداعي ليس مستحدثاً من كاتب هذه السطور .. وليس ببعيد من فطنة المتابع ، وتعلمون جميعًا أن الموت الرخيص للشعب الجنوبي وإشاعة الفوضى والرعب في وجدانه تحقق أحد غرضين .. الأول الإبادة ، والثاني الفرار بالجلد .. وهذين الغرضين يحققان الهدف الإستراتيجي المنشود .. ألا وهو إفراغ الجنوب كرقعة جغرافية من مكونه البشري وفرض الوصايا على موارده وبذلك يتحقق الغرض الأساس من التقسيم .. ونفصل عن ذلك .. إذا أجرى الله القلم على النحو الذي نريد .