شهد السودان حراكا سياسيا تمهيدا لقيام حواروطنى شامل لاسيما بعد المبادرة التى أطلقها رئيس الجمهورية فى أكتوبر 2015 ولقد مرت عملية الحوار بتعقيدات وتحديات وعقبات لاحصر لها، إلا أنها قطعت مراحل الى الأمام متجاوزة كل تلك الصعاب. يتوقع أن يكتسب هذا الحوار زخما أكبر عقب وصول محاولات رافضى وثيقة "خارطة الطريق" الى نفق مسدود بعد أن رفضت الحكومة المقترحات التى تقدمت بها هذه المجموعات الى الوساطة الافريقية وبدا أنه لا سبيل أمام المعارضة سوى القبول بهذه الوثيقة والتوقيع عليها وأن الوقت ينفد امامها. فرصة سانحة ومنذ بداياته الأولى وجدت فكرة الحوار الوطنى تجاوبا منقطع النظير من قبيل القوى السياسية الداخلية رغم تفاوت تلك المواقف، وكذلك من القوى الدولية والإقليمية. ذلك أن مبادرة الحوار كانت شكلت فرصة سانحة لتأسيس مواقف وطنية حول القضايا والأجندة التى كانت تتباعد حولها المواقف بين القوى السياسية المختلفة المعارِضة والمشارِكة فى الحكم على حدٍ سواء. كما شكّل "الحوار الوطنى" منبرا حرا لكافة القوى والفعاليات السياسية فى البلاد، يمكنها من طرح كافة مطالبها، لاسيما وأنه يهدف الى تأسيس لبنات قوية للدولة السياسة مستقبلا والتعلم من دروس الماضى وتجاوز سلبياتها وأوجه القصور التى صاحبت مختلف التجارب والنظم الوطنية التى تعاقبت على حكم البلاد منذ الإستقلال. يرى مراقبون، أن الحوار الوطنى أتاح أيضا فرصة لتلك القوى والمجموعات التى فشلت فى تحقيق مشاريعها سواءا عبر الإستقواء بالخارج أو العمل المسلح او إنتظار ثورات شعبية قد تندلع بالبلاد، لتشارك فى صناعة مستقبل البلاد. ولكن أضاعت هذه القوى والاحزاب هذه الفرصة الثمينة، وكان يمكن أن تكون مواقف هذه القوى والأحزاب -التى ناصبت فكرة الحوار الوطنى العداء او قاطعتها او انسحبت منها أو ظلت تتمترس فى مربع الإشتراطات المسبقة- أفضل من موقفها الراهن، حيث هى الآن أقرب للإستجداء منه الى العزة والقوة والكرامة. شرعية جديدة منذ البداية، أعتبر الحوار الوطنى إرادة وطنية خالصة وأكتسب شرعية على هذا الأساس، ويجب أن يكون يجرى بعيدا عن أى تدخلات أو مؤثرا خارجية، وليس ببعيد عن الأذهان ما جرى فى بعض التجارب عندما عبثت الأصابع الخارجية بالحوارات التى جرت بين ابناء الوطن الواحد وأنتهى بتفريق الصف الوطنى فى تلك البلدان وما تجربة اليمن إلا خير دليل. على أن أكبر زخم أضفى شرعية جديدة على عملية الحوار هذه -كسبيل وحيد وربما الخيار الأوحد أمام المعارضة والحركات المتمردة لتحقيق ما تصبو اليه- هو تجاوب الوساطة الأفريقية رفيعة المستوى التى تتولى تسهيل عملية التفاوض بين الفرقاء السودانيين لاسيما حول قضايا التسوية النهائية فى المنطقتين (جنوب كردفان والنيل الأزرق) ودارفور. وباتت عملية الحوار الوطنى إحدى المقاربات التى تبنتها الوساطة الأفريقية لاحقا فى سبيل البحث عن حلول مستدامة لقضايا البلاد، ويبدو ان ان الوساطة الافريقية التى كانت تنظر الى رفض المعارضة الحوار الوطنى فى أوقات سابقة على أنه موقف مبرر، قد تغييرت مواقفها بعد أن تبين لها أن توصيات الحوار الوطنى بالداخل لا تختلف عن مطالب المعارضة كثيرا وبالتالى فإن آليات الحوار الوطنى يمكن أن تكون منبر يتوسع ليستوعب المعارضة والحركات المتمردة بالخارج لمناقشة تلك القضايا. أحزاب فاعلة رغم مقاطعة بعض الأحزاب والقوى السياسية للحوار الوطنى الذى أستمر بالداخل، مع ذلك برزت أحزاب وقوى بديلة يمكن ان يطلق عليها الأحزاب الفاعلة والتى شاركت بهمة عالية فى عملية الحوار الوطنى والذى بلغ مراحل شبه نهائية بعد أن رفعت كافة اللجان (وعددها ست لجان) توصياتها الختامية، وتبقى أمامها فقط مرحلة أخيرة وهى عقد الجمعية العمومية والتى سترفع تلك التوصيات لرئيس الجمهورية لإعتمادها والعمل على تطبيقها باعتبارها تجسيدا لإرادة شعبية مثلتها الأحزاب التى شاركت فى الحوار. وأتاحت عملية الحوار الوطنى ايضا فرصة لمشاركة حركات ومجموعات مسلحة عادت من صفوف التمرد بعد أن كانت حمل السلاح وتقاتل الحكومة فى بعض المناطق البلاد. ويرى مراقبون، أن مشاركة الأحزاب الفاعلة فى الحوار الوطنى بالداخل بجانب المؤتمر الوطنى وحلفاءه الآخرين قد أحدث فارقا كبيرا فى المشهد السياسى فى البلاد، حيث برزت قوى بديلة كسرت قاعدة إحتكار الأحزاب والقوى التقليدية لعملية التمثيل السياسى فى البلاد، كما أنها أثبتت-أى الأحزاب الصغيرة- أيضا أن مقاطعة بعض الأحزاب أوإنسحاب أخرى من الحوار الوطنى لم تؤد الى إعاقته بل أستمر الى أن وصل الى المراحل الحالية. وبات من المتعذِر على الأحزاب والقوى التى قاطعت أن تؤثر فى نتائجه أو أن تتجاوزها بل وغدت المؤسسات التى انبثقت عن عملية الحوار الوطنى كآلية (7+7) و"اللجنة التنسيقية العليا للحوار الوطنى" الى جانب اللجان الست مؤسسات فاعلة. مؤتمر تحضيرى حاولت المعارضة بالخارج المطالبة بعقد مؤتمر تحضيرى فى مقر الإتحاد الأفريقى بالعاصمة الإثيوبية وكانت تراهن بهذا الموقف على أن يكون المؤتمر التحضيرى بديلا عمليا للحوار الوطنى الذى ظل مستمرا فى داخل البلاد. وقعت الوساطة الأفريقية فى 21 مارس المنصرم على وثيقة خارطة الطريق. عمليا أدى توقيع الوفد الحكومى المشارك فى اللقاء التشاور الاستراتيجى حينها على هذه الوثيقة الى وأد فكرة المؤتمر التحضيرى بالخارج فى مهدها، وبذلك تلقت المعارضة ضربة أخرى. ونصت "خارطة الطريق" على مناقشة مخرجات الحوار الوطنى بالداخل مع اللجنة التنسيقة العليا للحوار الوطنى وكذلك مع "قوى المستقبل للتغيير" التى تضم المجموعات التى قاطعت فى وقت سابق عملية الحوار إمكانية توسيع هذه العملية ليكون الحوار الوطنى أكثر شمولا وتمثيلا، أى بحث المسائل الإجرائية التى تساعد على تسريع إلحاق الرافضين للحوار الوطنى لاسيما فى الخارج. ومنذ توقيع الحكومة على خارطة الطريق بات الخيار الوحيد هو الحوارالوطنى بالداخل، ولم يتبق سوى بحث بعض الخطوات الضرورية لتطبيق هذا الحوار على النحو الذى جاء فى وثيقة "خارطة الطريق". وما طرح رافضى الوثيقة والمطالبة بإضافة ملحق بالوثيقة يتضمن المواقف التى ظلوا يطالبون بها منذ وقت طويل إلا مظهر من مظاهر المأزق السياسى الذى وصلت اليه هذه المجموعات، بعد ان جرت مياه كثيرة تحت جسر التفاعلات السياسية داخليا وخارجيا جعلت من المتعذر فرض الآراء والتصورات السياسية بالآليات التى كانت سائدة من قبل.