في هذه الحالة أُنتَدب من تلقائي لتوسيِّع المجال التداولي للمعرِفة المحصُورة في نِطاق ضيِّق من النُخبة.. وأنقل لحضرتكم ما دار في قاعة الشارقة بجامعة الخرطوم، إذ قدَّم البروفيسور جعفر ميرغني ورقة بحثية بعنوان "أسماء البلدان ودلالتها".. حيث انطلقت وأنا أُنتَدب من تلقائي لهذه المهمة التوصيلية من باب إمتاع الناس بالعلم المُفيد، خاصة وأننا كما قال البروفيسور جعفر في ختام حديثه في زمان يتفشى فيه الجهل كل يوم على حساب العلم . حاول البروفيسور جعفر ميرغني أن يُدلِّل من خلال بحثه المُضني وراء أسماء البلدان بأن هناك إفادة كبيرة جداً تُجنى ليست تاريخية فحسب وإنما جيولوجية وجغرافية كذلك، خاصة وأن أسماء البلدان في السودان تغلُب عليها الجغرافيا بمعنى الكلمة، مثل (السدرة والسديرة والطلحة والسيالة والأبيِّض وغيرها) إذ أنها كُلها تدل على ظواهر في الأرض، إذن فإن البحث وراءها كما يتصوُّر البروف جعفر مُفيد للمؤرِخ والآثاري والجيولوجي والمعماري أيضاً، وخلال البحث تظهر تفسيرات شعبية لديها قِيمة في دراسة الفولكلور ودراسة المجتمع وميوله، كما توصَّل الباحِث إلى حقيقة أن الأسماء تدلُ على تحرُكات السكان، ومن الفوائد العظيمة لهذا البحث الذي قدمه البروف جعفر التأسي والمُعايشة بين اللغات المختلفة في السودان التي تسُد الباب أمام من يدعي أن هذه البلدة تنتمي لهذه القبيلة لأن اسمها مُستمد من لغتها، وأكثر ما يُحتفى به النتيجة التي خرج بها الباحث وهي ضرورة عدم الحديث عن القبلية في النزاعات حول الحكم وحول الأرض حتى لا ننتهي إلى لا شيء.. وإلى لا قُطر.. وإلى لا بلد. وضع البروفيسور جعفر ميرغني منهجاً صارماً لبحثه عن اسم مدينة الخرطوم الحالية ودلالات هذا الاسم .. مُبتدراً بالسائد من قول .. ومُتقصياً بحنيفية صارمة .. ومُتجنباً عدم الإتيان برأي مُسبَّق .. ومُستكشفاً تاريخ المنطقة والمجال التداولي للاسم في مناطق أُخرى .. ومُتتبعاً للجذر اللغوي للاسم وتأثيرات اللغات المختلفة عليه .. ومُراجعاً صفة المكان وجغرافيته .. وباحثاً عن التركيبة السكانية للمناطق التي تحمل اسم الخرطوم . هذا النهج الصارم هو ما نحاول البسط فيه، خلال هذا المقال والذي يليه إن شاء الله . ابتدر البروفيسور جعفر ميرغني بحثه بالسائد من القول، مؤكداً أن ابتداره لا يأتي تعزيزاً لمقولة أن الخرطوم للناسِ كُلِهِمُ، رغم أن هذه المقولة تظل مُريحة لكل من ينشُد الحِياد وينطلق ليس متحزباً لقبيلة أو مُتحيزاً لفئة، وقال إن مبلغ علمه عن المقولات المُتداولة انحصر في السائد من تسمية للخرطوم بهذا الاسم لأن منطقة المُقرن تُشابِه إلى حدِ ما خرطوم الفيل، وأن الشارة التي كانت على صدر طُلاب مدرسة الخرطوم الثانوية إلى عهد قريب كانت عبارة عن "رأس فيل" تأسيساً على تلك المقولة، وأكد الباحث في هذا الصدد أن المقولة الخطأ إذا انتشرت انتشاراً واسعاً تتحول من مقولة إلى عقيدة ويُصبح تبديدها كفر بواح، واستدل على ذلك بأنه على مرّ التاريخ كان يُعتقد أن الشمس تدور حول الأرض ولما أثبت عُلماء الفلك أن الأرض هي التي تدور ثارت الزعامة الدينية المتمثلة في الكنيسة وهددت بقتل كل من يقول بذلك . في تقصي البروفيسور جعفر ميرغني عن كُنه الخرطوم قال إن تقصيه جاء حنيفاً لا أراءً مُسبقة فيه ولا مِيول، كما أكد أنه اعتزل كل العقائد التي لم تثبُت صِحتها، وبذلك يقدم الأنموذج للبحث الذي يجب أن يتجنب خلاله الباحث الإتيان فيما هو مُقدم عليه برأي مُسبَّق حتى لا تكون هناك انتقائية تُسيير الذهن.. وقد بدأ البروف بحثه بتأكيد أن تاريخ المنطقة ينفي مزاعم أنها قبل العهد التركي لم تكن شيئاً مذكورا، وأن الحديث عن عدم وجود للخرطوم قبل التُركيِّة خطأ جسيم ولا أدل على جسامته من الشسوع أو الاتساع والضخامة للمدافن التي لفتت نظر أحد المؤرخين الإنجليز الذين جاءوا أيام العهد التركي . إذ كانت هناك مقبرتان، مقبرة شرق المسجد الكبير الحالي إلى مقر الدار السودانية للكتب الحالية والثانية عند مستشفى الخرطوم، وكانت المقبرتان تقبران آلافاً مؤلفةً من الموتى، وهذا يؤكد أن الخرطوم هي خرطوم ما قبل العهد التركي، والذين قالوا بظهور الخرطوم مع التركية قال الباحث عنهم إنهم لم يجدوا كتابات وافرة تؤكد أنها كانت موجودة، ومن إشكالات الباحث أحياناً أنه يعتبر أن الشيء المجهول غير موجود . تبقى أن ندلُف إلى استكشافات الباحث عن تاريخ المنطقة والمجال التداولي للاسم في مناطق أُخرى وتتبعه للجذر اللغوي للاسم وتأثيرات اللغات المختلِفة عليه ومراجعته لصفة المكان وجغرافيته وبحثه عن التركيبة السكانية للمناطق التي تحمل اسم الخرطوم .. وهذا ما نُحاول البسط فيه في المقال القادم إن شاء الله .