بعثة منتخبنا تشيد بالأشقاء الجزائرين    منتخبنا المدرسي في مواجهة نظيره اليوغندي من أجل البرونزية    إتحاد الكرة يحتفل بختام الموسم الرياضي بالقضارف    حادثت محمد محمد خير!!    هل محمد خير جدل التعين واحقاد الطامعين!!    دقلو أبو بريص    كامل إدريس يلتقي الناظر ترك ويدعو القيادات الأهلية بشرق السودان للمساهمة في الاستشفاء الوطني    أكثر من 80 "مرتزقا" كولومبيا قاتلوا مع مليشيا الدعم السريع خلال هجومها على الفاشر    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عودة إلى النبي موسى وإخناتون والختان .. بقلم: د. خالد محمد فرح
نشر في سودانيل يوم 02 - 05 - 2012

نشر صديقنا الباحث والكاتب الفطن والمثابر ، الأستاذ عبد المنعم عجب الفيا قبل نحو أسبوعين تقريباً من الآن ، مقالاً دسماً وموحياً ومغرياً بالتعليق والتعقيب عليه تحت عنوان: " عن النبي موسى والختان واخناتون " ، ناقش في متنه بعض الروايات المكتوبة ، وكذلك المتداولة شفاهةً ، حول صلة النبي الكريم " موسى بن عمران " بأرض السودان ، فضلاً عن تناوله بالنقاش لطائفة من الآراء التي خطتها أقلام بعض الكتاب والباحثين المحدثين ، حول الأصل العرقي للنبي موسى عليه السلام ، مثل رأي عالم النفس السويدي " سيغموند فرويد " الذي عبّر عنه في كتابه الموسوم ب " موسى والتوحيد " ، أو Moses and Monotheism كما يعرف عنوانه في نسخته الإنجليزية التي صدرت في عام 1938 م.
وتطرق الأستاذ عجب الفيا في مقاله الذي نحن بصدده أيضاً ، إلى بعض المسائل المتعلقة بتاريخ الأديان ، وخصوصاً الكتابية منها ، وما يُزعم من وجود صلة بينها وبين مختلف العقائد والنحل التي كانت سائدة في الحضارات القديمة في مصر ، وبلاد الشام ، وأراضي ما بين الرافدين القديمة ، مع إشارة خاصة إلى بعض العادات والتقاليد الاجتماعية ، والممارسات الطقوسية والثقافية ، مثل عادة ختان الذكور على سبيل المثال.
تساءل الأستاذ عجب الفيا في مستهل مقاله ، بعد أن أعاد إلى الأذهان ما سبق أن ذكره في مقال سابق له بعنوان: " السودان في الكتاب المقدس " ، من أن التوراة قد نصت صراحة على أن موسى تزوج بامرأة من " كوش " ، التي هي السودان الحالي في رأيه ، وفي رأينا نحن كذلك ، تساءل بما معناه: هل أن شُعيباً الذي زوّج ابنته لموسى ، كان هو الآخر سودانياً من كوش ؟.
قلتُ: كون أن شيخ " مَدْيَنْ " الذي تلقبه التوراة ب " كاهن مديان " ، وتطلق عليه اسمين هما: " يثرو " و " رعوئيل " معاً ، والذي تزوج موسى إحدى ابنتيه الاثنتين كما في القرءان ، أو السبعة كما في سفر الخروج ، هو نفسه النبي " شُعيب " عليه السلام ، الذي لا ذكر له البتة في التوراة ، إذ هو من أنبياء العرب كما جاء في الحديث الصحيح ، فإن ذلك ليس من المذكور في القرءان قطعا ، بيد أنه غدا رواية " فولكلورية " إسلامية عربية شائعة ، اشتملت عليها الكثير من القصص والروايات ، بما في ذلك بعض تفاسير القرءان الكريم ، فضلاً عن بعض مأثورات الأدب العربي نثراً وشعرا. قال أبو العلاء المعري مهنئاً ممدوحاً له بالزواج حديثاً ، واصفاً إياه وعروسته بالتدين والعفة ، مع الغنى واليسار في ذات الوقت:
كنتَ موسى وافتهُ بنتُ شُعيْبٍ غيرَ أنْ ليس فيكما من فقيرِ
وقد كنتُ أنا دائماً أتساءل: هل الموضع الجغرافي المسمى: " مرسى شعيب " الواقع على ساحل البحر الأحمر إلى الشمال قليلا من مدينة " بورتسودان " ، اسم قديم أم مستحدث ؟ وإلى أي عهد يعود ؟. ولم أجد في الواقع رداً على تساؤلي هذا حتى الآن.
هذا التساؤل مهم في تقديري ، وخصوصاً من وجهة نظر الجغرافيا التاريخية لعدوتي البحر الأحمر الشرقية والغربية كليهما. ذلك بأنه لئن كانت معظم المصادر تنسب مدين أو " مديان " تقليدياً إلى المنطقة الواقعة شرق خليج العقبة مباشرة ، وإلى الجنوب منها قليلاً في منطقة شمال غرب الجزيرة العربية ، إلا أن بعض المصادر القديمة منها والحديثة ، ترى أن " مدين " كانت تقع في ديار " البجه " بشرق السودان الحالي ، أي بالضفة الغربية للبحر الأحمر. وكان الدكتور جعفر مرغني قد سمى بعضاً من تلك المصادر القديمة التي ذكرت ذلك ، في مقال له بعنوان: " من أدبيات التخوم السودانية المصرية " ، نشره بمجلة " حروف " التي كانت تصدرها " دار جامعة الخرطوم للنشر " في مطلع تسعينيات القرن الماضي. وأحسبه قد ذكر من بين تلك المصادر كتابي: " بليني " و " استرابو ". وقيمة هذين المصدرين أنهما كانا محايدين تماماً في ذلك العهد ، وقت صدورهما وبداية تداولهما ، ألا وهي الفترة ما بين القرن الأول قبل الميلاد ، والقرن الأول بعده. ذلك بأن مؤلفيهما لم يكونا يصدران عن أية انحيازات أو مواقف مسبقة ، نظراً لأنه لم تكن لهما أدنى صلة بالعرب أو العبرانيين أو المديانيين ، أو اليهودية ، أو المسيحية ، أو الإسلام بطبيعة الحال.
أما من بين المصادر الحديثة التي تذهب إلى أن مدين قد كانت تقع في أرض السودان ، فمعجم " تِنديل " للكتاب المقدس ، أو Tyndale Bible Dictionary (1).
ولما سألنا الشيخ قوقل بن الأثير العنكبوتي حفظه الله عن مديان Midian ، أخرج لنا من جعبته ما يلي:
" مدين (مديان) موضع جغرافي ، واسم لشعب مذكور في الكتاب المقدس وفي القرءان ، يرجّح " ويليام ج. ديفر " أنه كان موجوداً في شمال غرب شبه الجزيرة العربية ، على الساحل الشرقي لخليج العقبة على البحر الأحمر ( الحجاز ). ولكنّ بعض العلماء يعتقدون انه موجود في مكان ما داخل السودان ، أو حواليه " أ. ه
Midian is a geographical place and a people mentioned in the Bible and in the Quran. William G. Dever suggests it was located in the “northwest Arabian Peninsula", on the east shore of the Gulf of Aqaba on the Red sea (the Hejaz). Some scholars believe it to be somewhere in or around Sudan." (2)
ذكر الكاتب أن هنالك بعض الروايات الشعبية المتداولة في السودان كما قال ، التي تميل إلى نسبة موسى بن عمران نفسه إلى أرض السودان ، واعتبار أنه أحد أبنائها ، أسوة بشخصية الخضر ، أو العبد الصالح المذكور في القرءان في سياق قصة موسى ، والذي يقولون بسودانيته هو الآخر.
أما الرواية الخاصة بسودانية الخضر بالذات ، وبالتقاء موسى معه بمجمع البحرين ، الذي هو عندهم " مقرن النيلين ، أو ملتقى النيلين " الأزرق والأبيض اللذين يلتقيان في الخرطوم ، فإنها تبدو رواية فاشية وقديمة ، خصوصاً في أوساط بعض المتصوفة وأرباب الكشف في السودان كما قال المؤلف. ولكن القول بسودانية موسى عليه السلام نفسه ، فكأنه تطور جديد ومستحدث ، بدأ يظهر مؤخراً ضمن آراء نفر من الباحثين المعاصرين ، والمتعلمين منهم تعليماً حديثا على وجه التحديد ، وليس تعليماً تقليديا. وهي – على كل حال – آراء تنطوي في نظرنا على غير قليل من الرجم بالغيب ، وعدم التثبت ، وربما محض الشوفينية ، والميل مع الهوى الوطني ، الذي يستبطن الرغبة في اجتذاب المفاخر والمآثر إلى البلاد ، عن طريق نسبة شخصية عظيمة مثل موسى عليه السلام إليها ، حتى لو اصطدم ذلك مع الثابت والقطعي الدلالة من مقتضيات العقائد الدينية الثابتة ، وأحكام الكتب السماوية المنزلة.
وفي الواقع ، فإن كثيراً من المشتغلين بعلوم الميثلوجيا ، وتاريخ الأديان ، والأنثربولوجيا الثقافية للشعوب القديمة الخ .. في هذا العصر ، سواء كانوا عرباً أو غربيين ، يميلون في أغلب الأحيان إلى الاعتقاد في أن القصص والروايات الواردة في التوراة ، والإنجيل والقرءان ، إنما هي مجرد أصداء لقصص وروايات وأساطير كانت شائعة في آداب الشعوب السامية القديمة ، بالإضافة إلى حضارة مصر الفرعونية بالطبع ( انظر في هذا الباب كتابات باحثين عرب معاصرين مثل: الفلسطيني زياد منى، والسوري: فراس السواح ، والمصري أحمد عثمان على سبيل المثال ) . فجلّ هؤلاء يفترضون افتراضاً بغير دليل ثابت ومقنع ، أن ما تم ويتم العثور عليها من أساطير تلك الشعوب ، والتي قد تتشابه كثيرا أو قليلا مع روايات الكتب السماوية ، هي أقدم تاريخياً من الوقائع التي تشير إليها مرويات الأديان الكتابية ، ولا يميلون إلى أن يفترضوا ولو جدلاً ، أن يكون العكس هو الصحيح. بمعنى أن تكون تلك الأساطير محض مضاهاة ، أو أصداء خافتة بسبب تقادم العهد ، لأحداث ووقائع حقيقية حدثت في أزمان سحيقة على النحو الذي صورت به في الكتب السماوية. إن الموضوعية والأمانة العلمية تقتضيان ذلك بكل تأكيد. هذا مع علمنا بأن القرءان الكريم نفسه قد أخذ على بعض أهل الكتاب ، تقليدهم و تبنيهم لأفكار الأمم الوثنية الغابرة ، وخصوصاً في مجال العقيدة ، مثل تأليه البشر ، واعتبار العظماء من ملوك وقادة روحيين أبناء لله الخ. ومصداق ذلك قوله تعالى: " , وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ، ذلك قولهم بأفواههم ، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ، قاتلهم الله أنى يؤفكون " الآية.. (3)
وهنا أيضاً تتغلب الإيديلوجيا ، ورغبات النفوس وأهواؤها ، والتكاثر من المفاخر والمآثر الوطنية أيضا ، أو حتى محض الجرأة والتجاسر ، وحب الظهور ، على مقتضيات الموضوعية والتجرد العلمي ، بل التواضع المعرفي في بعض الأحيان.
وفي هذا السياق نفسه تندرج زلات سيغموند فرويد في كتابه " موسى والتوحيد " الذي أشار إليه وانتقد مقولاته محقاً ، وبنهج موضوعي صارم أيضاً ، الأستاذ عبد المنعم عجب الفيا في هذا المقال الماتع.
فنحن نؤيد ما ذهب إليه عجب الفيا في نقده لفرويد بأن كون ان النبي موسى قد سُمي باسم مصري ، لا ينهض دليلاً كافياً على انه هو نفسه من أصل مصري. ذلك بأن العبرانيين ، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من الشعوب ، عندما تختلط بشعوب أخرى ، فإنها تتأثر بها لا محالة. وبالتالي فإنه ليس من المستغرب أن تسمي مواليدها بالأسماء الشائعة بين تلك الشعوب التي ساكنتها أو اختلطت بها.
خذ مثلاً اسم: " مردوخ " أو " مردوك ". إنه اسم كبير الآلهة عند البابليين ، ولكنه قد شاع وفشا بين العبرانيين لأجيال عديدة ، ولعل ذلك من آثار ما يسمى بفترة السبي البابلي المؤرخ لها ما بين القرنين السابع والسادس قبل الميلاد. ولعل من أشهر الشخصيات اليهودية المعاصرة ، " روبرت مردوخ " ، صاحب الإمبراطورية الإعلامية الشهيرة ، وهو استرالي الجنسية.
ثم إن ( سغموند فرويد ) نفسه الذي يقال إنه كان " يهوديا " ، يشك في عبرانية موسى عليه السلام استناداً إلى اسمه المصري الأصل ، بينما أن فرويد نفسه ، يحمل اسماً أوروبيا خالصاً ، لا علاقة له البتة بأسماء العبرانيين ، مثله في ذلك مثل الملايين من أضرابه اليهود المعاصرين الذين " تأوربوا " ، أي صاروا أوروبيين ثقافياً ، ولغوياً ، وربما عرقياً أيضا.
أما الحجة الأخرى التي استند إليها فرويد في محاولته رد عبرانية موسى ونسبته إلى أصل مصري ، وهي أنه لم يكن طلق اللسان في الحديث ، فإنها لعمري حجة واهية ، وأكثر تهافتاً من سابقتها. ذلك بأن موسى قد اعتذر بعدم طلاقة لسانه عندما أمره الله عز وجل بأن يذهب إلى فرعون ويخاطبه برسالته ، ويطلب منه إطلاق سراح بني إسرائيل لكي يخرجوا معه إلى الأرض المقدسة. فلو كانت تلك الحُبسة في لسان موسى بسبب أصله العرقي الذي رجح فرويد أنه كان مصريا ، لما كان لها من سبب أو مسوغ أصلاً طالما أنه مصري بزعمه ، لأنه إنما طُلب منه ابتداءً مخاطبة الفرعون المصري وحاشيته. والراجح هو أن تلك الحبسة في لسان موسى ، قد كانت بسبب عارض خلقي ما ، عضوي أو نفسي ، وليس بسبب أصله العرقي غير العبراني بزعم فرويد ومشايعيه. ولعل من المرجح عقلاً ومنطقاً كذلك ، أن يكون العبرانيون قد صاروا بعد مكوث أربعة قرون في مصر ، منذ دخول أسلافهم إليها في عهد يعقوب ويوسف ، جماعة ثنائية اللغة كلياً أو جزئيا.
وغني عن القول كذلك ، أن التلازم بين الهوية العرقية والهوية اللغوية ، مما لا يقع و يتفق دائماً ، وفي جميع الأحوال ضربة لازب. فهؤلاء هم الفولاني مثلاً الذين يتحدثون لغة تنتمي إلى أرومة لغوية واحدة تشترك معهم فيها شعوب زنجية كثيرة في إفريقيا ، وهم ليسو زنوجا. وهؤلاء هم التوتسي والهوتو المعاصرين الذين يتكلمون لغة واحدة ، وهم مختلفون سُلالياً كما يقال.
أما المصدر الذي أخذ منه كل من الكاتب والمؤرخ اللبناني " نعوم شقير " مؤلف كتاب: " تاريخ السودان وجغرافيته " الذي صدر في عام 1903 م ، وسيغموند فرويد في كتابه: " موسى والتوحيد " قصة ذهاب موسى على رأس جيش مصري إلى إثيوبيا ( أي بلاد النوبة أو السودان ) ، وهو بعد شاب فتيّ يعيش في بلاط فرعون ، ولم يهتد إليه صديقنا عجب الفيا فيما يبدو ، فهو بلا شك كتاب: " العاديات اليهودية " أو The Jewish Antiquities لمؤلفه الحبر اليهودي ، ثم المواطن الروماني من بعد " يوسف بن متى " الذي يعرف اسمه على نحو أشهر بصيغته الرومانية: " جوزيفوس فلافيوس " Josephus Flavius المولود في عام 37 والمتوفى في عام 100 ميلادية.
وبالفعل فإن جوزيفوس فلافيوس قد ذكر في كتابه المشار إليه ، إن موسى قاد جيشاً إلى إثيوبيا ( السودان ) ، وذكر فيه خبر الحيات وطيور أبي منجل ، فضلاً عن قصة حصار عاصمة الإثيوبيين ، وتمكين الأميرة ابنة ملك الأثيوبيين موسى من احتلالها ، بعد أن وقعت في حبه.
وقد نص جوزيفوس فلافيوس حرفياً على أن عاصمة الإثيوبيين التي احتلها موسى ، كانت تسمى " مروي ". وبالطبع فإنه ليست هنالك مملكة من ممالك العالم القديم ، كانت عاصمتها تسمى مروي غير بلاد السودان. (4 )
أما اخناتون ، أو الفرعون " امنحتب الرابع " ، الذي عاش وحكم في القرن الرابع عشر قبل الميلاد ، أي قبل موسى عليه السلام بنحو قرن أو يزيد قليلا تقريبا ، والذي يحلو للبعض أن يصفه بمؤسس التوحيد ، فإنه ما زاد في الواقع على أن استبدل عبادة آمون الإله الخروف ، بآتون الإله قرص الشمس. هذا إلى جانب أن ما خلفه لنا من تركة عقائدية وثيولوجية – على ضآلتها وغموضها – لا تشي بأي شيء يدل على مقتضيات توحيد الله تعالى ، فضلاً عن أنها ليس فيها أي ذكر للأنبياء الموحِّدين الكثيرين الذين سبقوه تاريخيا قطعاً وبكل تأكيد ، ولم يقل أنه يسير على هديهم ، مثل: نوح ، وإبراهيم ، ويعقوب ، ويوسف وغيرهم. فكيف يقال إن موسى تعلم التوحيد منه ؟. وما من شك في أن موسى عليه السلام ، قد كان يستقي من معين معرفي وثيولوجي مختلف تماماً عن ذلك الذي استقى منه اخناتون الذي انتهت ثورته الفكرية ، أو هرطقته بحسب معاصريه من الكهنة وعامة المصريين إلى لا شيء.
أما موضوع الختان ، فإنه يبدو حقيقةً موضوعاً شائكاً ، يصعب البت في أمره على نحو يقيني. بمعنى: أين بدأت ممارسته ؟ وكيف انتقلت إلى أماكن أخرى ؟ ومن تأثر فيه بمن ؟ الخ. على أن هنالك عبارة في التوراة ، وردت في سفر الخروج ، ذات صلة وثيقة بالختان ، كانت وما تزال تسيل حبراً كثيراً في محاولات شرحها وتفسيرها.
وفي ظني الخاص ، أن قراءة انثربولوجية وفولكلورية ولغوية سودانية خالصة لهذه العبارة ، ربما أدت إلى فهمها الفهم الصحيح ، الذي ندّ عن سائر شراح الكتاب المقدس شرقاً وغربا ، وربما يكون ذلك الفهم دليلا أو بينة ظرفية أخرى ، في سبيل تأكيد سودانية " صفورة " امرأة موسى " الكوشية " كما تقول التوراة. فقد جاء في ذلك السفر أن زوجة موسى قد قالت لابنها الصغير بعد أن ختنته بفلقة حجر حادة ومسنونة ما معناه: " أنت عريس دم لي ! ".
ونص الفقرة المعنية من سفر الخروج هي كما يلي: " فأخذت صفورة صوانة ، وقطعت غرلة ابنها ، ومست رجليه ، فقالت: إنك عريس دمٍ لي ، فانفك عنه .. حينئذٍ قالت عريس دمٍ من أجل الختان " أ.ه (5)
وفي حدود ما نعلم ، فإنه لا يسمى الصبي المختون حديثاً ، أو " ود الطهور " كما نقول في كلامنا " عريساً " ، ولا يعامل كمعاملة العريس تماما ، في الزي والزينة وكافة الطقوس الأخرى إلا في السودان. وعبارة " فمست رجليه " مشعرة هي الأخرى بممارسة طقوسية وفولكلورية سودانية عتيدة ملازمة للعرس والختان دوما ، ألا وهو تدليك بشرة العريس الحقيقي أو المجازي ( ود الطهور ) أو مسحها بالطيب. فكأن تلك الأم قد مسحت رجلي ابنها بطيب أو دهن ما ، أو لعلها خضبته بالحناء كما يفعل بالصبي المختون عندنا إلى هذا الوقت. فلعل هذه العبارة أن تكون من الموروث السوداني القديم ، الذي ما يزال مستمرا ، ومتواصلاً في صلب ثقافتنا إلى يوم الناس هذا.
إحالات مرجعية:
(1) Walter A. Elwell, Phillip Wesley Comfort, Tyndale Bible Dictionary, Tyndale house Publishers, USA, 2001, PP.341
(2) www.en.wikipedia.org/wiki/Midian
(3) سورة التوبة ، الآية 30
(4) Josephus Flavius, The Jewish Antiquities, Book 2, Chapter 10, “How Moses made war with the Ethiopians", www.biblestudytools.com/history/flavius-josephus/antiquities-jews/book-2
(5) سفر الخروج ، الإصحاح 4: 25 ، 26.
khaled frah [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.