تقرير : (smc) في السياسة العالمية من السهل جداً، بل من الطبيعي فهم مواقف واتجاهات الأنظمة والحكومات عبر نظامها الدبلوماسي أو سياساتها المعلنة، ولكن هذا الأمر يصعب تفسيره او حتى تحديد ملامحه كما الحالة التشادية في تعاطيها السياسي والدبلوماسي مع الموقف أو السياسة السودانية ... وهي حالة باتت تشكل إحدى أهم الهواجس في طبيعة النزاعات الإفريقية، فالنظام التشادي القائم لم يشأ ان يمارس قدراً كافياً من التعنت وعدم الانتباه والتدارك لخطورة التمادي في صناعة الأزمات ونقض العهود والاتفاقيات المبرمة بين الخرطوم وإنجمينا. ورغم ان الأجواء السائدة الآن بين الدولتين السودانية والتشادية بدأت عليها بعض ملامح الرشد والتعقل عبر حراك دبلوماسي حذر، إلا أن ما خلفته سنوات القطيعة السياسية بين (الجارتين) من رواسب ومرارات سياسية كفيل بإجهاض أى محاولة لإصلاح الأوضاع وإعادة العلاقات إلى حالة التطبيع، ولهذا فإن المرونة التي تتبدى في الأفق السياسي أو الدبلوماسي بين الخرطوم وإنجمينا سرعان ما تتحول الى توترات أمنية وحروب سياسية وإعلامية، هذا هو الشكل الظاهر في طبيعة الحراك السوداني التشادي. وهذا لا يعنى أنه ليس هناك أمال في ان ينصلح الحال بين هذين الطرفين. فالفرص لا زالت موجودة ويمكن تحريكها واستثمارها لصالح الشعبين السوداني والتشادي، خصوصاً ان عوامل الربط والتداخل بين هذين الشعبين أقوى وأكبر من أى روابط أو عوامل أخرى بين الحكومة السودانية والتشادية، وهذه هي الحقيقة الوحيدة التي تجعل بالإمكان تحقيق أفضل من ما هو كان، هذا على المستوى الطبيعي، ولكن الوضع الاستثنائي الذي يعايشه نظام إدريس ديبي هو الذي يرسم علامات المستحيل لأية محاولة تبتغى إصلاح الشأن السوداني التشادي أو هكذا يعتقد المراقبين لشكل وطبيعة العلاقة ما بين الخرطوم وإنجمينا. صحيح ان ما تم من تعهدات واتفاقات ثنائية بين الحكومتين كفيل بمعالجة هذه الأزمة على المستوى النظري، ويبقى التطبيق (رهين) محركات أخرى ربما ليس في مقدور العامة معرفة حقيقة ما يجرى داخل قصور الرئاسة في إنجمينا، إلا ان الذين يتابعون تطورات الموقف التشادي وسياساته يدركون كافة الحقائق التي تعترض إمكانية إعلان سياسة تشادية تقبل التصالح والتصافي مع الحكومة السودانية . ويبدو ان آخر (تجليات) الحكومة التشادية تفكيرها في ان تلغى كل الاتفاقيات التي وقعتها مع الحكومة السودانية والبحث عن اتفاق جديد دون إبداء أى مبررات منطقية لهذا التفكير أو التوجه التشادي، وهذا ما رفضته حكومة الخرطوم جملة وتفصيلاً مع إبداء الرغبة في أى حوار أو لقاءات سياسية ودبلوماسية (تلطيفاً وتهيئة) للأجواء بين الطرفين. ولعل ما ترجوه الخرطوم الاعتراف من نظام إدريس ديبى بكل الاتفاقيات السابقة الموقعة بين الطرفين، والعمل على تفعيلها وإنزالها إلى أرض الواقع، وهذا ايضاً لا يرضى أصحاب (السيادة) ولا يلبى طموحاتهم واستراتيجياتهم في المنطقة. وما يجب إدراكه ان هناك معطيات سياسية جديدة في الساحة الإفريقية، وهي ان المجتمع الدولي وخصوصاً الدول الكبرى بدأت في التفكير (العلني) والجاد لإيجاد منافذ ومداخل إلى القارة الإفريقية، وهذا التفكير تحكمه وتحركه صراعات دولية ليست متطورة أو معلنة بشكل واضح، ولكنها تستشف من طبيعة الحراك والاهتمام الدولي إزاء القارة الإفريقية، لا سيما المنطقة الغربية منهاويعتبر النزاع السوداني التشادي أحد أهم المحفزات الذي تدعم التفكير الدولي لتلبية أطماعه داخل القارة الإفريقية. ومن المعطيات ايضاً دخول الدور الروسي في لعبة دارفور وبشكل أعتبره الدكتور فاروق محمد آدم الخبير في شؤون دارفور تدخل مهم لتحقيق التوازن الدولي في التعامل مع قضية دارفور، فقضية دارفور لا يجب النظر إليها بمعزل عن الملف الأمني بين الخرطوم وإنجمينا، كما أن التوجه الروسي نفسه تجاه دارفور تحكمه معطيات دولية تأخذ من الصراع السوداني التشادي معبراً أساسياً للدخول في قضية دارفور عبر بوابات ومزاعم عدة. وتؤكد مؤشرات المشهد السياسي القائم على مسرح دارفور أن هناك خطى متسارعة تقودها آليات المجتمع الدولي ومنظماته لرسم ملامح جديدة على واقع دارفور، أكثر ما تسعى إليه تجاوز مرحلة المأساة وحماية الأمن والاستقرار هناك، وهذه الخطى ليست بالضرورة ان تكون كلها تصب في الاتجاه الموجب والمتصالح مع الموقف الرسمي السوداني . وربما كانت دولة روسيا هى اللاعب الأساسي الذي دخل بكلياته مؤخراً في صراع الحكومة السودانية مع المجتمع الدولي بشأن ملف دارفور وقضية النزاع السياسي بين الخرطوم وإنجمينا. وربما تشهد المراحل القادمة تفاعل الدور الروسي مع القضايا الإفريقية بشكل كبير وواضح من خلال تعاطي روسيا لقضية دارفور والدخول عبر بوابتها لإفريقيا، حسبما يرى الدكتور فاروق محمد أدم المحلل والخبير السياسي في شأن دارفور . وفي موازاة كل ما يجرى من حراك وتفاعل إقليمي ودولي إزاء هذه القضية وتداخلاتها مع ملف العلاقات السودانية التشادية، فإن الحكومة السودانية تبدى قدراً من المرونة والتجاوب من أجل معالجة وتجاوز الخلافات السودانية التشادية، حيث ان القيادة السودانية هي التي بادرت بتحريك عملية التبادل الدبلوماسي وتنشيط اللقاءات الرسمية بين الطرفين، وما زيارة مستشار السيد رئيس الجمهورية الدكتور غازي صلاح الدين الأخيرة الى إنجمينا إلا تأكيداً لما ترغب فيه الحكومة السودانية، وهي زيارة ربما كان لها مردود طيب وموجب لتنقية ما علق بالأجواء السودانية التشادية في تجاذبات وتوترات سياسية وأمنية ودبلوماسية، وهي خطوة وصفت بأنها تحتاج لقوة دفع من الجانب الآخر، وتحتاج ايضاً الى مباركة ومساندة من عقلاء القارة الافريقية بصفة خاصة ومن المجتمع الدولي الراغب في الاصلاح بين الدولتين بصفة عامة. ومن بين المؤثرات التي تؤكد على النهج المرن الذي تتبناه الحكومة السودانية الآن بشأن نزاعها مع الجارة تشاد، ان الحكومة تدعم وبشدة كل محاولات الآخرين، بل تسعى لهم للعب أدوار سياسية تدفع في الاتجاه السلمي والتفاوضي مع حكومة إدريس ديبي، كما أن الحكومة نفسها تبدو حريصة على عقد شراكات أمنية مع بعض دول الجوار الافريقي في سبيل تحسين التعاون الأمني وحماية الحدود والحد من التوترات أو قيام تشكيلات وحركات مسلحة مناهضة للأنظمة الحاكمة في البلدان الافريقية. وربما كانت هذه القضية هي جزء من أهداف التوقيع على برتكول أمني بين السودان ونامبييا والذي تم في غضون الأيام القليلة الماضية بالخرطوم. وزيارة المستشار الرئاسي الدكتور غازي صلاح الدين الى إنجمينا هي خطوة ضمن حزمة من السياسات والاسترتيجيات الحكومية لمعالجة كل أسباب عدم الاستقرار في المنطقة الافريقية، ولكن يبقى التحدي والرهان الحقيقى على شكل وطبيعة التعامل أو التعاطي من قبل قصر الرئاسة في إنجمينا مع السياسات والخطوات التي تتبناها الحكومة السودانية الآن مع تشاد، وقد يكون المطلوب من إدريس ديبي في هذه المرحلة ان يقود نظامه نحو إرادة وانعتاق حقيقى من أى (روابط) خارجية، وأن يعلى إدريس ديبي من النظرة الوطنية تجاه المنطقة .. ملفات كثيرة ومصالح كبيرة بين البلدين تعطلت وأختل التعاون الاقتصادي والتواصل الاجتماعي والثقافي بسبب هذه التوترات. ليس المطلوب من النظاميين في الخرطوم وتشاد التوقيع على الوثائق والاتفاقية فقط ،بقدر ما ان المطلوب البحث وبشكل جاد عن حقيقة وحجم المكونات الخارجية في شكل النزاع السياسي بين الخرطوم وإنجمينا. فهذه الخطوة إذاً تمت فمن شأنها تسهيل عملية الحوار الثنائي بين الطرفين. صحيح ان الوساطة لها دورها وإسهامها في تقريب الشقة بين الطرفين وحملهما الى قاعات التفاوض .. ولكن يجب ألا يترك لهؤلاء الوسطاء عملية وضع وترتيب الأجندة التفاوضية، فهذه عملية يجب ان تبقى (حصرية) للأطراف المتفاوضة حتى لا يدخل من بين هذه الأجندة ما هو خارج سيادة الدولتين، ذلك ان التجارب السابقة كان دور العامل الخارجي كبيراً في ترتيب الأجندة التفاوضية الأمر الذي عجل بإنهيار كامل لهذه الاتفاقيات، وهذا ما لا يجب تكراره في اى مفاوضات او اتفاقيات لاحقة.