ثمة تراتيب تستمد ديمومتها من قُدرتها على التأثير المُحدث .. وليس من صِحتها أو من عدالتها أو من ضرورتها .. وكما يُقال (إن الأفكار أشبه ما تكون بالفيروسات ، فهي تعيش وتنتشر عندما تجد استعداداً لتقبُّلها ، وتموت وتندثر عندما تواجه مناعةً ترفضها وتقطع تواصلها) .. ما يحدث الآن ليس سوى أفكار تسربت إلى العقول وتغلغلت في النفوس لا لأنها عادلة ، إنما لأنها طُرحت في مُجتمعات ضعيفة المناعة وغير مُحصنة بما يكفي رُغم ما تحملُه هذه المُجتمعات من قيمٍ ومبادئ . في هذه الحالة ، لا يجدي التلاعُب بالألفاظ بقدر ما يتطلب الموقف إبانة ليست للإدانة والشجب أو الإعراب عن القلق ، بل لتقوية المناعة ومُحاولة إدراك ما يُمكن إدراكه ، فالعد العكسي للقضية محل المقال تُظهِره الأنباء التي تواترت عن فقدان السيطرة على المسجد الأقصى بالكامل ، ومنع الصلاة فيه جُملةً ، كما تولَّدت عن أحداث الأقصى كارثة وفيها ظهرت فتاة عارية تجوب باحة المسجد وقد فشلت كل مُحاولات إرغامها على السِتر لكي لا يترتب على هذا الموقف المُستفز غضبة مُضرية ، لكن شيئاً من غضبة لم تحدث ، ولم يرتفع الدم إلى مستوى ألجِمة الخيل .. إلا أن الذي حدث يصلُح لإعادة تفسير لماذا تُحاصَر حماس ويُضيِّق على الإسلام السياسي المُعتدل .. تلك إذن قضيتنا ومحور حديثنا . أذكر ، وتذكرون أنها أفصحت عن استراتيجية بلادها نحو الشرق الأوسط الجديد في العام 2006م إبان توليها مهام صُنع السياسة الخارجية ، والتي أُسست على أخاطيط تسرَّبت إلى العُقول وتغلغلت في النفوس ، فكانت غاية هذه الإستراتيجية أن ينتقل الصراع من (عربي إسرائيلي ) إلى (سني شيعي) ليس ذلك فحسب بل العكوف على تطويِّر العلاقة بين العرب وإسرائيل إلى حِلف استراتيجي قوي .. ومنذ ذلك العهد أصبحت التراتيب أو الأفكار التي هي أشبه ما تكون بالفيروسات ، تعيش وتنتشر كلما وجدت استعداداً لتقبُّلها بالترغيب مرة وبالترهيب والتخويف مرَّات . ماذا حدث ؟ لم يعُد يجوز ولم يكن جائزاً في الأساس القفز على المراحل والنظر بعين السطح للدور الذي أُجبرنا على لعِبه لإحراز نتائج تدعم استراتيجية الشرق الأوسط الجديد ، فأصبحنا نُجرِّب الأسلحة النارية في جسد الأُمة الإسلامية على خلفية وقف المد الشيعي أو ضرب النفوذ السُني ، فكانت الانطلاقة الدموية بالعراق .. ولمَّا تفجَّرت صحوة الإسلام السياسي المُعتدِل عبر ثورات الربيع العربي لتنبيه الشعوب بأن الخطر يكمُن في الأنظمة الحاكمة المُستبِدة العاملة لأجل التمكين لمُخطط الشرق الأوسط ، أُدخلت هي الأخرى في دائرة الاستهداف ، فاتسعت الدائرة لتشمل الإسلام السياسي بجانب توسيع الصراع بين الشيعة والسنة في سوريا واليمن وليبيا ، وأخيراً اُستحدثت أساليب المُقاطعة والحصار . إلى هذا الحد استمدت تراتيب استراتيجية الشرق الأوسط الجديد ديمومتها ، لقُدرتها على التأثير في مُجتمعاتنا الهشة ، وتمَّكنت الأفكار التي هي أشبه ما تكون بالفيروسات من العيش والانتشار في بيئة مُستعِدة لتقبُّلها ، ولم تموت أو تندثر لضعف المناعةً المُحفِّزة لرفضها وقطع تواصلها .. ما يحدث الآن ليس سوى أفكار تسربت إلى العقول المنغلقة وتغلغلت في النفوس المريضة فصرنا لا نقوى على مُناهضتها .. وصار الحليف الإستراتيجي المفروض علينا بالجبر أكثر جُرأةً منا بحيث يسمِح لفتاة منزوعة اللباس أن تنزع عنا احترامنا لأنفسنا فتبين سوءتنا .