تقلبات المشهد السياسي في السودان وضعت ياسر عرمان على رأس قطاع الشمال بالحركة الشعبية بعد التوقيع على اتفاقية السلام الشامل ودخول الحركة في مرحلة تحولات عسيرة من الحرب إلى السلام ومن الثورية إلى الديمقراطية وفي قمة نشوة سكر السلطة والامتيازات التي انهالت عليها ظنت بإمكانها الاختراق لشمال السودان وفرض برنامج السودان الجديد منهجاً عليه من خلال تكوين قطاع الشمال والذي يرى بعض المراقبين أن الحركة أخطأت خطأ كبيراً عندما أسندت رئاسته إلى ياسر عرمان الذي لا يخفي علاقته بالحزب الشيوعي . ويرى آخرون أن الحركة بعد ان أخذت نصيبها بالكامل من كيكة السلطة والثروة وضمنت حق تقرير المصير للجنوب لم تكن جادة في استقطاب الشماليين بالقدر الكافي بقدر ما هى تكتيكات تناور بها المؤتمر الوطني من خلال مغازلة خصومه من الأحزاب الشمالية والمعارضة بقدر يحفظ لها منعة من المناورة بالأحزاب الجنوبية المناوئة لها والتي تضع لها ألف حساب. ولكن مهما كانت الاحتمالات والأسباب والتأويلات يجمع المراقبون أن ياسر عرمان جعل من القطاع إقطاعية شيوعية خالصة ينشطون فيها سراً وعلانية إلا أن نتائج ذلك لم تكن في صالحهم أو في صالح عرمان إذ سرعان ما ظهرت الصراعات والانقسامات في صورة بشعة لم يمكن بالإمكان إخفائها لأن الخلايا الشيوعية حاولت السيطرة على القطاع بطريقة فجة افتقدت للذكاء مما أشعل عود الثقاب في العشب الجاف وأول ما أحرقته النيران هي مكاتب القطاع التنظيمية في ولاية نهر النيل والتي وصلت إلى مرحلة الجفاف في النشاط السياسي لتكون المحصلة في النهاية لا شيء سوى رماد النيران. وكذلك الحال في الولاية الشمالية التي وصلت إلى مرحلة حرب البيانات بين الأجنحة المتصارعة أشهرها ما صدر من ما يسمى بالحركة الشعبية جناح عثمان كنون وأمير إبراهيم واللذان انتقدا بشدة هيكلة مكاتب الحركة الشعبية بالولاية عن طريق قطاع الشمال دون انتخابات ووصفوها بأنها ممارسات شمولية وأخطاء قاتلة ارتكبها رئيس قطاع الشمال ياسر عرمان وأجهزته في إحداث تشوهات وتزوير إرادة الأعضاء وسرقة جهودهم وفرض قيادات عاجزة لا تملك أي وزن جماهيري في مناطقها ولا تملك أبجديات العمل السياسي اليومي وسط القواعد حتى انتشر الفساد المالي والإداري رغم الإنذارات المبكرة والمذاكرات والمطالب المتتالية بالإصلاح من قاعدة الهرم وحتى القمة بالرغم من عمل لجان التحقيق التي أثبتت بوضوح الفساد المالي والإداري ولكن لا حياة لمن تنادي. وفي ولاية القضارف لم يكن الوضع أفضل من الشمالية إذ انفجرت خلافات حادة على خلفية اختيار عضوية الحركة الشعبية للتمثيل في المؤتمر العام للحركة بجوبا والتي بموجبها خرجت مجموعة عن خطة الحركة في مرحلة وصلت إلى تحديها علناً بشكل درامي انتهت في النهاية بإصدار قطاع الشمال أمراً تنظيمياً بإيقافهم عن ممارسة أي نشاط سياسي أو تنظيمي في الولاية لتصبح مكاتب الحركة في الولاية كيان مشلول عاجز عن فعل أي شيء. وفي ولاية سنار التي لم تسلم من صراعات الأجنحة المختلفة والتي تتدثر بأثواب جهوية ،عما هو الحال في القضارف اذ لم تنته إلا باشتباك بالسكاكين لحسم الخلافات فكانت النتيجة دخول قيادات الحركة الى المستشفيات وأقسام الشرطة. إذن تلك الحقائق تكشف بجلاء المسيرة التنظيمية لقطاع الشمال الذي فشل حتى في مجرد حل خلافاته بصورة صحيحة داخل الأطر التنظيمية مما جعلها عرضة لأجهزة الإعلام في التناول الأمر الذي رسم صورة قاتمة حول القطاع في ذهنية الرأي العام. وعلى الرغم من تلك الصورة القاتمة لقطاع الشمال المليئة بالخلافات والتشظيات والتهالك التنظيمي يرى بعض المراقبون بأن عرمان أسرف كثيراً في الأحلام والخيالات عندما اختارته الحركة الشعبية ليكون مرشحها لرئاسة الجمهورية في حسابات اختلف حولها المراقبون إذ يرى البعض منهم أنه ترشيح غير جاد للحركة ويكشف عن زهدها في حكم الشمال والانكفاء جنوباً بدليل ترشيح رئيسها سلفاكير ميارديت لمنصب حكومة الجنوب تمهيداً للرغبة في انفصال الجنوب ، والبعض الآخر يرون أن ترشح عرمان جاء كمكافأة أدبية ومعنوية له على خدمته الطويلة الممتازة داخل الحركة الشعبية قبل انفصال الجنوب وعلى هذا الأساس أطلق عرمان العنان لأحلامه في التربع على عرش السودان ليثبت أنه جديراً بذلك وعليه استثمار الفرصة التاريخية التي أتته على طبق من ذهب مقابل عرقه الكثير الذي سكبه في الإدخال لخدمة الحركة الشعبية بحسب ما يعتقد وأيضاً إيمانه بوعود أصدقائه الشيوعيين بدعمه اللا محدود ووضع كافة خبراتهم وإمكانياتهم لدعمه حتى يصل إلى أبواب القصر الجمهوري ولكن عرمان الكادر السياسي لم يضع ويتحسب لإمكانية حدوث مفاجآت من العيار الثقيل تطيح بآماله وأحلامه بمجرد جرة قلم في جوبا ويمكن أن يصاب في مقتل بنيران صديقة إذ سرعان ما سحبته قيادة الحركة بجوبا من مارثون السباق الرئاسي في مشهد اعتبره الكثيرون أنه صوت العقل الذي يأتي متأخراً ولكن خير من أن لا يأتي مطلقاً. صدم عرمان ولم يدر ماذا يفعل سوى التسليم للأمر الواقع فليس هناك مساحة للاحتجاج وهو يعلم أنه لا يجرؤ على ذلك وفي الوقت نفسه أصيبت قواعده المتشرذمة بالذهول فخرجت تتظاهر أمام مكتب الحركة بالخرطوم تطالب بعودته إلى سباق الرئاسة ولكن فات عليها أن قيادة الحركة سحبته بعد ملاحظات ومناقشات كثيرة أبرزها تقرير د. منصور خالد الذي كشف فيه عن فشل الحملة الإعلامية لعرمان بسبب ما أسماه باستخدامه لأساليب استفزازية متعلقة بالدين مثلت القشة التي قصمت ظهر البعير. وبالتأكيد لم يكن سحب عرمان من سباق الرئاسة يمر من دون دخان إذ ظهرت تناقضات في تصريحات قادة الحركة الشعبية وكل يغني على ليلاه وهواه ما بين مدافع عن عرمان وآخر ضده في مشهد واضح يكشف عن خلافات موقوتة انفجرت فجأة ولا سبيل لاخفائها لأن مقاطعة الحركة الشعبية للانتخابات في الشمال دليل على عدم التوافق والتمترس خلف المواقف لذا كان من الطبيعي أن تبدأ تصفية الحسابات الداخلية فقادت مجموعة ياسر عرمان اليسارية حملات إعلامية لتشويه صورة رياك مشار نائب رئيس حكومة الجنوب واتهامه بصنع مؤامرة الإطاحة بعرمان من السباق الرئاسي لإضعاف الحركة من الداخل لصالح تنفيذ أجندته الخاصة. وأمام نجاح العملية الانتخابية واكتساحها من قبل المؤتمر الوطني برزت تساؤلات هامة أمام ما تبقى من قطاع الشمال المتشرذم حول كيفية ضمان مستقبلهم السياسي بعد أن خذلوا جماهيرهم التي تعلق عليها الآمال من خلال اكتساح كافة المستويات الانتخابية. حيث ترى بعض هذه القيادات أن عرمان فشل في إدارة القطاع ويتحمل المسؤولية بل واتهمته بتوظيف أموال القطاع لتنفيذ أجندته الخاصة وتبديدها في غير أوجه صرفها وقال المهندس أبوبكر الطاهر المنصوري السكرتير السياسي لقطاع بحري الريف الشمالي ومرشح القطاع للدائرة (23) بالجيلي أنهم بصدد إعداد مذكرات لرئاسة الحركة الشعبية تطالب بإقالة ياسر عرمان وتطهير القطاع من الشيوعيين الموجودين بداخله وإعادة بنائه التنظيمي من جديد حسب وصفه ليواكب تطورات الأوضاع السياسية بالسودان في الفترة المقبلة. وعزا أبوبكر تلك الخطوة بسبب ما أسماه باخفاقات عرمان المتكررة في إدارة القطاع من الجوانب الإدارية والتنظيمية وقيامه بحملة تشريد منظمة لمعظم كوادر القطاع التي تؤمن ببرنامج السودان الجديد وفكر الدكتور جون قرنق وإحلال أصدقائه الشيوعيين محلها إضافة إلى موقفه الأخير بعدم تنفيذ قرار قيادة الحركة الشعبية بالمشاركة في الانتخابات في الشمال مما جعل مرشحي القطاع يخالفونه الرأي بالاستمرار في المشاركة . هذه الحيثيات تكشف بوضوح أن الغالبية العظمى من قيادات وقواعد القطاع لا ترغب في وجود عرمان على رأس القطاع وتتساءل في حيرة عن كيفية رسم المستقبل السياسي في حال انفصال الجنوب ويقول المنصوري بثقة إنهم لا يتوقعون انفصال الجنوب بل الوحدة ، وأنهم فور إقالة عرمان وإعادة البناء التنظيمي للقطاع من أدنى مستوياته إلى أعلاه سيعملون لتحقيق الوحدة بين الشمال والجنوب. وعلى صعيد آخر رشحت أنباء صحفية عن اتجاه ياسر عرمان لتكوين حزب سياسي جديد مع مبارك الفاضل في خطوة إذا صحت تكشف عن يأسه الواضح من الحركة الشعبية التي يعلم أنها تنوي الانكفاء جنوباً والتضحية بالشمال والشماليين حتى لو كانوا مخلصين لها مثله فى مقابل انفصال الجنوب ليتأكد أن قطاع الشمال مجرد سلم تنفذ به الحركة بعض الأدوار ثم تركله بقدميها لكي لا يصعد عليه أحد.