محمد جمال عرفة لم يبدِ كثيرون تفاؤلاً باتفاق سلام نيفاشا الذي وقعته حكومة الخرطوم وحركة التمرد الجنوبية السابقة (الحركة الشعبية) حينما وُقِّع الاتفاق في يناير 2005، وحُدِّد فيه عام 2011 موعدًا للاستفتاء على مصير الجنوب: ينفصل أم يبقى ضمن السودان الموحد؛ لأن هناك الكثير من العقبات التي كانت متوقعة، سواء على مستوى الكراهية التي زرعها الغرب وقادة الحركة الجنوبية العلمانيون في قلوب الجنوبيين لأهل الشمال، أو لتعقّد الملفات نفسها، فضلاً عن عدم تمثيل الحركة الشعبية لكل الجنوب. ولهذا ظلت الخلافات بين الطرفين والتصعيد من قبل قادة الجنوب تراوح مكانها ولا تلبث تختفي حتى تعود، حتى بدأت تأخذ منحىً تصاعديًّا غير عادي في لهجة قادة الحركة الجنوبية ثم الخرطوم، تزامن مع زيارات مشبوهة للحركة الجنوبية لواشنطن وعواصم أجنبية للحصول على سلاح ودعم عسكري ولوجستي، وتلكؤ في تنفيذ الاتفاق بأكثر مما اتهموا الحكومة بعدم تنفيذه، وهو ما أثبتته محاضر اللجان المشتركة بين الحكومة والحركة ودول منظمة الإيجاد. وجاءت الخطوات التصعيدية الأخيرة بسحب 19 من وزراء ومستشاري الجنوب من الحكومة الاتحادية -بغرض تعطيل عملها- وتكثيف الاتصالات مع واشنطن، وزيارة زعيم الجنوب والنائب الأول للرئيس البشير، سلفاكير ميرديت لواشنطن ولقائه الرئيس بوش وكبار القادة هناك -بصفته الجنوبية لا الاتحادية-؛ لتثير غضب الخرطوم التي سعت للاستجابة للعديد من مطالب الجنوبيين لتعظيم خيار الوحدة بين الشمال والجنوب، خصوصًا أنه واكبها خطوات تنفيذية جنوبية على الأرض لتفعيل الانفصال الحقيقي سياسيًّا واقتصاديًّا وضريبيًّا وتعليميًّا وفي مجالات الاتصال والطيران وغيرها!!. بل إن الخطوات التي اتخذتها الحركة الجنوبية لجمع عناصر من ستة فصائل متمردة من دارفور في مدينة جوبا الجنوبية، والظهور بمظهر من يسعى لتوحيد فصائل متمردي دارفور ومساعدة الخرطوم في عملية السلام في دارفور.. هناك تخوفات من أن يكون لها -عمليًّا- هدف آخر يتصل بربط حل قضية دارفور بالجنوبيين، وتفعيل التحالف بين متمردي الجنوب ومتمردي غرب السودان، علمًا أن هذا التحالف بينهما قديم، وأثبتته الخرطوم عبر كشف صفقات سلاح نقلت من الجنوب لدارفور عام 2004 وأكده راديو ناشيونال بابلك الأمريكي. ولا ننسى هنا أن المانفستو -أي البيان الشيوعي القديم- للحركة الشعبية المتمردة الصادر بتاريخ 31 يوليو 1983م والذي أُعلن موته في سبتمبر 1991م، تحت واجهة (مقررات توريت)، كان يعتبر دارفور ضمن المناطق التي يجب أن تثور لتحقيق السودان الجديد، وأن التواصل بين متمردي الجنوب (الحركة الشعبية)، ومتمردي الغرب (جيش تحرير السودان) كان بارزًا حتى في صيغة البيان التأسيسي (المانفستو) لكلتا الحركتين؛ الأمر الذي كان مقصودًا بغرض تكتيل حركات التمرد ضد المركز في الخرطوم وإضعافه أكثر. الوصول لخط النهاية! ويمكن تفسير الهجوم الشديد المفاجئ للخرطوم والرئيس البشير على الحركة الجنوبية وزعيمها -بعد فترة ترضية وصمت على هجوم الحركة- باستشعار الخرطوم أن قطار التصعيد الجنوبي وصل إلى خط النهاية، وأوشك على تدمير محطة نيفاشا للسلام بالكامل، فجاء الهجوم كنوبة صحوة وصدمة كي تتنبه الحركة إلى أنها تنزلق لخط اللارجعة وعودة الحرب لجنوب السودان وتدرك أن مكاسب السلام أفضل من العودة للحرب. فمثلما لوَّح قادة الحركة الجنوبية بالحرب قولاً وفعلاً، بعد قول سلفاكير: إن الحرب أقرب من السلام، وحركوا وعبّئوا قواتهم على خط الحدود الجنوبية، وطردوا موظفين اتحاديين في الجنوب وهاجموا الشرطة الاتحادية، لوَّح البشير بدوره بالحرب -برغم النفي- عبر دعوة قوات الدفاع الشعبي التي لعبت دورًا هامًّا في انتصارات الجنوب لأن تكون على أهبة الاستعداد، وهو ما أزعج الجنوبيين فعلاً ولم يتوقعوه فدعوا للتعبئة العامة في الجنوب، حسبما قال باقان أموم أمين عام الحركة. بل وكان البشير أكثر حزمًا في تأكيد أن منطقة أبيي الحدودية الغنية بالنفط المتنازعة بين الخرطوم والحركة الجنوبية، لن يتخلى عن شبر منها، بعدما رفضت الحركة أربعة خيارات قدمتها الحكومة سابقًا لهم لحلها، أو حتى إدارتها بشكل مشترك لحين الاتفاق على حل نهائي للمشكلة، وظهر أكثر إصرارًا على رفضه دخول قوات أمريكية أو بريطانية لدارفور أو حتى من الدول الإسكندنافية (السويد والدنمارك) التي أهانت الرسول عليه الصلاة والسلام. الجنوب الخاسر الأكبر في الحرب ولكن ماذا لو استمر التصعيد ونجح التيار المتطرف في الحركة الجنوبية في فرض خيار التصعيد لحين الوصول إلى مرحلة الحرب مرة أخرى، خصوصًا أن زئير الحرب أصبح قريبًا بالفعل من الجنوب وجرت مؤخرًا عدة تدخلات عاجلة من اللجنة العسكرية المشتركة من الطرفين الشمالي والجنوبي لفصل قوات الطرفين عند الحدود الجنوبية ومنع إشعال فتيل الحرب؟. هنا لا بد أن نحدد الخيارات المتوقعة التي يمكن أن تلجأ لها الحركة الجنوبية، والأخرى التي يمكن أن تترتب عليها من آثار في حالة العودة للحرب، وفي كل الأحوال تشير الدلائل إلى أن الحركة الجنوبية ستكون هي الخاسر الأكبر. الخيارات المطروحة أمام الجنوبيين بشكل عام يمكن أن نحدّد جملة الخيارات المطروحة -وهي قليلة- أمام الجنوبيين فيما يلي: 1 - العودة الإيجابية للحكومة الاتحادية ولطاولة المفاوضات مع شريكها الشمالي والقبول بحد أدنى من تنازلات الخرطوم. 2 - العودة السلبية للحكومة الاتحادية، والسعي لتغيير واقع سيطرة حكومة الإنقاذ على الخرطوم عبر تنشيط التحالف مع القوى المعارضة، وربما التحالف معها في انتخابات عام 2009 البرلمانية والرئاسية على أمل تحقيق حلم إزاحة البشير عن السلطة أو إيصال حكومة أكثر قربًا منها، وهذا التصور يتماشى مع آراء تيار في الحركة يؤمن بسودان جديد تسيطر الحركة الجنوبية عليه. 3 - اللجوء لخيار التصعيد وصولاً للحرب أملاً في دعم أمريكي وغربي، وذلك وفق تصور لدى بعض قادة الحركة يقوم على فكرة أن أمريكا تسعى لهدم حكومة البشير وتفتيت السودان، وأن الضغوط ستزيد على الخرطوم بسبب فتح جبهتين في الجنوب والغرب (دارفور) وسيدعم ذلك الجنوبيين باتجاه الانفصال والسيطرة عسكريًّا على أبيي، وهذا الخيار يؤمن به التيار الانفصالي من العسكريين والسياسيين العلمانيين اليساريين الجنوبيين والذي تولى التصعيد مؤخرًا مع الخرطوم. آثار نشوب الحرب لو اندلعت الحرب مرة أخرى سيكون لها آثار سلبية على الخرطوم وعلى الجنوب على السواء، وإذا قلنا إن آثارها على الخرطوم معلومة ومتوقعة ولن تخرج عن تشديد الغرب وأمريكا للحصار والعقوبات، فضلاً عن تأخير التنمية التي بدأت على استحياء، فإن آثارها على الجنوب ستكون أشد خطرًا للأسباب التالية: 1 - العودة للحرب من جديد معناها أن تخسر الحركة الجنوبية كل المكاسب التي حصلت عليها، بداية من المناصب التي حظيت بها وأهمها النائب الأول للرئيس، مرورًا بعوائد النفط (3 مليارات دولار للجنوب)، وكل الامتيازات والمكاسب والمعونات الخارجية الأخرى التي حصلت عليها عبر السيطرة السلمية على الجنوب وإقامة هياكل حكم فيه. 2 - الحرب معناها ترك المدن والعودة للغابات وفقدان نفوذ الحركة الشعبية في الجنوب وهدم ما تم بناؤه من طرق ومؤسسات لصالح الجنوبيين الفقراء، ومعناها عودة قادة الحركة الجنوبية للوحل والطين، مشردين بعدما ظلوا عامين منعمين في الفنادق وينفقون من عوائد النفط التي حوّلتهم لسماسرة انتشرت أخبار فسادهم في التقارير المالية الدولية، وربما قصد البشير ذلك وهو يهدد بإعادة تنشيط قوى الدفاع الشعبي عندما قال: نقول للذين يريدون أن يشعلوا نار الحرب.. نريد رؤيتكم في ميدان المعركة وليس في الفنادق.. ومن يشعل نار الحرب فعليه أن يتدفأ بها!.. 3 - الحرب في الجنوب ستحيي مرة أخرى الميليشيات الجنوبية من القبائل الأخرى المعادية لقبيلة غالبية الحركة الشعبية أي قبيلة الدينكا، مثل قبائل الشُلك والنوير، خصوصًا أن هناك أكثر من 30 ميليشيًا معادية للحركة الشعبية وسيطرة قبيلة الدينكا على المناصب والنفوذ السياسي والاقتصادي، وسيحيي هذا حروبًا جنوبية أهلية داخلية ويدفع الخرطوم لمعاودة دعم هذه الميليشيات الجنوبية على حساب الحركة الشعبية، خصوصًا أن الخرطوم استفادت من عوائد النفط الأخيرة المتزايدة في التسلح وإنشاء مصانع أسلحة، وهو ما ألمح له سلفاكير في رده على البشير بقوله: إن بعض أعضاء الحزب (المؤتمر الوطني) يقومون بزيارة دول عربية وإسلامية، حيث توصلوا إلى اتفاقات بتجهيزهم بمعدات عسكرية هائلة. 4 - الحرب ستعطي الحكومة السودانية فرصة أكبر للتخلص من أعباء اتفاقية نيفاشا التي انتقدها خصوم البشير؛ لأنها تعطي امتيازات كبيرة للجنوبيين ماديًّا ومعنويًّا، كما ستعطيه فرصة لمطاردة الحركة الشعبية وتوجيه ضربات قوية لها بعدما جرى تحديث الجيش السوداني في السنوات الماضية، وتطوير قوات الدفاع الشعبي، والأهم اكتساب أصدقاء في دول الجوار كان يستعين بهم الجنوبيون. 5 - برغم المطامع الأمريكية والرغبة في تمزيق السودان، فهذه الرغبة لا تصل لحد تمني وقوع حرب شاملة في السودان أو انفراط عقده على الأقل في الظرف الراهن، وإنما انسلاخ أجزاء منه بصورة طبيعية (سياسة تفكيك النظام القائم عبر اتفاقيات سلام متعددة)؛ لأن الاضطراب والحرب الشاملة في السودان أو إفريقيا عمومًا لن تخدم المصالح الأمريكية الساعية الآن لإنشاء قيادة عسكرية إستراتيجية (بدأت العمل في فبراير الماضي عبر وحدات أفريكوم) والسيطرة على نفط السودان وإفريقيا الذي قدر مجلس المعلومات القومي الأمريكي أن ترتفع نسبة الاعتماد على بتروله إلى 25% من مجموع النفط الأمريكي المستورد بحلول عام 2015م، فيما توقعت الإدارة الأمريكية لشئون النفط والطاقة أن تزيد عن ذلك وتصل نسبة الاستيراد الأمريكي من النفط الإفريقي إلى 50% بحلول العام 2015!. 6 - الحرب معناها فقدان أكبر حليف للجنوبيين في الخرطوم (حزب المؤتمر الوطني الحاكم) والذي أعطى للجنوبيين امتيازات ومكاسب لم يحلموا بها طيلة السنوات الماضية أبرزها سحب قوات الجيش من الجنوب، واقتسام السلطة والثروة معهم، وهي مكاسب لا يمكن أن يعطيها إلا حزب قوي له وجود في الشارع السوداني ويسانده الجيش، بعكس القوى والأحزاب الأخرى الضعيفة التي لو تحالف معها الجنوبيون لاحقًا، فلن يكون لديها الجرأة على سحب جندي واحد من الجنوب!. الأرجح بالتالي أن تعمد الحركة الجنوبية للتهدئة وأن تكتفي -هي والخرطوم بهذه التصريحات الساخنة التي تستهدف التخويف الدبلوماسي والاستهلاك الإعلامي، وربما ظهر هذا في تصريحات سلفاكير أمام أنصاره بعد استقبالهم الأسطوري له في جوبا عائدًا من أمريكا، حينما اتهم الخرطوم بإعادة التسلح والتعبئة من أجل الحرب، وقال إنه يحتفظ بحق الدفاع عن النفس، ودعا أنصاره إلى أن يبقوا متيقظين أمام ما أسماه تعطش الخرطوم للحرب، ولكنه أكد في الوقت نفسه أنه مستعد للقاء الرئيس السوداني لمحاولة حل الأزمة. أيضًا فرغت الخرطوم من لغة التهديد وإظهار العين الحمراء بعدما حققت أهدافها، وبدأت لغة الدبلوماسية على لسان نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني نافع علي نافع الذي أكد أن حزبنا مقتنع تمامًا بضرورة إقامة هذه الشراكة.. إننا راضون لاتفاق السلام الشامل، ونعتقد أن السبيل الوحيد لتطبيقه هو العمل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان. فهل يدرك قادة الحركة الجنوبية مخاطر الحرب والخسائر التي ستعود عليهم لو اندلعت؟.. وهل تعود الخرطوم للغة التهدئة؛ لأن الظرف الدولي يشهد ضغوطًا وحصارًا متصاعدًا على جبهتي الجنوب والغرب، فضلاً عن عقوبات متصاعدة؟.