فاجأت الحركة الشعبية شريكها في السلطة والأوساط المختلفة بعدة قرارات خلال اجتماع مكتبها السياسي الأخير بجوبا أخطرها دعوة الشمال لتطبيق العلمانية كشرط لتحقيق الوحدة، ويأتي هذا الطرح خارج سياق الاعتبارات الموضوعية للحوار الذي يجري لإعداد مطلوبات إجراء الاستفتاء لجنوب السودان والذي يراد له أن يأتي شفافاً في ظروف موضوعية بعيداً عن الشطط والمغالاة.. خلال هذا الاستطلاع الذي أجراه المركز السوداني للخدمات الصحفية يبين السياسيون والأكاديميون موقفهم من طرح الحركة الشعبية ودواعي مثل هذه المطلب في هذه المرحلة المفصلية وانعكاساته على استفتاء تقرير المصير.. التمسك بالأصول الأستاذ تيسير مدثر المحامي أعتبر أن الشمال حسم أمره بالهوية الإسلامية وبالتالي خضوع المسلمين للأحكام القطعية المنصوص عليها في الإسلام، والتي ليس من الممكن بل ويعد من ضروب المستحيل أن يتنازل المسلم عن أصول ديانته التي وجد نفسه يعتنقها، وبذلك تصبح المناداة بعدم تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان الشمالي بمثابة أفراغ للهوية التي تتسم بها الشخصية السودانية المعتدلة. ويفسر الأستاذ تيسير حديثه بالقول إن الفهم الخاص بأحكام الشريعة استقر على أن تطبيق الشريعة على المسلمين أما غير المسلمين فتطبق الأحكام المنصوص عليها في دساتيرهم، وعليه ما جاءت به الحركة يصبح كلام خالي من المعني وليس له سند على حسب ما جاء في الاتفاقية الموقعة بين الشريكين. احترام حريات العقيدة أما مولانا علي يحيي رئيس مجلس الولايات سابقاً نبه لطرح د. جون قرنق بإمكانية تعايش الديانتين جنباً لجنب دون أن تشكل إحداهما خطراً على الآخر، وبذلك يجب أن يرتضي الطرفين بما وقعا من اتفاق واحترام حريات العقيدة والدين والتي بموجبها يكون التعايش في حالة الوحدة أو الانفصال دون حروب أو خلافات تؤدي لعودة الحرب مرة أخرى. دعوة بلا سند وفي ذات السياق تحدث لنا الدكتور محمد محجوب هارون من مركز الدراسات الإفريقية مشيراً إلى أن ما أثارته الحركة الشعبية من أحاديث حول علمانية الدولة فقد أثارته الاتفاقية الموقعة في العام 2005م وحسمت هذا الموضوع بشكل نهائي، على أن يترك أمر الشريعة للمسلمين في السودان الشمالي وغير المسلمين لهم أحكامهم وقوانينهم وفق الدستور الموضوع في الجنوب السوداني، وبهذا يكون ما أثارته الحركة الشعبية ليس له من سند في الدستور أو القانون. ويقول هارون إن الحديث عن العلمانية هو سعى لفرض دين آخر للسودان المسلم بشرائع السماء، كما أن العلمانية ليس فيها من الحياد حتى تبدل بدين آخر وهو الإسلام. ورقة ضغط وعلى الجانب الآخر يرى الدكتور فاروق البشرى عضو مجلس التعايش الديني أن ما تناولته الحركة في اجتماعاتها نقطة غير مثارة في الاتفاقية الموقعة بين الطرفين في العام 2005م، وما طالبت به الحركة الشعبية ليس له سند ولا قانون ولا دستور ولا يحكمه منطق وعقل، فكيف تأتي بنصوص خارج ما وقع من اتفاق شهدته كل الأطراف، وأعتبر أن قرار الحركة الذي أقرته في اجتماعات المكتب السياسي مؤخراً بجوبا مجرد ورقة ضغط للانفصال الذي يعد له وإشعار المواطن الجنوبي بأنه مواطن من الدرجة الثانية أو الثالثة وهذا يعد من الكيد السياسي والعداء السافر من قبل مجموعة لها كثير من الأغراض والأجندة الخفية، غير أن ما نصت عليه الاتفاقية يجب أن يطبق وفق النصوص والبنود المكتوبة. العلمانية والانفصال وتحدث إلينا إبراهيم أبو خليل الناطق الرسمي باسم حزب التحرير قائلاً: في الأصل ينبغي أن لا يفتح الباب لمسألة علمانية الدولة وهذا المبدأ مرفوض جملة وتفصيلا، والحركة الشعبية تسعى الآن إلى أن تجعل دولة السودان دولة علمانية تمريراً لأجندة الغرب الذي صنعها، أو الأخطر من ذلك أنها تحاول أن تجعل السودان علماني بالقانون بحيث أنه لا يمكن أن يفكر المسلمون أن يعودوا إلى الإسلام باعتبار أنهم مقيدون بالقانون تماماً كما حدث في لبنان وتركيا. ويوضح أبو خليل: بالرغم من أن النظام الحاكم في تركيا حركة إسلامية إلا أن الدولة قانوناً تعتبر علمانية ولا يمكن أن تتعدى هذه القوانين، فالآن الحركة الشعبية تتحرك بإملاءات غربية مرفوضة تماماً من جانبنا، فنحن نرفض علمانية الدولة كما ترفض أمر الانفصال الذي تتحرك من وراءه أمريكا، والحركة الشعبية تنفذ هذه الإملاءات مرتبطة بالأصول أو العقيدة لا يمكن الربط بين العلمانية للدولة والانفصال، لأن الذي يؤمن بالحرية الدينية كقيمة يؤمن بالخيارات التي تترتب عليها. فتغيرات الإرادة الشعبية النافذة التي تعبّر عن النفس تظهر من خلال الاقتراع انتخاباً، فالأصل في الأمر أن لا جبر ولا فرض على أحد في خياره الحر وحدة أو انفصال، كما أن الإسلام كما نصت عليه نيفاشا يطبق في الشمال للمسلمين. الاستبداد بالرأي أما أبوبكر عبد الرازق القيادي بالمؤتمر الشعبي فقد كان رأيه إن ما طرحته الحركة الشعبية أن صح فإنه يعبّر عن قلة إيمان بالحرية ويعتبر استبداد بالرأي ومحاولة منها لفرضه على الآخرين، وذكر أنه لا يمكن للحركة الشعبية أن تربط ما بين علمانية الدولة وخيار الوحدة أو الانفصال، لأن خيار الوحدة أو الانفصال خيار سياسي يترك لشعب الجنوب. ويضيف عبد الرازق أنه لا يمكن الجمع بين العلمانية أو الانفصال، ففي الشمال لا تطبق الشريعة على غير المسلمين حتى لو كانوا موجودين داخل الشمال، وأيضاً بنفس القدر فإن الإسلام في الجنوب يكون بتطبيق شخصي للمسلمين، وهذا الأمر موجود منذ أن جاءت اتفاقية نيفاشا، لذلك في رأيي أن الشريعة ليست هي دعوى الانفصال الحقيقة بل هذه المطالبة رهينة باعتبارات سياسية من الحركة الشعبية. مناورة سياسية ويرى الدكتور محمد إبراهيم الحسن رئيس قسم الدراسات الإستراتيجية بجامعة الزعيم الأزهري أن الخطاب السياسي للحركة الشعبية في المرحلة الراهنة متعدد الملامح، ويتسم بدرجة كبيرة جداً من المناورة. أما الحديث عن رهن وحدة السودان بعلمانية الدولة ما هو إلا حديث للاستهلاك السياسي، باعتبار أن نظام الحكم الحالي أعطى الجنوب الحرية الكاملة في تطبيق قوانينه الخاصة ، مشيراً إلى أنه يلاحظ في الشمال ي عدم التطبيق الكامل للحدود الإسلامية، وبالتالي كما يري د. الحسن أنه ومنذ توقيع اتفاقية السلام فإن ملامح نظام الحكم في السودان لا يمكن ان يُطلق عليه نظام حكم إسلامي، وعليه فإن الحديث عن علمانية الدولة في الوقت الراهن يفتح جبهة لإقحام القوى السياسية بقضايا بعيدة جداً عن الواقع السياسي ومتطلبات واحتياجات المرحلة القادمة.