وقبيل انعقاد الاجتماع قالت مستشارة الرئيس الأمريكي (سامنثا باورا) بأن هذه القمة يجب أن تشكل تعبيراً لا سابقة له عن الإرادة والوحدة حول اتفاق السلام الذي أبرم في عام 2005م، ونص على إجراء الاستفتاء. وفي ذات السياق قبيل انعقاد الاجتماع رفيع المستوى أيضاً وضعت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون وهي زوجة الرئيس السابق كلينتون الذي ضرب في عهده مصنع الشفاء للأدوية في الخرطوم بالقنابل، وصفت الوضع في السودان بأنه قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي وقت إذا لم يجر الاستفتاء في موعده. وتزامن حديثها هذا في نفس اليوم مع تصريح وزير الإعلام السوداني الدكتور كمال عبيد الذي يقول: ( إن الاستفتاء لن يتأخر عن 9 يناير ولا أحد له مصلحة في تأخير الاستفتاء ولا مزايدة في موضوع الاستفتاء، وندعو لتوفير الشروط اللازمة لقيامه حتى تكون نتائجه مقبولة، والطرفان شريكي الحكم يحرصان على عدم قيام حرب حتى إذا حدث انفصال والذي سيكون للأرض والشعب، وبعده لن يتمتع المواطن الجنوبي بأي ميزات مواطنة في الشمال وإذا كانت الحركة الشعبية تحاول في مناخ انعقاد الاجتماع الرفيع أن ترسم صورة سياسية سالبة للحكومة الاتحادية بشأن تنفيذ اتفاقية السلام، لتجد الاستنكار الأمريكي الذي من شأنه أن يصب في اتجاه خدمة أجندتها المعلنة والخفية، فإن الدكتور كمال عبيد يتهمها بعرقلة خطوات جعل الوحدة جاذبة ويتهم المجتمع الدولي بأنه يقف مواقف سالبة من القضية السودانية، حيث قال إن أطرافاً دولية نافذة لم تف بالتزاماتها تجاه اتفاقية السلام الشامل، بجانب انحيازها لأحد طرفي الاتفاقية يقصد الحركة الشعبية من خلال السياسات الخارجية تجاه السودان). وقال أيضاً: (إن المجتمع الدولي في كثير من الأحيان يعمل لتعقيد المشكلة السودانية وليس لحلها، ومثالاً لذلك تقرير لجنة الخبراء حول أبيي وقد كان الأسوأ من نوعه في هذه القضية). وكان تقرير لجنة الخبراء قد نقضته محكمة التحكيم الدولية بلاهاي بعد أن رفضته الحكومة السودانية ممثلة بالمؤتمر الوطني وأيدته شريكته الحركة الشعبية، لكن هذه الأخيرة يبدو أنها لم تلتزم بقرار التحكيم الدولي من خلال تصريحاتها حول ملف قضية أبيي، مثلما يبدو عدم التزامها أيضاً باتفاقية السلام الشامل فيما يلي برتوكول أبيي الذي نص على أن تشارك قبيلة المسيرية ومجموعات شمالية أخرى مع دينكا نقوك في الاستفتاء القادم حول تبعية المنطقة، بالرغم من أن ضمن حقائب حكومة الجنوب الوزارية هناك وزارة السلام وتنفيذ اتفاقية نيفاشا ويتقلدها الأمين العام للحركة الشعبية باقان أموم. ولكن المستغرب من المراقبين في الداخل والخارج هو أن المجتمع الدولي وعلى رأسه الحكومة الأمريكية لا تنظر إلى تجاوزات الحركة الشعبية بأنها ذنوب سياسية ارتكبتها مثلما تنظر إليها لو صدرت من الحكومة السودانية، وكأنما الدور الأممي والأمريكي تجاه قضايا السودان هو السعي لخلق واقع لا يفيد إلا دوائر أجنبية مختلفة على حساب آمال وتطلعات شعب السودان في الشمال والجنوب. وفي هذا الصدد الذي ينتقد فيه المراقبون الدور الأممي والأمريكي تجاه السودان ويشيرون إلى مسألة العقوبات الأمريكية القاصرة على الشمال دون الجنوب رغم أنهما مازالا في إطار دولة واحدة لم ينفصل شعبها بعد. ويقول المراقبون أن العقوبات للشمال دون الجنوب بالطبع تشمل المواطنين الجنوبيين في الشمال وعددهم قد يقترب من الثلاثة ملايين، وهنا يتساءل هل تريد واشنطون طرد الجنوبيين من الشمال بالعقوبات الانتقائية؟. والملاحظ أن القيادة الجنوبية العليا في الحركة الشعبية تتحدث عن فشل الخرطوم الرسمية في جعل الوحدة جاذبة، وقد قال القيادي البارز بالحركة الشعبية ووزير رئاسة مجلس الوزراء برئاسة البشير وهو الدكتور لوكا بيونق (إن خيار الانفصال هو خيار الشعب الجنوبي بعد أن أصبحت الوحدة غير جاذبة وإن الوضع في السودان لا يشجع المواطن الجنوبي على التصويت للوحدة). ولكن الوزير لم يقدم صورة واضحة الملامح للوضع في السودان وهو يقصد شمال السودان بعد أن انفصلت أرض الجنوب عنه بموجب اتفاقية نيفاشا. وبقى انفصال الشعب الجنوبي المحتمل في التاسع من يناير القادم رغم استبعاد البعض لذلك. وكان قد سبق تصريحه هذا تصريح أيضاً حول مسألة الوحدة الجاذبة أطلقه القيادي الجنوبي بالحركة الشعبية ووزير النفط السوداني لوال دينق يقر فيه بأن الأسباب التي لا تجعل الوحدة جاذبة قد انتفت كلها ومنها أن أبناء الجنوب يحكمون الآن إقليمهم بأنفسهم من خلال الحركة الشعبية ويشاركون في حكم الشمال، فماذا يريدون أكثر من ذلك؟. ولعل المقارنة بين تصريحات وزير رئاسة مجلس الوزراء ووزير النفط تكشف بصمات أجندة سياسية لا تعبّر عن رغبة المواطن الجنوبي تصوغها الحركة الشعبية وتتجلى في تصريحات لوكا بيونق التي تناقض تصريحات رفيقه في الحركة الشعبية والجهاز التنفيذي للدولة السودانية لوال دينق وزير النفط. ولكن إذا كانت تصريحات بيونق حول اختيار الجنوبيون للانفصال تكتسي بثوب الصدق نظراً إلى أنه يتبوأ موقعاً دستورياً من شأنه أن يجعلها موقفاً حكومياً، فما معنى تمسكه بإجراء الاستفتاء الذي لم تعد له ضرورة حسب تصريحه؟ وإذا كانت تصريحاته جاءت من باب الاستنتاج فإن هذا يلزم توضيح صورة سوء الوضع الذي أشار إليه، ويلزم أيضاً الإقرار بأن العقوبات الانتقائية للشمال والتي سيتضرر منها مع الشماليين قرابة الثلاثة ملايين جنوبي يمكن ان تشكل ملمحاً من ملامح صورة سوء الوضع. وبالعودة إلى مناخ الاجتماع رفيع المستوى الرباعي في شكله فإن تساءل المراقبين قبل انعقاده يقول هل هو معد لترغيب الحكومة السودانية أم ترهيبها بالحوافز والعقوبات؟. لكن انعقد الاجتماع الرفيع حول السودان، وانتصرت فيه الحكومة السودانية بوفدها الذي ترأسه نائب الرئيس علي عثمان محمد طه على أجندة الإستراتيجية الخفية للإدارة الأمريكية التي تراضي عليها اليمين المسيحي والكتلة السوداء واللوبي اليهودي في الكونغرس، ولم يكن أمام الرئيس الأمريكي أوباما وهو يواجه جدية ومنطق وحجة وفد الحكومة السودانية برئاسة علي عثمان إلا أن يتجاوز الإستراتيجية الخفية ويُعلي صوت الأخرى المعلنة حول دعم مسيرة السلام في السودان، غير أنه أشار إلى عدالة مزعومة تتحلى بها محكمة الجنايات الأوروبية ومدعيها أوكامبو في سياق الحديث عن السلام والأمن في ولايات شمال وغرب وجنوب دارفور، وقد رد علي عثمان هذه الفقرة في تصريحات الرئيس الأمريكي بأنها تأتي كحلقة ضمن سلسلة استهداف عملية السلام في غرب السودان. إذن نجح السودان في أن يضع الإدارة الأمريكية أمام التعامل بإستراتيجيتها المعلنة التي يرتضيها ويسد أمامها الذرائع والتبريرات لتمرير مقتضيات الإستراتيجية الخفية المصادمة لسلام واستقرار وتقدم السودان.