قد يكون أمامها طريق ثالث وخيار أكثر واقعية بان تترك الباب مفتوحا أمام الوحدة كالتزام سياسي وأخلاقي يعفيها من تحمل وزر تمزق الوطن وتعمل لتحقيقه قولا وعملا حتى اللحظة الأخيرة وتضع ميزانيتها على فرضية بقاء البلاد موحدة … وفي ذات الوقت تضع ميزانية بديلة لاحتمال الانفصال تقيها شر المفاجآت وتجعلها جاهزة لمواجهة ماسيسفر عنه الوضع الجديد. في العام الماضي أطلق مارتن ماجوت ياك سكرتير التنظيمات الجماهيرية والفئوية بالحركة الشعبية تصريحات كانت أشبه بحقنة الوزير كمال عبيد عندما قال « الانفصال قادم والشمال لن يحظى بجالون بنزين واحد» ورد عليه وزير الطاقة السابق القيادي بالمؤتمر الوطني الزبير احمد الحسن « «ونحن في الشمال لن نسمح بأن يمر جالون بنزين واحد من الجنوب عبر أرضنا للتصدير». ولكن حتى التوقعات التي تتجه لاعتبار أن الانفصال أصبح خيارا راجحاُ وقدرا مقضيا يستحيل دفعه أو معارضته فإنها تقر أن الشمال سيظل يتمتع بقدر وافر من عائدات نفط الجنوب وان الأخير ليس بوسعه حرمانه منها إلا إذا عمل الجنوب على ترك نفطه في باطن الأرض على طريقة عليَّ وعلى أعدائي , لكنه *مادام سيعمل على استخراجه وتكريره وتصديره فان ذلك ولسنوات عديدة قادمة لن يكون إلا عن طريق الشمال وسيوفر ذلك للشمال نسبة مقدرة من هذه العائدات نظير نصيبه من عمليات التكرير والمرور إلى موانئ التصدير . طريقة على وعلى اعدائى لا يبدو أنها خيارا عملياً أمام دولة الجنوب لا الآن ولافي المستقبل القريب أو المتوسط فالأرقام الصادرة عن حكومة الجنوب أظهرت اعتمادها في ميزانيتها العامة على عائدات النفط بنسبة (98% ) فالواقع يقول ان حكومة الجنوب لن يكون في مقدورها الحياة ولو ليوم واحد دون عائدات النفط . ورغم حديثها عن مساعي لتقليل اعتمادها عل النفط إلا أن هذه الجهود لا تبدو ظاهرة ولا يتوقع لها نتائج قريبة بحسب الوضع الاقتصادي الماثل والتحديات السياسية المتوقعة . وفقا لاتفاق قسمة الثروة فان عائدات النفط المنتج في الجنوب يتم اقتسامها مناصفة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الجنوب وتتباين التقديرات حول حجم نفط الجنوب فبينما تذهب تقديرات إلى انه يمثل (70) بالمائة من الإنتاج الكلى يقدره آخرون ب (60%). خطوط نقل البترول التي تمر عبر الولايات الشمالية إلى مصفاة الخرطوم وميناء بشائر على البحر الأحمر ووجود جميع المرافق النفطية في الشمال من مصافي التكرير، ومراكز المعلومات والبحوث التي ليس بالوسع الاستغناء عن خدماتها كلها عوامل تحتم على الجنوب والشمال العمل معا لضمان تدفق النفط وعائداته على الطرفين ويعتقد مراقبون أن الجنوب في حال انفصاله سيواجه بمشاكل وأسئلة معقدة وصعبة تتعلق بمقدرته على المواصلة في الإنتاج والاستثمار في قطاع النفط : كيف سيتمكن الجنوب من إدارة ثروته النفطية في ظل افتقاره للكوادر الفنية المطلوبة لهذه الصناعة المعقدة؟ في حالة لجوء الدولة الناشئة للاعتماد على الخبراء والفنيين الأجانب فإنها ستكون مواجهة بدفع أجور اكبر وبالتالي زيادة التكلفة . لكن هل بوسع الجنوب تحويل خطوطه الناقلة وتصدير نفطه عبر منافذ جديدة عوضا عن الشمال ؟ يبدو هذا خيارا صعبا وغير عملي من الناحيتين الفنية والاقتصادية ... الموانئ البديلة المقترحة في كينيا والكاميرون بعيدة مقارنة بميناء بورتسودان فالمسافة التي يحتاجها نفط الجنوب ليصل إلى ميناء ممباسا الكيني تتجاوز(1900 ) كيلو مترا . للوصول إلى هذه الموانئ ستمر خطوط الأنابيب بمناطق تمثل بؤرا ساخنة للنزاعات القبلية والتمردات على الدولة المركزية ومضطربة من الناحية الأمنية حيث يكون خط الأنابيب في مرمى جيش الرب الأوغندي الأمر الذي ستترتب عليه زيادة الإنفاق على التامين ومخاطر التخريب ووقف الإمداد . الحقائق الطبوغرافية تبرز أن الانحدار الطبيعي في منطقة البحيرات يتجه من الجنوب إلى الشمال كماهو حال ( النيل ) والخطوط الناقلة حاليا وأي محاولة للاتجاه جنوبا ستعقد العملية من الناحية الفنية بمايستلزم توفير عدد اكبر من محطات الضخ التي سترفع من التكلفة هذا فضلا عن أنها مناطق وعرة من الناحية الطبيعية تكثر فيها الجبال والهضاب. إنشاء مصفاة كبيرة بحجم مصفاة الخرطوم في الجنوب وبتكنلوجيا متطورة لايعد من الناحية الاقتصادية مجدياً لاعتبارات عدم توفر السوق المستهلك وانعدام الطرق التي يمكن عبرها نقل هذه المشتقات النفطية إلى الشمال أو الدول المجاورة . حتى في حالة الإصرار على بناء خطوط جديدة ومواني بديلة للتصدير فإنها ستحتاج لتمويل بمليارات الدولارات ...... من أين سيتم توفيره ؟ حتى إذا تم توفير هذا التمويل فان بناء هذه المنشات يحتاج لسنوات قدرها الخبراء بأربعة أو خمسة أعوام والجنوب لن ينتظر . الحقائق والخلاصات الموضوعية تحتم على الشمال والجنوب سواء بقيا معا او انقسم الوطن ان يعملا على التوصل إلى صيغة بشأن العائدات النفطية عبر شراكة حقيقية وعملية يتبادل فيها الطرفان المصالح والمنافع بعيدا عن مرارات السياسة ومزالق التطرف وتصفية الحسابات وذلك بواحد من طريقين : استمرار الشراكة بصورة دائمة وفقا للتجارب المتبعة والنظم المرعية في العالم. أو الوصول لصيغة انفصال متدرج تتيح للطرفين ترتيب اوضاعهما بطريقة لاتعرضهما للمخاطر والأزمات ... أو تصيب الصناعة النفطية بالتدهور والتراجع.. في مواضيع أخرى شكلت نقاط النزاع بين الشريكين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية توفرت بيد الطرفين حلولا وخيارات عديدة اخذوا منها ما اختاروا او ما اكرهوا عليه ولكن في قضية النفط فهي إما شراكة دائمة أو انفصال سلس فليس هناك طريق ثالث.