عادت هجليج والعود أحمد. عادت بالطريقة التي تريدها القوات المسلحة، عنوةً وإقتداراً و(حمرة عين). كان احتلال هجليج وتحريرها نقطة فارقة في تحديد العلاقة بين جمهورية السودان ودولة الجنوب (العاقّة)، كما كانت نقطة كاشفة لكثير من المواقف والأحداث، إذا كان على المستوى الدولي والإقليمي أو الداخلي. على المستوى الدولي ظهر بما لا يدع مجال للشك ما يسمى بالمجتمع الدولي والنظام الدولي ومجلس الأمن ما هو إلا نظام سياسي احترافي بمعنى الكلمة، وأن الأمور فيه توزن بميزان السياسة والمصالح، وأن النظام الدولي ومجلس الأمن لا يستطيع أن يخرج من العباءة الأمريكية والمصلحة الأمريكية. وعلى الرغم من الإدانة الخجولة من مجلس الأمن، ورغم الخروج عن الخط الأمريكي الذي مارسه بان كي مون، حيث تحدث بلغة واضحة بأن ما قامت به دولة الجنوب هو عمل غير مشروع. وهذا أقصى ما يستطيع أن يفعله في ظل العباءة الأمريكية. ورغم التصريحات الأمريكية التي تطلب من دولة الجنوب الإنسحاب، وتطلب من الحكومة وقف طلعات الطيران على الجنوب. هذه المواقف والتي تبدو ظاهرياً تغييراً في الموقف الدولي وفي مجلس الأمن، إلا أنها لا تعدو في تقديري عن تصريحات (فوق سطح التربيزة)، ويفسر هذا الذي أقول التحذير الذي أطلقه مجلس الأمن محذراً حكومة السودان ومهدداً لها بالعقوبات، إذا لم يتوقفا عن القتال ويعودا إلى طاولة التفاوض. مجلس الأمن هو الجهاز التنفيذي للأمم المتحدة، وهو المفوض من الأممالمتحدة لحفظ الأمن والسلم الدوليين، والمناط به مراعاة إلزام الدول الأعضاء لإحترام ميثاق الأممالمتحدة الذي يحرّم إستخدام القوة أو التهديد بها. وإذا قامت أية دولة بإستخدام القوة وإعتدت على دولة أخرى، أو هددت بها، فواجب مجلس الأمن إستصدار قرار بموجب الفصل السابع يأمر الدولة المعتدية بالإنسحاب فوراً من الاراضي التي إحتلتها، وإن لم تستجب الدولة المعتدية للقرار، يتصرف مجلس الأمن بموجب المادة (42) ويعد قوات بإسم الأممالمتحدة تعمل على إجبار القوة المعتدية بالقوة للإنسحاب من الاراضي التي إحتلتها. وإستخدام القوة أو التهديد محرم تحريماً مطلقاً على كل الدول، إلا أن هنالك إستثناءين في المادة (51) من الميثاق، تتيح لمجلس الامن إستخدام القوة ضد الدولة المعتدية إذا لم تستجب لقرار مجلس الأمن بالإنسحاب. والإستثناء الثاني أعطته المادة (51) للدولة المعتدى عليها لإرغام الدولة المعتدية للإنسحاب من الأراضي التي إحتلتها. وعلى الرغم من وضوح الميثاق في هذا الجانب، إلا أن مجلس الامن كانت قراراته بشأن إعتداء دولة الجنوب لا يتسق مع الميثاق، وذلك لسبب بسيط، هو إنحياز الولاياتالمتحدة لدولة الجنوب، وبالتالي تأثيرها على بقية الدول الأعضاء، لذلك جاءت قراراته ومطالباته بهذه الميوعة، وهو يشبه تماماً الموقف الذي وقفه مجلس الأمن حينما إعتدت إسرائيل على لبنان في العام 2006م، إذ ظل المجلس يراوح مكانه لمدة شهر كامل، ولم يصدر قرار بوقف إطلاق النار إلا من بعد ما تأكد لأمريكا صلابة المقاومة، وأنها سوف تلحق الهزيمة بالقوات الإسرائيلية. وهذا ما حدث بالنسبة للموقف في هجليج. حيث كانت الولاياتالمتحدة تطمع وتحث دولة الجنوب على عدم الإنسحاب، والتمسك بهجليج حتى يتم إستصدار قرار بالسماح لقوات دولية لحفظ السلم والأمن الدوليين، وليس إرغام الدولة المعتدية على الإنسحاب. ونستطيع من ذلك أن نفهم مدى صدور هذه الإستنكارات من فوق التربيزة، وذلك لأن سلطات جوبا تدرك تماماً أن الغرب لن يمارس ضغوطاً جدية عليها. كما أن الولاياتالمتحدة ستكون مستفيدة من الوضع الراهن، فالشركات الأمريكية تدعم قيام خط أنابيب لنقل البترول إلى ميناء (لامو) الكيني. كما أعرب الكثير من الخبراء عن قناعتهم بأن سلفاكير ما كان ليتخذ قراراً بإحتلال هجليج دون حصوله على موافقة ضمنية من الولاياتالمتحدة، ومما لا شك فيه أن الولاياتالمتحدة سوف تشهر بالرفض إذا ما أسهمت العملية العسكرية الحالية في زعزعة نظام حكومة السودان، خاصة إذا ما إستطاعت حكومة الجنوب توسيع تهديداتها بتوسيع نطاق الهجوم ليشمل منطقة أبيي. ولكن القوات المسلحة برجالها وخلفهم الشعب السوداني مستخدمين حقهم القانوني بموجب المادة (51) من ميثاق الأممالمتحدة، بإستخدام القوة لطرد القوة المعتدية، وذلك لإدراكهم تماماً ما يعنيه مجلس الأمن، وما تعنيه الأممالمتحدة وما يعنيه المجتمع الدولي. والإستخدام السياسي في المعايير بواسطة مجلس الأمن لا يحتاج لكثير عناء لإثباته، فقد تزامن مع إحتلال هجليج إنقلاب عسكري في غينيا بيساو، وهو بلا شك أمر داخلي ليس فيه تهديد للأمن والسلم الدوليين، ولا يعني مجلس الأمن قانوناً، فقد رأينا كيف انفعل مجلس الأمن بالحدث، وكيف أصدر العقوبات مهدداً بالويل والثبور للإنقلابيين إذا لم يسلموا السلطة للرئيس المنتخب. ولا يختلف الحال كثيراً بالنسبة للإتحاد الأفريقي، وعلى الرغم من أن موقفه كان أكثر قوة من الموقف الدولي، لكنه لا يستطيع أن يخرج من الخط المرسوم له أمريكياً. ففي المثال السابق الذي ذكرنا في الإنقلاب في غينيا بيساو، ظهرت العنتريات وصدرت العقوبات وأمر الدول الأعضاء بسحب سفرائها من غينيا بيساو، وصدرت العقوبات الإقتصادية، ولكن موقفه من إحتلال دولة الجنوب كان مائعاً. هذا لا يمنعنا من إحترام الجهود التي يقوم بها الرئيس الأسبق لجنوب أفريقيا أمبيكي. أما جامعة الدول العربية فهي الأخرى لا تستطيع أن تخرج من العباءة الأمريكية، وذلك لأن ثورات الربيع العربي لم تطالها بعد، ولم تتعدى قراراتها الإدانة وضبط النفس، وربما ينصلح الحال عندما تطال ثورة الربيع العربي ما تبقى. وقد كان تأثير الربيع العربي واضحاً في مصر وليبيا، فقد أدان البرلمان المصري الإعتداء على هجليج، وأعلن النواب الجهاد مساندين للحكومة السودانية، وإنعكس هذا على الموقف الرسمي للحكومة الذي وصل وزير خارجيتها للسودان عارضاً الوساطة بين الدولتين، وهو مؤهل لذلك الدور تماماً للعلاقات الخاصة مع الشمال والمصالح مع دولة الجنوب. ولأول مرة تتحرك مصر بإرادة حرة دون أخذ الإذن من أمريكا، الأمر الذي كان غير مسموحاً به في ظل النظام السابق وعرابه عمر سليمان، والذي كان يناصب السودان العداء منفذاً للمطلوبات الأمريكية والإسرائيلية. إنعكس كذلك أثر الربيع العربي على الموقف الليبي، والتي أعلنت حكومتها أن سداد الدين واجب عليها، لما قدمته الخرطوم من دعم للثوار، وأنها داعمة لحكومة السودان لطرد جيش الجنوب المعتدي على أراضيها. يوغندا الدولة الوحيدة التي أكدت عداءها للسودان، بتجهيزها لقوات لإرسالها لمساندة الحركة الشعبية، وهذه القوات حسب تحليلنا السابق كانت تضم قوات أمريكية وقوات أفريقية. ولكن (جهيزة) قطعت قول كل خطيب، فالقوات المسلحة برجالها ومن خلفها وأمامها وعن يمينها وعن شمالها ومن فوقها ومن تحتها كان الشعب السوداني رجالاً مجاهدين وإمداداً بالزاد والمال، حتى كان النصر في يوم الجمعة، حيث كان أداء فريضة الجمعة وسُنّة الشكر في هجليج. وكانت المهنية والإحترافية القتالية وراء التأخير يوماً أو بعض يوم، وذلك حفاظاً على المنشأة البترولية والتي تم تحريرها وفق خطة الإستشهاد (والرجالة) بأقل الخسائر. والموقف الثاني الذي نتج من إحتلال هجليج وتحريرها، هذا الإجماع من الشعب الرائع الذي تسامى على كل الخلافات فيما يشبه الإجماع من كافة قطاعات الشعب السوداني، أحزاباً، وجماعات، وكيانات، وطرق صوفية، إلا من أبى، وهم قليل. فعلى الحكومة إنتهاز هذه الفرصة، فالذين إقتربوا منها شبراً عليها الإقتراب منهم ذراعاً، والذي أتاها هرولةً ينبغي أن تلاقيه جرياً (لا جكة)، والحكومة تعلم ما يريد هؤلاء لإكمال الصورة الرائعة لهذا الشعب الرائع، فإذا إهتبلت الحكومة هذه السانحة، فهي لن تخشى إلا الله والذئب على غنمها. وعلى الرغم من أن الحرب لن تحل هذه المشكلة التي تطاولت منذ العام 1955، ولم نشهد إستقراراً إلا في سنوات معدودة، إلا أن ممارسات حكومة الجنوب والعدوان الذي مارسته على السودان والحقد الذي يحركها بالإضافة لإرتباطهم بإسرائيل وشركات البترول واللوبي الصهيوني الذي يحركها، فما عاد حسن النية يجدي، وقد إنقطع العشم في السلام في وجود الحركة الشعبية وهي على رأس دولة الجنوب. لذلك لابد من وضع إستراتيجية جديدة تتسق مع موقف حكومة الجنوب، وقد كتبنا عن ذلك في مقال سابق، وقلنا أن هذه الإستراتيجية لابد أن تكون من ثلاث مراحل، على المدى القريب والمتوسط والبعيد. فعلى المدى القريب لابد أن يكون هدف الخطة إسقاط حكومة الجنوب، وعدم السماح لهذه الدولة أن تكون قادرة على الفعل، وعدم تركها أن تقف على رجليها مهما كلف ذلك، وعدم السماح لها بالإستقرار. فالأمر أصبح واضحاً، فأمر التفاوض تريد منه حكومة الجنوب ومن ورائها أمريكا ومن تبعها أن تكسب منه الوقت لتحويل جيشها إلى جيش محترف عالي التدريب والقدرات مزوداً بأحدث الأسلحة. وتستطيع الحكومة أن تمنع ذلك، مع الأخذ في الإعتبار بعدم الدخول معها في حرب شاملة، تقوم الحكومة بكل الأهداف التي ذكرنا على المدى القريب، دون الإنجرار في حرب شاملة. وعلى المدى المتوسط توضع الخطة بحيث يتم التعاون مع القوة الجنوبية التي ليس لها أي عداوات مع الشمال، ولا تحمل حقداً، إذا كانت أحزاباً، أو جماعات. وأن يكون هذا التعاون في كافة المجالات وخاصة الإقتصادية منها من تجارة وغيرها. وعلى المدى البعيد أن تسعى الخطة إلى خلق جوار آمن مع دولة الجنوب، والتعاون معها في كافة المجالات، إن لم يكن هدف هذه الخطة هو إعادة الوحدة مرةً أخرى.