شكل انطلاق المفاوضات بين حكومة السودان وقطاع الشمال في أديس أبابا في السادس والعشرين من الشهر الماضي تحت رعاية الوساطة الأفريقية بارقة أمل لدى كثيرين ، إلا أن المفاجأة كانت في موقف قطاع الشمال الذي اعتبر بمثابة هروب من استحقاقات الحوار السياسي للوصول إلى تسوية سياسية لقضية منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق على وجه الخصوص، حيث قدم وفد الحركة الشعبية قطاع الشمال ورقة تضمنت رؤيتهم لقضايا التفاوض مع الحكومة السودانية، وعلى خلاف ما ورد في قرار مجلس الأمن رقم (2046) الذي نص على ضرورة التوصل إلى تسوية عن طريق المفاوضات بشأن الترتيبات الأمنية في جنوب كردفان والنيل الأزرق ، ركزت الورقة على قضايا ليست ذات ارتباط مباشر مع قضايا المنطقتين حيث تم الخلط بين قضايا عديدة منها سد كجبار، ومشروع الجزيرة ، ودارفور ، وشمال كردفان ، وشرق السودان، كما شددت الورقة على البحث عن مدخل لحل قومي شامل بمشاركة كافة القوى السياسية بما في ذلك الشباب والنساء والنقابات ومنظمات المجتمع المدني. الاستقواء بالخارج بحسب المراقبين كان قرار مجلس الأمن الدولي (2046) بالنسبة للحركة الشعبية كالحبل الذي يتعلق به الغريق فكان بمثابة نجدة لقطاع الشمال الذي خسر سياسياً وعسكرياً ما كسبه خلال سنوات عندما ركن قادته إلى خيار الحرب والتمرد، ويفسر موقف قطاع الشمال بأنه محاولة للالتفاف على قرار مجلس الأمن الدولي الذي أعطى دولتا السودان وجنوب السودان مهلة حتى الثاني من أغسطس للتوصل إلى حلول للقضايا العالقة بينهما ، ويراهن المتمردون على إحراج الحكومة السودانية أمام مجلس الأمن ودفعه لفرض عقوبات مشددة ضد السودان لأن الدولة النافذة داخل المجلس مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية ظلت تتحين الفرصة تلو الفرصة للإيقاع بالسودان وتركه تحت الحصار والمقاطعة الاقتصادية والسياسية وخاضت في الآونة الأخيرة اللوبيات ومجموعات الضغط المعادية للسودان داخل الولاياتالمتحدة مثل (حركة كفاية) و(مجموعة العمل من السودان) و(مجموعة الأزمات الدولية) و(ائتلاف) (انقذوا دارفور) و(شبكة التدخل ضد الإبادة) وكتلة النواب السود بالكنغرس الأمركي إلى جانب اللوبي الصهيوني...الخ، حرباً إعلامية ضخمة وتصوير الأوضاع بالسودان والحديث عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي وأنه على الولاياتالمتحدة قيادة تحالف دولي للتدخل الإنساني في السودان وجرى تداول مصطلحات شديدة الخطوة والعمومية في آن واحد من قبيل التطهير العرقي والإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب كل ذلك من أجل توفير الغطاء لأي عدوان محتمل ضد السودان. ربيع سوداني ويراهن قادة قطاع الشمال الذين كونوا ما يُعرف بتحالف كاودا على استغلال المصاعب المعيشية الناجمة عن المعالجات الاقتصادية التي اتخذتها الدولة عقب أزمة تصدير نفط دولة الجنوب عبر السودان من أجل تزعم الحراك السياسي لثورة سودانية يمكن أن تؤدي إلى الإطاحة بنظام المؤتمر الوطني على غرار ما شهدته بلدان عربية أخرى، وهذا ما عبر عنه قبل أكثر من عام جون برندر غاست وهو مؤسس حركة (كفاية) والتي جعلت شعارها مكافحة الإبادة الجماعية والصمت تجاه الانتهاكات الفظيعة التي تحدث أمام ناظري قادة العالم الحر وعدم تكرار تجربة رواندا ولم يستجب قادة العالم للتحذيرات التي اطلقتها المنظمات الحقوقية من وقوع الكارثة ، وحث غاست في يوليو 2011م بلاده – الولاياتالمتحدة – إلى انتهاز الفرصة التي يوفرها الربيع العربي للإطاحة بالحكومة السودانية . وتحظى الحركة الشعبية بدعم مجموعات ضغط ولوبيات شديدة التأثير ذات إمكانية إعلامية وسياسية ضخمة ، وترى هذه المجموعات أن الحركة الشعبية ونظراً للايديولوجيا العلمانية التي يرتكز خطابها عليها هي الكيان السياسي الحليف للغرب في الساحة السياسية السودانية وعليه يجب إعادة بناء قوتها على كافة الصعد وهو ما يفسر إصدار قادة قطاع الشمال على التسرع في إقحام مسألة دور وأصول القطاع التي صادرتها الحكومة السودانية عقب اندلا التمرد في ولاية جنوب كردفان بزعامة عبد العزيز الحلو في يونيو 2011 وهي مسألة هامشية بالمقارنة مع الترتيبات الأمنية والوضع الإنساني. تكتيك سياسي وأرادت الحركة الشعبية (قطاع الشمال) من تقديم جملة مطالب سياسية بعيدة عن جوهر الخلاف حول منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق كسب الوقت حتى انتهاء مهلة مجلس الأمن والذي هدد دولتا السودان وجنوب السودان في حال فشلهما في حل القضايا العالقة بينهما كالحدود وأبيي والأمن...الخ، باتخاذ تدابير قاسية في حقهما تحت البند السابع من ميثاق الأممالمتحدة باعتبار أن استمرار الخلافات بينهما ترقى إلى مستوى تهديد السلم والأمن الدوليين. ومثلما حدث في مرات سابقة تميل القوى الدولية في الغالب إلى الانحياز لصالح الحركة الشعبية وتحميل الحكومة السودانية وزر عدم التوصل إلى الحلول وينقل الصحفي السوداني محمد علي صالح عن (ألكس دي وال) الخبير البريطاني في شؤون السودان والمستشار لدى الاتحاد الأفريقي قوله إن تأييد الولاياتالمتحدة القوي للحركة الشعبية يجعل الحركة الشعبية غير مسؤولة وتعتقد أن القوانين الدولية (لا تنطبق عليها) وهو بالضبط تفكير قادة الحركة الشعبية الذين صاروا هم الطبقة السياسية في دولة جنوب السودان الوليدة وكذلك بقايا قطاع الشمال إذ يراهنون على الضغوط الخارجية بدلاً من الحلول المتفاوض عليها مباشرة بين الأطراف ذات المصلحة الحقيقية ولصالح الشعوب. مكاسب سياسية وأيضاً أرادت قيادات قطاع الشمال تحقيق مكاسب سياسية على حساب المؤتمر الوطني ودولة السودان وذلك بتقديم مقترحات للتفاوض بعيداً عن أصل المشكلة في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق الناجمة عن عدم تطبيق الحركة الشعبية الأم الكامل لبرتكولات اتفاقية السلام الشامل وخاصة مسألة فك الارتباط السياسي مع قطاع الشمال إذ لا تزال المفاهيم والمواقف والتكتيكات التي تصدر عن قادة القطاع تطابق أو تترجم سياسات الحركة الشعبية الحزب الحاكم في دولة جنوب السودان. كما لا تزال الفرقتان التاسعة والعاشرة تتلقان تعليماتهم وعقيدتهما العسكرية وضمن منظومة القيادة والسيطرة بأركان الجيش الشعبي في دولة جنوب السودان وتقودان التمرد بالنيل الأزرق وجنوب كردفان فضلاً عن الرعاية والدعم الكاملين لعناصر ما تسمى بالجبهة الثورية . على أن إقحام ورقة قطاع الشمال المقدمة للوساطة الأفريقية لتنظيمات هلامية من الشباب والمرأة والمجتمع المدني محاولة لمغازلة تيارات سياسية ناشطة محلياً وتبني مفردات الخطاب الليبرالي الغربي والذي يحتفي بهذه الواجهات فتحظى بمزيد من الدعم الغربي باعتبار أن مشروع وبرنامج قطاع الشمال هو برنامج للديمقراطية والمجتمع المدني والحداثة والتقدم وهو النقيض الجذري والبديل للمشروع الحضاري الذي يمثله المؤتمر الوطني والطرق على موضوعات معقدة وذات أبعاد مركبة سياسية واقتصادية واجتماعية تتصل بالمفاهيم والمصطلحات التي تروج لها ما تسمى بحركات الهامش وتصوير أصل الأزمة السياسية في السودان على أنه يكمن في النزعة المركزية القابضة وأن الحل في تسوية تضعف قبضة المركز لصالح الأطراف وهي وصفة لتفكيك ما تبقى من السودان بعد انفصال الجنوب الذي اعتبره خطوة أولى تتبعها مراحل لاحقة ويجري التمهيد الآن لرفع شعار تقرير المصير لمنطقة جبال النوبة من قبل تيارات داخل الحركة الشعبية وتنظيم (الكومولو) بجنوب كردفان. قاب قوسين ويرى قادة قطاع الشمال أن التحركات الجماهيرية التي شهدتها بعض المدن السودانية خطوة أولى يمكن البناء عليها وأن البلاد في قاب قوسين أو أدنى من ثورة شاملة وفي ظل توفر الغطاء الدولي لا سيما من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية لهذه التحركات ومع اقتراب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية واحتدام المنافسة بين الجمهوري ميت رومني، والذي يبدي تشدداً في قضايا السياسة الخارجية الأمريكية ومنذ فترة طويلة توجه انتقادات حادة إلى إدارة باراك اوباما والحزب الديمقراطي في كيفية تعاطيهما مع الملف السوداني وبأنهما لا يبديان الحزم الكافي للتحرك الفعال تجاه السودان. ويراهن المحافظون الجدد على فوز مرشح الحزب الجمهوري والذي يشمل المحافظون الجدد نسبة كبيرة من قاعدة ناخبيه وفي حال تمكنه من إنزال الهزيمة بمرشح الحزب الديمقراطي الرئيس الأمريكي الحالي باراك اوباما من المتوقع أن تجد شعارات التدخل الإنساني ومسؤولية الحماية فضلاً عن ادعاءات نشر الحرية والديمقراطية في العالم وهي الشعارات التي يرى المحافظون أنها عقيدة التفوق الأخلاقي للولايات المتحدةالأمريكية في مواجهة منافسيها لكونها راعية نشر الديمقراطية والحرية عبر العالم وتحديد الشعوب المضطهدة والبلدان من الديكتاتوريات على نحو ما فعلته إبان الحرب العالمية الثانية في فرنسا وايطاليا والمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وكذلك في حقبة الحرب الباردة.