أثار توقيت الزيارة التي يقوم بها عبدالواحد محمد نور زعيم حركة تحرير السودان إلى جوبا عاصمة دولة جنوب السودان الكثير من التسؤلات والتوقعات، لاسيما ترجيح بعض المتابعين أن يكون الهدف من وراءها محاولة نفخ الروح في (تحالف كاودا) الذي أعلن في السابع من أغسطس الماضي، بين قطاع الشمال بعض حركات دارفور المتمردة، والذي أعلن فيه عن الهدف الرئيسي لحركات التمرد بتشكيل جبهة عسكرية وسياسية موحدة تكون بمثابة مظلة لحركات الهامش من أجل إسقاط الحكومة المركزية في الخرطوم، وهو الهدف الذي تكسرت عنده نصال كافة حركات التمرد المسلح التي عرفها تاريخ السودان المعاصر، ولكنها لم تصب نجاحاً يذكر في هذا الصدد، على الرغم من الدعم الدولي المهول الذي وجدته هذه التحالفات على كافة الصعد الدبلوماسية والسياسية والإعلامية، فضلاً عن العسكرية. وشكل ذلك الهدف محوراً لسياسات دول كبرى ناصبت السودان العداء وحاكت ضده المؤامرات حيناً من الدهر، لاسيما الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل التي تحركها هواجسها الإستراتيجية كما ورد في محاضرة رئيس الإستخبارات الإسرائيلي آفي ديختر في 2008م والذي فسر فيها سر الإهتمام الصهيوني بالسودان وأن التحالف مع الحركات العرقية الطائفية تعد الأداة المثلى لتنفيذ تلك السياسات ضد البلاد. الجنوب الجديد سبق إعلان تحالف كاودا (الجبهة الثورية السودانية) سلسلة من المحاولات الرامية إلى تشكيل تحالف يضم تيارات مايعرف بالهامش، لاسيما الحركات المتمردة في دارفور وجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان ففي؛ يوليو الماضي حملت الأنباء أن قادة قطاع الشمال قد عرضوا على عبد الواحد محمد نور زعيم حركة تحرير السودان، ومنى أركو مناوي حركة تحرير السودان، وصلاح أبو السرة من الجبهة الثورية، وعبد العزيز دفع الله وخميس أبكر، الإندماج في قطاع الشمال. في الوقت الذي أخذت قيادات قطاع الشمال الترويج لمفهوم (الجنوب الجديد) انطلاقاً من فرضية مؤداها أن إنفصال جنوب السودان كان نتاج لعوامل بنيوية أصابت هيكل الدولة السودانية بالخلل المزمن، وأن ذات العوامل باتت تنخر في بقية الشمال، فإن لم تتم تداركها ويصار إلى تبنى مشروع (السودان الجديد) الذي يحمل بين طياته الحلول الجذرية، فإن تفكك الشمال واقع لا محال. ثم تلت تلك التصريحات تحركات ماكوكية لقيادات الحركة الشعبية داخل وخارج السودان بغرض الترويج لمفهوم (الجنوب الجديد)، وفي نفس الوقت الترويج لقطاع الشمال كقوة سياسية ديمقراطية مؤهلة لقيادة المعارضة في دولة السودان الشمالي. وهذا ما يفسر التحالفات الوثيقة الباكرة التي تجمع بين تيارات مؤثرة داخل القوى السياسية التقليدية، خاصة داخل حزبي الأمة القومي والإتحادي الديمقراطي الأصل التي لاتزال تتعلق بأهداب ماعُرف ب(قوى الإجماع الوطني) الذي أسسته الحركة الشعبية من أجل أغراض إنتخابية محضة لتحقيق نبؤتها التي طالما روجت لها بأنها سوف تكتسح الإنتخابات العامة التي أُجريت في أبريل 2010م، وسرعان ما عصف الخلاف بتحالف المعارضة الهش وأكتسح المؤتمر الوطني الإنتخابات على مستوى رئاسة الجمهورية وإنتخابات ولاة الولايات والمجالس التشريعية الولائية فضلاً عن البرلمان (المجلس الوطني)، فيما اكتسحت الحركة الشعبية الإنتخابات في الجنوب على مستوى الحكومة الإقليمية والمجلس التشريعي مما أظهر سيطرة محكمة الحركة الشعبية بالجنوب ومثيلها للمؤتمر الوطني بالشمال، وهو ما أصاب قادة الحركة الشعبية باليأس من إمكانية إقتلاع المؤتمر الوطني بالوسائل الدستورية بعد أن جرّبوا الوسائل العسكرية، وهو ما أكسبه شرعية دستورية جديدة مهدت لمرحلة جديدة، في الوقت الذي كان قادة الحركة الشعبية وحلفاءهم من الخارج يظنون أنهم قاب قوسين أو أدنى من حكم سائر السودان وتأسيس السودان الجديد. شهوة الانتقام لما انفردت الحركة الشعبية بتحديد مصير الجنوب بالإنفصال وتأسيس دولة جديدة، لم تتجه نحو بناء الدولة وإقامة علاقات حسن جوار قائمة على السلم والتعاون لمصلحة شعبي البلدين والإتجاه نحو المستقبل مع دولة السودان، بل لم تمض إلا بضعة أشهر حتى تواترت الأنباء والقرائن عن إحتضان الحركة الشعبية الحزب الحاكم في دولة جنوب السودان لمتمردي دارفور في محاولة منها لاستغلال الحركات المسلحة لزعزعة الأمن والإستقرار بدولة الشمال، للإيحاء للعالم أن جذور الأزمات في السودان والتي تسبب حالة عدم الإستقرار على المستويين المحلي والإقليمي موجودة في المركز الذي يجب أن يُحمَّل المسئولية، وظهر ذلك من خلال التحركات والتصريحات التي بدرت من قيادة دولة الجنوب، لاسيما لوكا بيونق رئيس منظمة كوش والذي أخذ ينشط بعد أن قدّم استقالته من منصبه بدولة الجنوب احتجاجاً على سيطرة الجيش السوداني على منطقة أبيي في مايو الماضي، عبر المنابر الدولية ويروج لمزاعم عن إنتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وعمليات إبادة وتطهير عرقي أرتكبتها الحكومة السودانية في أبيي، وذلك في محاولة منه لتأليب الرأي العام العالمي للتحرك ضد السودان، وإثارة الدول الكبرى والتي تحركها منظمات المجتمع المدني، لاسيما ذات الطابع الحقوقي والتي مافتئت تقوم بعمليات التعبئة لصالح تشريع سياسات التدخل للأغراض الإنساني، وفق ما بات يُعرف بمفهوم مسئولية الحماية والدبلوماسية الوقائية للتحول دون تفاقم الأمور حتى تصل إلى حد إعادة إرتكاب مزيد من الفظائع. ولا يزال الضمير الإنساني مصدوم مما أركتب في السابق ومن أجل جعل سياسة التدخل الإنساني الدولي عرفاً دولياً جديداً. وتسعى جماعات الضغط المعادية للسودان لتحريض المجتمع الدولي ضده مثل حركة كفاية بزعامة جون برندر غاست وتحالف أنقذوا دارفور ومشروع (ستلايت سنتنتنال بروجكت) والذي أسسه الممثل الأمريكى (جورج كلونى) والذي يرصد الأوضاع في السودان عبر الأقمار الإصطناعية وتصدر عنه تقارير تردد مزاعم عن عمليات إبادة وجود مقابر جماعية، في محاولة لإحداث فرقعة إعلامية تدفع بإتجاه تبنى خيار التدخل العسكري تحت شعارات إنسانية في السودان. تحركات مريبة وبحسب المراقبين فإن زيارة عبدالواحد إلى جوبا في هذا الوقت بقصد إحياء تحالف كاودا وإنقاذه من الفشل الوخيم الذي ينتظره، خاصة بعد أن مُنيت قوات الجيش الشعبي بهزائم ساحقة على يد الجيش السوداني في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، ولم يستطع إحراز نصر عسكري أو سياسي يكون بمثابة تهديد جدى للحكومة المركزية يمكن ان يجعل من تحالف كاودا جدير بالدعم الغربي، بل انقلبت الآية فبدلاً من توقع إحراز نتائج ملموسة على الأرض خسرت الحركة الشعبية المزيد سوءاً عسكرياً أو سياسياً، مما جعل الأطراف الدولية التي كانت تراهن عليها وهى المدججة بالأسلحة أن تشكل عامل ضغط يغرى بفتح جبهة دارفور التي خمدت نسبياً، وذلك بعد أن تمكنت الحكومة السودانية من إنزال هزائم عسكرية وسياسية بحركات التمرد، والتي خرجت من الإقليم تبحث عن من يمد لها يد المساعدة بشكل يخفف الضغوط على حكومة جنوب السودان التي تحتضن هذه الحركات. فحكومة الجنوب لم تستطيع إخماد حركات التمرد ضدها، ولم تستطع أيضاً إنتزاع تنازلات مؤلمة من المؤتمر الوطني حول القضايا العالقة، واعتبرت أن دعم حركات التمرد في الشمال كفيل بتليين تصلب المؤتمر الوطني. وما يحفز عبد الواحد على قيادات تحركات مناهضة للحكومة السودانية أيضاً دخول إسرائيل على خط الأزمة في السودان عبر إقامة علاقات دبلوماسية مع دولة جنوب السودان، وهو الذي يحتفظ بعلاقات وثيقة مع إسرائيل منذ أن فتح مكتب لحركته هناك بعد أن تبناه برنارد هنري ليفي وقضية دارفور، وهو فيلسوف فرنسي يهودي الديانة وصهيوني متعصب لإسرائيل في ميوله السياسية، وسخّر شهرته كمناضل وفيلسوف يتبنى القضايا العادلة لخدمة إسرائيل والتغطية على وجهها العنصري البغيض. ويرى المخططون الصهاينة في دولة إسرائيل أن إقامة علاقات دبلوماسية مع دولة الجنوب هو تتويج لصلات تاريخية قديمة كانت تربط الحركة الشعبية بدولة إسرائيل، وهو ما كشفه عن جوزيف لاقو زعيم حركة الأنانيا وأكده العميد المتقاعد من الجيش الإسرائيلي موشيه فرجيه في كتابه (إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان.. نقطة البداية ومرحلة الانطلاق) فرصة ونافذة تجعلهم بالقرب من تخوم السودان البلد الذي طالما هدفوا إلى تمزيقه إلى دويلات. تربص أمريكي وجود بيئة خصبة لتنفيذ ذلك تمثل في روح التشفي التي تتملك قيادة الدولة الجديدة، وسعيها للانتقام واستئصال شأفة الشمال بدعم التمرد في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، والدليل على ذلك وجود قادته وهم الآخرين تحركهم الرغبة في الانتقام بعد خسارة مواقعهم أمثال مني أركو مناوي وعبد العزيز الحلو وأخيراً مالك عقار، بالإضافة إلى التربص الأمريكي المستمر بالسودان والذي يمني حركات التمرد على مساعدتها في تحقيق الهدف المشترك لكليهما وهو إسقاط النظام. ويلاحظ التصريحات التي تطلقها شخصيات معادية للسودان ونافذة في داخل أروقة صناعة القرار الأمريكي أمثال جون برندرغاست وروجر وينتر، فالأول دعا في يوليو الماضي الولاياتالمتحدة أن تعمل على استغلال الحالة التي خلقها ما عرف (ربيع الثورات العربية) التي أطاحت بأنظمة حليفة للولايات المتحدة كانت شديدة الاستبداد والبطش من أجل إسقاط النظام، بعد أن غدا تغيير الأنظمة أمر حتمي لا يثير الاعتراضات. ولعل التركيز المستمر على الإبادة والتطهير العرقي ومحاولات إحداث ثغرة في جدار الصمود السوداني عبر وسائل مختلفة مثل القرار (2003) كلها تصب في هذا الاتجاه، كما أن يوغندا التي باتت حديقة خلفية لحركات التمرد في دارفور وقبلها حركات العنف التي ضربت دول منطقة (البحيرات العظمى) مثل رواندا وبورندي وأفريقيا الوسطى والكونغو، كانت يوغندا طرفاً فيها. وإذا كانت يوغندا تعتبر حليفاً إستراتيجي للولايات المتحدةالأمريكية التي توظفها بمثابة مخلب قط وتتبنى سياسات عدائية تجاه السودان، فمن الطبيعي أن تحتضن حركات التمرد التي تزعزع الأمن والاستقرار في السودان بالتنسيق مع حكومة الجنوب. وفي الأسابيع الماضية أبدت الولاياتالمتحدةالأمريكية قلقها العميق إزاء الدعم الذي تقدمه حكومة الجنوب للمتمردين في جنوب كردفان، وذلك على لسان الناطق باسم الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند، وهي أكبر شهادة تفضح سياسات حكومة الجنوب التي تشعل التمرد في شمال السودان. البحث عن الزعامة ومما يدفع عبد الواحد للتحرك هذه الأيام ومحاولة تفعيل تحالف كاودا هو سعيه لتزعم هذا التحالف وهو يباهي كونه وثيق الصلة باللوبي الصهيوني، وهو الأقدر على جلب كافة أشكال الدعم لهذا التحالف لتحقيق أهدافه التي يصبو إليها، وهو كذلك يغازل الولاياتالمتحدة التي رأى مراقبون أن هزيمة عبد العزيز الحلو في جنوب كردفان وثم رفيق دربه مالك عقار في النيل الأزرق وقبلهما حركات دارفور عسكرياً وسياسياً، أن ذلك قد جرّد السياسة الأمريكية تجاه السودان من الأدوات الضاغطة عليه، بعد أن كانت قد راهنت على الضغوط الدولية والحصار والعقوبات والمقاطعة وفشلت في ذلك. وكانت تدخر ملف ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق في ظل وجود الجيش الشعبي من أبناء الولايتين حتى تعبر دولة الجنوب خط الأزمات الذي ترسف فيه حتى يحين وقت توظيفهما ضد الحكومة المركزية في الخرطوم. ولعل الحديث الأمريكي المتكرر عن ضرورة البحث عن تسوية سياسة جديدة للمنطقتين كانت في هذا الإطار. ويرى مراقبون أن محاولات تفعيل تحالف كاودا عبر شن حرب عصابات عبر قوس يمتد من دارفور إلى جنوب كردفان فالنيل الأزرق والزحف لإسقاط النظام في الخرطوم محاولات يائسة، لأن عامل الميزان العكسي يميل لصالح الحكومة السودانية؛ فمهما بلغ الدعم لحركات التمرد لن يرقى إلى مستوى التهديد الفعلي، فالنتائج على الأرض في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق تمثل ضربة قاضية لمحاولات تفعيل تحالف كاودا، هذا بالإضافة إلى تراجع قوة الولاياتالمتحدة على الصعيد الدولي، فلم تعد قطباً وحيداً يستفرد بصناعة القرار الدولي ومنه شن الحروب ضد الدول. كما أن إدارة أوباما لا تتحمس لخيار إسقاط النظام كما تدعو إلى ذلك جماعات الضغط المعادية للسودان بحسب د. خالد حسين الخبير في العلاقات السودانية الأمريكية.