ولكن يأتي السؤال هنا: هل هذا التحول في موقف الحركة الشعبية جاء هكذا عفو الخاطر؟ وهل تحول قادة الحركة الشعبية بين عشية وضحاها من رجال عصابات إلى رجال دولة؟ وهل أصبح قادة الحركة الشعبية يحسون بآلآم مواطنيهم، ويخشون من الثورة عليهم؟ وهل أصبح قادة الحركة الشعبية يحسون بالروابط التي تربطهم بالسودان وبالتالي في ساعة العقل غيروا مواقفهم؟ أم هل أحس قادة الحركة الشعبية بأن هناك ديناً عليهم واجب السداد تجاه حكومة السودان بقبولها بإنفصال الجنوب وإعترافها بدولتهم؟. الإجابة بالإيجاب على أياً من تلك الأسئلة لم يحدث، وأن العلاقات بين الدول لا تبنى على أياً من تلك العواطف، وإن كان وجود بعضها يمهد الطريق لعلاقات سالكة بين الدول. والعلاقات بين الدول لا تبنى على (الكره والحب)، ولكنها تبنى على المصالح. والمواقف والعلاقات بين الدول لا يكون الخيار في إتخاذها مفتوحاً (يعني ما على كيفك)، إنما تحدد الخيارات وفق الظروف الموضوعية الموجودة والمحيطة والمكونة للحدث. وقد تنعدم الخيارات وتكون ضعيفة جداً، وقد تضطر لإختيار أفضل الخيارات السيئة أو التي أقلها ضرراً. والعوامل التي تحدد الخيارات ليست مقصورة على الفاعل وحده، فتشابك العلاقات الدولية والتواصل بين الدول الذي تلاشت أمامه الحدود وإنخفضت أسوار السيادة إلى ما تحت الصفر، أصبحت هنالك قوى إقليمية ودولية بالإضافة إلى العوامل الداخلية هي التي تؤثر في الحدث، وبالتالي تحدد الخيارات. فقد ضاقت الخيارات على دولة الجنوب في تعاملها مع حكومة السودان حتى أصبح خياراً واحداً وليس غيره، وهو ضرورة التعامل بعقلية رجال الدولة، وبما يخدم مصلحة الجنوب وبالتالي مصلحة مواطنيهم، وذلك لمجموعة من العوامل الكثيرة نوجز منها: أولاً: الخطأ الإستراتيجي الذي إرتكبته حكومة الجنوب بإغلاق خط النفط وما أحدثه من دمار للإقتصاد الجنوبي والذي هو أصلاً كان طفلاً ناقص الولادة (جنى سبعة)، حتى كادت الحياة ان تتوقف تماماً، والذي إنعكس على المواطن الذي عاش حالة من المعاناة وصلت إلى عدم المقدرة على الحصول على ضرورات الحياة التي تحفظ حق الإنسان حياً. هذا الخطأ كان في تقدير حكومة الجنوب ومن نصحها أنه كفيل بإسقاط حكومة السودان على أسوأ الفروض في ظرف شهرين. يتزامن مع ذلك الإعداد لتحريك الشارع السوداني بتخطيط دقيق رصد له من التمويل الخارجي ولم يعدم المنفذين من الداخل، هذا إضافة إلى الخلايا النائمة التابعة للحركة الشعبية ولقاطع الشمال وللحركات المتمردة. إستطاعت الحكومة أن تتجاوز فترة الشهرين ببعض التدابير الإقتصادية، كما أن المظاهرات التي تم الإعداد لها لم تزد على حجم (حضرنا ولم نجدكم). ثانياً: الخطأ الإستراتيجي الثاني كان إحتلال هجليج والذي كان من المتصور أن يزحف جيش الحركة بعد إحتلال هجليج إلى الأبيض والخرطوم في محورين مختلفين. والنتيجة كانت الهزيمة المرة لجيشها وإسترجاع هجليج في زمن قياسي، إضافة إلى إلتفاف شعبي غير مسبوق حول الحكومة، وإستهجان وإستنكار دولي ما كانت تعشم فيه حكومة الخرطوم. هذا إضافة إلى إستبانة كثير من القوى الدولية للمواقف العدائية غير المقبولة من دولة مازالت في طور التكوين. ثالثاً: عدم إستشارة الولاياتالمتحدة في مسألة حاسمة كإغلاق خط النفط، أو فلنقل تم من وراء ظهرها، كانت له ردة فعل عنيفة على المستوى الرسمي في الولاياتالمتحدة، بل لعله أحد العوامل المهمة التي جعلت الولاياتالمتحدة تعتقد بقوة أن قابلية هذه الدولة الوليدة للحياة لا يتم إلا بالتعاون مع حكومة السودان. ولمعقولية مطالب الخرطوم، كان الضغط وبقوة على حكومة الجنوب على ضورة الإتفاق مع حكومة السودان، وحل كل القضايا العالقة عن طريق التفاوض وليس عن طريق الحرب التي خلصت الولاياتالمتحدة إلى حقيقة مفادها أنه لا تستطيع جوبا إسقاط حكومة الخرطوم عسكرياً خاصة بعد عملية هجليج الفاشلة. هذا مقروناً من تزامن ذلك مع دخول الإدارة الأمريكية موسم الإنتخابات والتي تحتاج فيه إلى كسب سياسي خارجي يعينها في إضافة أهداف في شباك الخصم، وقد فصلنا ذلك في مقالنا (السودان في مفكرة الإنتخابات الأمريكية). رابعاً: كانت حكومة الجنوب بناءً على نصيحة من أشاروا عليها بإغلاق خط النفط أنها ستجد من الدعم الخارجي ما يعوضها عن كل جالون. وعندما خرج وفد الحركة بقيادة سلفاكير طالباً العون والمساعدة في القوى الغربية الصديقة وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، فلم يجد منها (ظهر المجن) مقلوباً فحسب، بل وجد التوبيخ والتأنيب من إضاعة حقه بسلوك غير مسئول ثم يأتي ويسأل ما عند الناس، هذا مقروناً مع الحالة الإقتصادية السيئة التي يعيشها الغرب والذي أصلاً ما كان يستطيع أن يدفع حتى لو كان السلوك مقبولاً. ولم يجد سلفاكير دعماً مالياً إلا من موسيفيني الذي لا يكفي حتى لمصروفات الجيب. خامساً: التقارير من منظمات المجتمع المدني الغربية وعلى رأسها (أمنستي إنترناشونال) والتي صارت تنقل الحالة الخطيرة في الجنوب وللمواطنين الجنوبيين، وانتهاكات حقوق الإنسان التي يقوم بها الجيش الشعبي، متضمناً كل المفردات التي تتعلق بإنتهاكات حقوق الإنسان مثل القتل، التعذيب، أعمال العنف المروعة وغيرها، والتي كان لها أثر سالب وضاغط على حكومة الجنوب أغلقت في وجهها معظم المنافذ الخارجية. لهذه الأسباب وغيرها كان التحول في موقف حكومة الجنوب ونزوعها إلى التفاوض وتأجيل الأجندة السابقة على الأقل في المدى المنظور والمتوسط. ولكن هل التغيير في سلوك حكومة الجنوب نتيجة لما ذكرنا من أسباب هو أمر معيب ويقدح في مصداقية حكومة الجنوب، وبالتالي يبث الشكوك في نواياها وبالتالي في مواقفها؟. بالتأكيد الإجابة بالنفي. وكما ذكرنا السياسة والعلاقات بين الدول لا تبنى على (الكره والحب)، إنما السياسي أو المفاوض الناجح هو الذي يستطيع من خلال الضغوط والظروف التي يعيشها الطرف الآخر تحقيق أكبر قدر من المصالح لدولته. حكومة السودان ومنذ فترة غير قصيرة هدفها الإستراتيجي جوار آمن مع دولة الجنوب. وتستطيع الحكومة أن تحقق ذلك الآن وفق ما ذكرنا من ظروف ومعطيات. والمهم بالنسبة للحكومة أن تكون حكومة الجنوب ذات نية صادقة وتملك إرادة سياسية تستطيع بواسطتها أن تصل إلى ما تريد والتوقيع عليه، كما فصلنا في مقالنا السابق. حكومة السودان جادة في إنفاذ الإتفاق، وكذلك حكومة الجنوب، وقد إنعكس ذلك في التمهيد لإنفاذ الإتفاق. فقد قامت الحكومة بإعتقال جيمس قاي المعارض لحكومة الجنوب، وإصدار الرئيس قرار يقضي بفك الحظر على تصدير الذرة للجنوب. كما طلب باقان من الحركات المتمردة مغادرة جوبا في ظرف إسبوعين، هذا إلى جانب ما ذكره سفير الجنوب بالسودان ميانق دينق عن الإتصال الهاتفي الذي تم بين البشير وسلفاكير بشأن المتمردين في الدولتين مبشراً بأننا سنسمع في الأيام القادمة بشريات مهمة. هذا وقد تم تحديد موعد لإجتماع رئيسي اللجنة الأمنية من الطرفين وزيري الدفاع لمناقشة أمر قطاع الشمال. وقد سمّت الحكومة سفيرها لدى جوبا الدكتور مطرف صديق، ولعل في ذلك إشارة واضحة لجدية الحكومة وحرصها على إنفاذ الإتفاقية. وبعد كل هذا لإستقامة الأمر لابد من إيراد (لكن). فعلى الرغم مما ذكرنا ظهور براعم (ورود) قابلة للتفتح، لكن هنالك كمية من (الأشواك) والأشواك المؤذية (شوك لعوت) و(سدر) و(هجليج) من الطرفين فلابد من الإنتباه إليها في السير لتجنب الإصابة بها. هنالك الكثيرين ممن لم يعجبهم هذا الإتفاق، وسوف لن يألوا جهداً في إفشاله، بعضاً منهم في الداخل من الطرفين، وبعضهم من الخارج. وفي تقديري أن الذي في الخارج تأثيره لن يكون كبيراً إذا أحسنا التعامل مع من في الداخل. وذلك لأن الخارج لا يستطيع الفعل المباشر، ولا يفعل ذلك إلا من خلال من يتعاون معه في الداخل. تفهم تصريحات وزير الإعلام الجنوبي في هذا الإتجاه، حيث ذكر بأن حكومة الجنوب لا تأوي أصلاً متمردين. على الرغم من أن ذلك لم يعد سراً، فباقان الأمين العام للحركة الشعبية طلب من الحركات المتمردة مغادرة جوبا، وطلبت كلنتون وأوباما من جوبا ما قام به باقان. لذلك مثل تصريحات وزير الإعلام تغذي عدم الثقة والتي هي أصلاً مرتكز المشاكل بين الدولتين. كما ان حاكم بحر الغزال بول ملونق رفض الإتفاق عبر مؤتمر صحفي عقده في جوبا، ودخل في ملاسنات حادة مع الرئيس سلفاكير، كما حرض الجيش الشعبي من عدم الإنسحاب من 14 ميل، وكون كتلة مع نواب بحر الغزال في البرلمان لمقاومة هذا الإتفاق متهمين الحكومة بأنها (باعت الجنوب) لحكومة الشمال. وفي المقابل أصبح قطاع الشمال والحركات الثورية ظهرها مكشوفاً بهذا الإتفاق، فقد فقدوا من قبل السند التشادي والليبي والمصري والإثيوبي والأريتري، ولذلك لن يألوا جهداً في إفساد الإتفاق. رفض التفاوض معهم ليس هو الحل، وعلى الرغم من ضيق خياراتهم، إلا أنهم لن يعدموا من يتعامل معهم، والأفضل التفاوض معهم وفي هذه الظروف بالتحديد، وفق بروتوكول المنطقتين. وليس هنالك من داع من وضع الإشتراطات الإعلامية التي لا تقدم ولا تؤخر، ولكن على طاولة التفاوض يمكن طرح أي مسألة، وبالمقابل يمكن رفض أي مسألة كما يمكن قبولها. هنالك أبناء أبيي وهم من النافذين في الحركة الشعبية، دينق ألور ولوكا بيونق وإدوارد لينو. فقد إنسحبوا ساعة التوقيع في اديس أبابا معبرين عن رفضهم للإتفاق. مسألة أبيي تتلخص في نقطة جوهرية، هل يسمح للمسيرية بالتصويت أم لا يسمح لهم؟ حسب بروتوكول أبيي لهم الحق. ولكن إذا سمح للمسيرية بالتصويت فستكون النتيجة أبيي شمالية وسوف لن يقبل دينكا نقوك، وسوف تشتعل الحرب. وإذا لم يسمح لهم فستكون النتيجة أن أبيي جنوبية الأمر الذي لن يقبله المسيرية، وسوف تندلع الحرب مرةً أخرى. إذن حل أبيي ليس بالإستفتاء، وإنما نحتاج إلى حل سياسي عبر مفاوضات طويلة صبورة يراعى فيها حقوق كافة الأطراف، وفي هذا الجانب هنالك كثير من الحلول المطروحة للأخذ بأياً منها عن طريق التراضي (لا غالب ولا مغلوب)، هذا الذي يفضي للخروج من مأزق الإستفتاء الذي نتيجته الحرب مهما كانت نتيجة الإستفتاء. يبقى أن نختم هذا المقال ونقول من خلال القراءة والتحليل الموضوعي أن هناك نية صادقة وإرادة سياسية لخلق علاقات تعاون وجوار آمن بين الدولة الأم والدولة (الإبن)، وأن هنالك كثير من الأزهار قابلة للتفتح، وأن هنالك كثير من الأشواك تقتضي الحكمة السير بهدوء، والصبر على أذى الأشواك التي تصيب رغم الحذر. ولعل بإنفاذ هذا الإتفاق تكون دولة الجنوب أصبحت قابلة للحياة، ودولة الشمال سوف تنطلق للنمو والإزدهار لتحقيق رفاهية مواطنيها. ولابد أن يكون الختام بالنكتة التالية: قبل يومين وجدت في جهاز تلفوني رقم إتصل بي يبدأ بالرقم (00211)، حسبت أن المكالمة من مصر، فإتصلت بالرقم، فجاءني صوت به لكنة جنوبية، وقال لي أنه وجد هذا الرقم في تلفونه، عرفته بنفسي فقال لي بعد ضحكة (مفرحة) (والله يومين ديل علاقات بينا كويس تلفون يجي براهو)، وعلمت أن (00211) هو مفتاح دولة الجنوب. Email: [email protected]