الثلاثاء السادس من نوفمبر الجاري كان الإعلان بتولي الرئيس أوباما فترة رئاسية ثانية في الولاياتالمتحدة. ولعلها المرة الثانية في الحزب الديمقراطي التي يعاد فيها إنتخاب رئيس مرة ثانية بعد الرئيس كلنتون والذي إنتهت ولايته بفضيحة (مونيكا)، (والله يستر على أوباما). إذا كان هذا الإنتصار له قيمته على مستوى الحزب الديمقراطي، حيث يمثل قبول الشعب الأمريكي ورضاءه عن أداء هذا الحزب لمدة أربعة سنوات قادمة، فإنه يمثل نصراً من نوع آخر على المستوى الشخصي لأوباما. أوباما الذي يمثل الجيل الأول من أب هاجر إلى الولاياتالمتحدة في منتصف القرن الماضي، وإستطاع أن يكون رئيساً للولايات المتحدة (يعني رئيس الدنيا). إستطاع أوباما في هذه الخمسين عاماً التي قضاها في الولاياتالمتحدة، أن يكون أمريكياً بمعنى الكلمة، تشرّب وفهم القيم الأمريكية، وأدرك أن هذا الشعب لا يحترم إلا الناجحين. ومعيار التميز في الولاياتالمتحدة هو النجاح، ليس مهما الوسيلة ولكن المهم أن تنجح، ولذلك سوف يفسح لك ذلك المجتمع مكاناً واسعاً تتمدد فيه كيف تشاء. وهكذا يسير أوباما من نجاح إلى نجاح، فقد نجح في العام 2008 بأن يكون أول رئيس أمريكي ذو أصول زنجية، فقد أصبح في عام 2012 أول رئيس زنجي يفوز بفترة رئاسية ثانية. هذا النجاح الذي يشبه المعجزة لا نستطيع نحن في دول العالم الثالث أن نحققه في داخل أوطاننا إلا بإستخدام طرق غير مشروعة. فلم يخرج الحكم في السودان منذ الإستقلال إلى الآن من بيوت الأسر المعروفة إلا بواسطة إنقلاب عسكري، إذا كان في العام 1958، أو العام 1969، أو العام 1989. وجد فوز أوباما إرتياحاً عاماً في معظم دول العالم الثالث، هذا الإرتياح مرده في تقديري ليس لتميز برنامج أوباما على رومني، أو لأن أوباما ربما يكون متعاطفاً مع دول العالم الثالث، أو لأن أوباما على الأقل يحترم بعض القيم والمبادئ التي نؤمن بها، ولكن في تقديري أن هذا القبول هو قبول عاطفي وجداني، وذلك لأن دول العالم الثالث تعتقد أن أوباما (منهم)، يعني (ود عمهم)، لذلك يعتقدون أن أوباما إن لم يكن منحازاً لهم، فسوف يراعي كثيراً من مصالحهم. وربما يأتي الإنبهار والإعجاب بهذا الشاب الذي لم يتجاوز الخمسين بعد، وحقق من النجاح (رئيس الدنيا)، ما يعد في مصاف الإعجاز والمعجزات. ولكن في تقديري أن كل الذي قلنا أو أن الذي نتوقع ليس له محل من الإعراب في عقلية هذا الفتى الأسمر، فهو أمريكي حتى النخاع، ويعرف كيف يفكر الأمريكان، ويعرف ماذا تريد أمريكا، ويعرف ماذا يريد الناخب الأمريكي، وفق هذا كان برنامجه الإنتخابي، ووفق هذا البرنامج تم إنتخابه رئيساً مرةً أخرى للولايات المتحدةالأمريكية. ولأن أمريكا هي سيدة العالم (القوى العظمى الأولى) فإن العالم كله مشغول بإنتخاباتها، ومن سيفوز فيها، ويحسب حسابات الربح والخاسارة في تلك الإنتخابات ومن يفوز فيها، نحن كذلك كغيرنا مهمومون بتلك السياسة، ومهمومون بمن يفوز فيها، وكغيرنا فرحنا أو وجد فوز أوباما (إرتياحاً واسعاً) وعلى رأسنا حكومتنا، والتي أبرقت مهنئةً بفوز أوباما، مع الأمل أن (يتولى أوباما ملف السودان بنفسه). وهذا ما سوف نعود له لاحقاً. يعتقد الكثيرون أن أوباما سوف يستمر في سياساته السابقة تجاه السودان، فيما يعرف بسياسة العصا والجذرة، والتي كانت فيها العصا مرفوعة فوق رأس السودان، من دون أدنى جذرة، بينما يرى آخرون أن أوباما سيغير من سياساته تجاه السودان، مستندين إلى تجديد أوباما لقرارات العقوبات الإقتصادية تجاه السودان قبل ثلاثة أيام من بداية الإقتراع. وقبل أن نقرأ ونستشرف ماذا سيفعل أو ما هي سياسة أوباما تجاه السودان لابد أن نضع بعض المعلومات والحقائق التي تؤثر على ذلك: أولاً: إن الولاياتالمتحدة هي دولة مؤسسات، وكل من تلك المؤسسات لها وزنها ولها دورها وفق الدستور الأمريكي، ومن المؤسسات التي يكون لها دور وتأثير في سياسة الولاياتالمتحدة الخارجية، الرئاسة، وزارة الخارجية، البنتاغون، الأمن القومي، وكالة المخابرات الأمريكية، الكونغرس، وجماعات الضغط أو اللوبيهات وأهمها في حالة السودان اللوبي الصهيوني، ومنظمات المجتمع المدني وعلى رأسها أنقذوا دارفور ومشروع كفى ومجموعة السود الأمريكان. ومن ذلك نستطيع أن نقول أن الرئيس لا يقرر وحده في الشأن الخارجي، ولا حتى في الشأن الداخلي (يعني ما زينا – فالرئيس يقرر في كل شئ). فالرئيس أوباما على الرغم من تبنيه لمشكلة دارفور، وأن ما يجري فيها هو إبادة جماعية في حملته الإنتخابية الأولى، إلا أنك لا تخطئ أن ترى تعاملاً موضوعياً في بعض الحالات تجاه السودان. ولعل هذه الملاحظة كانت أكثر وضوحاً أثناء تولي الجنرال غرايشن مسئولية المبعوث الرئاسي الخاص للسودان، فقد كان غرايشن يجد الدعم من الرئيس أوباما، ومن مسئول الأمن القومي، وكان هذا يمثل محور التعاطي الموضوعي مع السودان إذا لم نقل محور الإعتدال، ضد محور آخر متشدد في داخل الإدارة الأمريكية تمثله هيلاري كلنتون وسوزان رايس وجونداي فريزر، ونائب الرئيس بايدن، وإن كانت وزيرة الخارجية قد عدلت في بعض من تشددها تجاه السودان، وأصبحت أقرب إلى محور الإعتدال والتعاطي الموضوعي.
هيلاري كلنتون ربما لن تكون من ضمن طاقم الإدارة الجديد، وذلك للمآخذ والإنتقادات لبعض سياساتها الخارجية. ومن أكثر المرشحين لهذا الموقع سوزان رايس مندوبة الولاياتالمتحدة في مجلس الأمن ومن أكثر الشخصيات الأمريكية عداءً وتشدداً ضد السودان. ثانياً: يأتي دور الكونغرس (مجلس النواب) في التأثير على السياسة الخارجية في زاويتين، الأولى أن أي قرار في السياسة الخارجية لابد أن يجيزه الكونغرس، ويمكن أن يصدر الرئيس قرار من غير موافقة الكونغرس، ولكن إذا كان القرار يحتاج إلى ميزانية في التنفيذ فإن الرئيس لا يستطيع إصدار القرار إلا بعد إجازة الكونغرس وتصديقه على الميزانية التي يتطلبها تنفيذ القرار. الزاوية الثانية التي يؤثر فيها الكونغرس على السياسة الخارجية هي أن الكونغرس هو مكان عمل مجموعات الضغط واللوبيهات. فأي نائب لا يستجيب لضغوط هذه المجموعات، فإنه مهدد بعدم إنتخابه مرة أخرى، لذلك نجد أن الكونغرس والرئاسة هي أكثر المؤسسات إستجابة لمجموعات الضغط، وللأسف فإن الكونغرس لهذا السبب يمثل أكثر المؤسسات الأمريكية تشدداً تجاه السودان. إذا أضفنا إلى ذلك بأن الأغلبية في الكونغرس في هذه الإنتخابات كانت للجمهوريين، مما يشير إلى أن موضوع الشأن السوداني سيكون مكاناً للتباري في التشدد من المتطرفين في الحزبين الديمقراطي والجمهوري. ثالثاً: تؤثر اللوبيهات تأثيراً كبيراً في السياسة الخارجية الأمريكية، وذلك لما تمارسه من ضغوط على الإدارة أو الرئاسة مهددةً بمقدرتها في التأثير على الإنتخابات (وهي فعلاً كذلك)، وفي حالة السودان يمثل اللوبي الصهيوني وكتلة الأفارقة السود ومنظمات المجتمع المدني وعلى رأسها (إنقذوا دارفور، ومشورع كفى). وسوف نتناول دور اللوبي الصهيوني عند تناولنا لتأثير إسرائيل على سياسة الولاياتالمتحدة الخارجية تجاه السودان. أما منظمات المجتمع المدني وعلى رأسها (إنقذوا دارفور، ومشروع كفى)، وكتلة الأفارقة السود، هذا التحالف يتزعمه الناشطان (بندر غاست)، والممثل الأمريكي (جورج كلوني). جورج كلوني وبندر غاست هما من أكثر الأمريكان عداءً للسودان وللنظام الحالي في السودان. وهما الذان أقاما مشروع مراقبة السودان بالأقمار الصناعية، والذي التقط الصور الكاشفة لمجمع اليرموك، وصور تم توثيقها ضد السودان من جنوب كردفان. كلوني وبندر غاست يدعوان للقبض على البشير ومحاكمته في لاهاي ومساعدة المعارضة السودانية السياسية والحاملة للسلاح للإطاحة بالبشير. جورج كلوني هذا، ساعد في جمع مليار دولار لحملة أوباما الإنتخابية، مما يعني أنه من العوامل الأساسية في فوز أوباما، بل أن ذلك يمتد لأكثر من العلاقة الشخصية الخاصة مع أوباما. وقد دفع كلوني أكثر من ما هو مطلوب منه، فقد قدم (السبت) وسوف يجد (الأحد) عند أوباما. ومطلوبات كلوني معلومة، قد ذكرناها سابقاً. رابعاً: العامل الآخر الذي يحدد السياسة الخارجية الأمريكية تجاه السودان، هو العلاقة مع إسرائيل. وهذه العلاقة ذات طابع مزدوج، فمن ناحية علاقة إسرائيل المباشرة مع السودان وخاصة عندما تدعي أن تلك العلاقة تؤثر على الأمن الإسرائيلي، ففي هذه الحالة يكون هنالك تنسيق كامل بين إسرائيل والولاياتالمتحدة، هذا إذا لم تتول الولاياتالمتحدة الأمر نيابة عن إسرائيل. وفي الناحية الأخرى تأثير اللوبي الصهويني على السياسة الخارجية الأمريكية تجاه السودان، ومعلوم أن هذا اللوبي هو الذي أنشأ (مشروع كفى وإنقذوا دارفور) ومن ناشطيه بندر غاست وجورج كلوني. وبالتالي سوف يعمل على هذا العامل على التأثير المباشر والقوي في سياسة الولاياتالمتحدة والسودان في عهد ولاية أوباما الثانية. خامساً: مما لاشك فيه أن مفتاح عقل الولاياتالمتحدة وقلبها تجاه السودان هو العلاقة مع دولة جنوب السودان. الولاياتالمتحدة تعمل على أن تكون هذه الدولة قابلة للحياة تنعم بالإستقرار، وتعمل على تحقيق رفاهة مواطنيها، وفي مقابل ذلك ستحصل الولاياتالمتحدة على ثروات هذا البلد المهولة، سواءً كان بالعمل المباشر والإستثمار في تلك الموارد، ومن خلال العقود التي تبرمها مع دولة الجنوب في كافة مناحي الدولة، إذا كان في البنى التحتية أو تأهيل وتسليح القوات المسلحة وغيرها. وتعلم الولاياتالمتحدة أن كل ذلك لن يتم إلا بجوار آمن مع دولة السودان، ومساعدة دولة الجنوب في تحقيق المطامع الأمريكية. دولة الجنوب كذلك مكان صراع بين الولاياتالمتحدة والصين، من خلال صراع الدولتين العظمتين في الإستحواز على خيرات القارة. وقد نجحت الولاياتالمتحدة إلى حد ما في تحجيم دور الصين في الجنوب، ويبقى تكملة الباقي على حكومة السودان. جنوب السودان كذلك يمثل رأس الرمح في تحقيق المشروع الإسرائيلي بتفتيت السودان من خلال مساعدة حركات دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق. ومن ذلك يتضح مدى تعقيد وتقاطع الإجندات في جنوب السودان، وربما نلاحظ تقاطع السيوف في سماء الخرطوم، نتيجة لهذه الأجندات المتقاطعة. الأمر كما يبدو ليس بهذه البساطة التي نتخيلها في علاقتنا مع الولاياتالمتحدة وإستشراف العلاقة والتنبؤ بها، يأتي من خلال تفاعل تلك العوامل التي ذكرناها مع بعضها البعض وتكون نتائجها هو سياسة الولاياتالمتحدة الخارجية تجاه السودان. ومن الواضح من خلال قراءة تلك العوامل أن نتائجها لن تكون في مصلحة السودان، هذا إذا أضفنا أن الحزب الديمقراطي هو الأكثر تشدداً في تعامله مع السودان. لذلك تكون من السذاجة أن نطالب أوباما بأن يأخذ ملف السودان شخصياً، ماهو السودان؟ وما هو موقعه في العالم؟ حتى يهتم به رئيس الولاياتالمتحدة. (شلاقتنا) وحدها هي التي جعلتنا ندخل في رأس الولاياتالمتحدة، ولكن التأمل في الخروج. ولكن مع هذا نستطيع أن نقول أن الرئيس أوباما في فترة رئاسته الثانية سوف يكون أكثر (إرتياحاً) في إتخاذ مواقفه بعيداً عن ضغوط الناخبين وصناديق الإقتراع، فهو قطعاً لا يأمل في فترة رئاسة ثالثة.!! ولكن للرئيس أوباما طموح لا يتوقف، فليس نهاية طموحه أن يكون رئيس الولاياتالمتحدة، فقد كان هذا طموحة، وقد تحقق، وبالتأكيد سوف يكون له طموح آخر، وبالتأكيد سوف يعمل على بلوغه بإرضاء المواطنين الأمريكان، وليس بإرضائنا نحن. [email protected]