أصدرت "مجموعة الأزمات الدولية" في التاسع والعشرين من الشهر المنصرم، تقريراً بعنوان (السودان .. إصلاحات رئيسية أو مزيد من الحرب) ،وكان هذا التقرير الأخير للمجموعة مختلفاً تماماً عن سائر التقارير التي أصدرتها في السنوات الماضية،ويحتل السودان مكانة بارزة في صدارة إهتمامات المجموعة البحثية ،والتي تقدم المشورة والرأي إلى صناع القرار في الغرب ،لا سيما حول كيفية التعاطي مع النزاعات القائمة ،أو الكامنة ،أو المتوقعة. ففي معظم التقارير التي صدرت سابقاً، كانت هناك توصيات ودعوات إلى فرض مزيد من العقوبات على النظام ورموزه ،بما ينزع عنه الشرعية ،وزمام المبادرة،ويجعله قابل للمساومة والإبتزاز عند أى حوار،أو مفاوضات مع الغرب ودفعه – أي النظام السودانى – إلى تقديم تنازلات جذرية لصالح حلفاء الغرب، مع التشديد على تحميل "المركز" مسؤولية إستمرار الحروب والنزاعات المسلحة ،وإختزال جذور المشكلات القائمة في فرضية المركز/ الهامش دون القدرة على تقديم رؤى وتحليلات متماسكة ،تتعامل تلك المشكلات بموضوعية. تلعب مجموعات الأزمات الدولية دوراً كبيراً في رسم وتشكيل السياسات والقرارات الدولية، إذ تتمتع بنفوذ كبير داخل أروقة العديد من المؤسسات الدولية المؤثرة، كما أخذت تهتم بالأوضاع في السودان بشكل متزايد وخطير، وفي اتجاه تحريضي فما حقيقة هذه المجموعة؟ حقيقة المجموعة تورد الموسوعة الالكترونية (ويكبيديا) أن المجموعة تأسست في العام 1995م بعد جهود مضنية قادها ناشطون على جانبي الأطلسي (الولاياتالمتحدة وأوربا،) خاصة مورتون أبراموفيش ومارك مالوك براون، وتوصف بأنها اليوم المصدر العالمي الأول المستقل والحيادي للتحليلات والمشورة التي تقدمها للحكومات، وهي منظمة دولية غير ربحية تتمثل مهمتها في منع حدوث وتسوية النزاعات الدموية، لها (17) مكتب ميداني، وتغطي (65) نزاعاً ونزاعاً محتملاً، وعدد متلقي تقاريرها (26) ألف شخص. ويبلغ عدد المرات التي تذكر فيها المجموعة في وسائل الإعلام سنوياً (14) ألف مرة، ويعمل بها (130) موظفاً بدوام كامل من (49) جنسية ويجيدون (47) لغة، وتصدر نشرة (كرايسز ووتش) التي تقدم تقييماً شهرياً للأوضاع الراهنة في حوالي (70) بلدا. كما تقوم المجموعة بنشر (90) تقريراً وخلاصات سنوية، ولديها محللون في أكثر من (60) بلداً، وبلغت ميزانيتها السنوية في العام 2008م حوالي (16) مليون دولار؛ ويقع مكتبها الرئيس في بروكسل، كما لديها مكاتب إقليمية ومحلية. وتقدم المجموعة الاستشارات إلى الاتحاد الأوربي والأمم المتحدة والبنك الدولي فيما يتعلق بتسوية النزاعات المميتة وتسويتها عند ظهورها؛ وتمول المجموعة من الهبات والمنح التي يقدمها الأفراد والحكومات والشركات؛ ومن أبرز الأفراد الداعمين لها الملياردير اليهودي الأمريكي من أصل بولندي ،جورج سوروس صاحب مؤسسة (المجتمع المفتوح)،والتي تمول أجندة عالمية... من الأقليات إلى عقيدة السوق المفتوحة؛ وتقود المجموعة بحماس شديد الدعوة إلى تبني العرف الدولي الجديد (مسؤولية الحماية) ويقال إن مؤسسيها ممن (شعروا باليأس من فشل المجتمع الدولي في توقع المآسي التي حدثت في مطلع التسعينات في رواندا والصومال والبوسنة والاستجابة الفعالة لها). إصلاحات أساسية وتواترت التقارير التي تصدر عن مجموعة "الأزمات الدولية" عن السودان،فى السنوات الأخيرة، لا سيما عقب التوصل إلى إتفاقية نيفاشا للسلام في العام 2005 ،بين الحركة الشعبية والحكومة المركزية في الخرطوم، وأنصب تركيزكل هذه التقارير في تقديم النصائح لصناع القرار في المنظمات والدول المهتمة بالسودان،وتنبيههم للتعاطي مع المستجدات ، بالتركيز على تحميل الحكومة المركزية مسؤولية خرق الإلتزامات الواردة في القرارات الدولية ،أو الاتفاقيات الموقعة ؛ولكن في التقرير الأخير الي صدر في أواخر الشهر الماضي جرى الحديث عن أن (وحدها إصلاحات متحكم بها في نظام الحكم لكن إصلاحات أساسية يمكن أن تساعد في تفادي البلاد الأزمة المستحكمة والبؤس الإنساني). ولم ترد تفاصيل هذه "الإصلاحات الأساسية" هل هي إصلاحات هيكلية في بنية الدول في العلاقة بين المركز والولايات؟أم توسيع نطاق المشاركة السياسية لتضم الحركات المتمردة والرافضة لخيار السلام في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور؟ وكما لم ترد أية إشارة لكيفية تعامل المجتمع الدولي مع رافضي السلام ،والذين تقع على عاتقهم مسؤولية إستمرار وتوسيع نطاق الحرب والتمرد ،والذين يوفر لهم ما يسمى بالمجتمع الدولي الغطاء اللازم. عدالة عوراء ودعا "تقرير الأزمات الدولية" كذلك مجلس الأمن الدولي إلى إستخدام المادة (16) من نظام روما لتجميد مذكرة التوقيف التي صدرت بحق الرئيس عمر البشير. ويرى مراقبون أن الإشارة إلى المادة (16) من نظام روما بإعتباره أحد متطلبات التوصل إلى الإصلاحات الأساسية ،التي تدعو إليها "المجموعة" بمثابة ردة إلى الخلف، ذلك أن السودان ،ومنذ إحالة ملف دارفور إلى "المحكمة الجنائية الدولية" ظل ثابتاً على موقفه ،ولم يتزحزح عنه قيد أنملة ،وهو أن "المحكمة" ما هي إلا تكريس لعدالة عوراء لا تبصر إلا بتوجيه من الدول الكبرى المتنفذة في مجلس الأمن ،وأن السودان ليس مصادقاً على ميثاقها، حتى تشمله ولاية هذه المحكمة؛والتي هي في الأصل اختصاصها تكميلي للقضاء الوطني فضلاً على كل ذلك، السودان قد أنسحب من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية. وقطعت مسيرة رفض المحكمة الجنائية بإعتبارها وجهاً من وجوه العدالة الدولية المدعاة أشواطاً بعيدة ،إذ تتزايد الأصوات المنتقدة لأداء المحكمة والمطالبة بإنسحاب الدول خاصة في أفريقيا منها بسببب التحيز الفاضح الذي شاب تحركاتها إستهداف الأفارقة فقط. إسقاط النظام ولكن رغم أن تقرير "مجموعة الأزمات الدولية" الأخير قد شابته العمومية ،إلا أنه جاء باستنتاج يستوجب التوقف للنظر فيه حيث جاء في التقرير (الكثيرون ربما يأملون في تغيير النظام عبر إنقلاب ،أو عمل عسكري، ولكنهم لم يقرروا المخاطر) فإن مجرد وصول مؤسسة بحثية ،والغة في الشأن السوداني بشدة ، إلى قناعة مفادها، أن إسقاط النظام يبدو أنه هدف، بعيد المنال ؛ منذ أن دعمت الولاياتالمتحدةالأمريكية، المعارضة المسلحة ضد النظام (الحركة الشعبية بزعامة قرنق، آنذاك والتجمع الوطني الديمقراطي) ،وفتح أكبر جبهة مواجهة عسكرية، أمتدت من أقصى الشرق ،إلى أقصى الغرب ،و لكن رغم كل ذلك فقد باءت كل تلك المحاولات بالفشل الذريع. وراهنت الأطراف الدولية هذه المرة على حدوث إنشقاق داخل النظام بعد إنقسام الحركة الإسلامية الشهير 1999 ،ولكن ظل النظام ممسكاً بزمام المبادرة ومقارعاً المعارضة السياسية والتصدي للتمرد المسلح فى الوقت نفسه. ويبدو أن إحباط المحاولة الإنقلابية الأخيرة في الأسابيع الماضية ،قد دق آخر مسمار في نعش محاولات إسقاط النظام عبر القوة ،سواء من خلال دعم التمرد المسلح ،أو إحداث إنشقاق داخل المؤسسات العسكرية. حل شامل وأورد تقرير "الأزمات الدولية" كذلك جملة توصيات الى الأطراف السودانية والدولية والإقليمية ،ومن ضمن التوصيات ، توصيات إلى مجلس الأمن (العمل من أجل إيجاد حل واحد وشامل لنزاعات السودان المتعددة ،ومنح البشيرونخبة المؤتمر الوطني حوافز لإنشاء حكم انتقالي غير قابل للارتداد) ،وهناك جملة من التضليل والمراوغة- كعادة التقارير الغربية في قضايا السودان - وفكرة "الحل الواحد" و"الشامل" قد وردت- مراراً- ضمن تقارير وبيانات ومواقف مجموعات الضغط المعادية للسودان ،مثل مجموعة كفاية (إيناف) ،والتي يتزعمها جون برندرغاست، و(إئتلاف العمل من أجل السودان)،حيث تم التركيز على هذه النقطة ،بصورة خاصة، في مداولات مؤتمر (معهد السلام الأمريكي) عن السودان ،والذي أنعقد في أواخر العام 2011 بواشنطون، حيث جرى الحديث عن حل شامل وواحد، وقصد به ،الربط بين مسارات مختلفة ،يخلط فيها بين قضايا دارفور ،والنيل الأزرق ،وجنوب كردفان ،ومناطق أخرى، بقضايا حقوقية وإنسانية ومطلبية ،على غرار ما بدر من وفد ما تسمى بالحركة الشعبية (قطاع الشمال) ،في جولة التفاوض حول المنطقتين جنوب كردفان والنيل الأزرق بأديس أبابا في أغسطس الماضي. أما الحديث عن حوافز لنخبة البشير والمؤتمر الوطني فهو مجرد طُعم ،فالمجتمع الدولي قّدم جملة إلتزامات عند توقيع اتفاقية السلام الشامل ،وحتى تاريخ إنقضاء الفترة الانتقالية،لكن لم يتم الوفاء بها ،فكيف للسودان أن يثق في هذه الوعودالجوفاء تحت أي ظرف. مصيدة إنتقالية وزعم "التقرير" أن الهدف من الحوافز المقدمة إلى الرئيس البشير ،وما أسمها بنخبة المؤتمر الوطني ،هو إنشاء حكم إنتقالي غير قابل للإرتداد ،وهذا الحديث يبدو خارج سياق تطورات الأحداث ،فمعروف أن "الفترات الإنتقالية" تأتي، فى غالب الأحوال، إما عقب الثورات الشعبية أو الإنقلابات العسكرية أو إصلاحات سياسية جذرية داخل بنية النظام القائم،ونتيجة لعلملية توافق بين مختلف الكيانات السياسية ،وفي كل "الحالات" لا تنطبق على حالة السودان، وبالتالي الهدف من وراء الدعوة إلى "فترة إنتقالية" ،هو إعادة الحركات المتمردة إلى الساحة مجدداً، بعد أن تلقت ضربات عسكرية وسياسية قاضية ،وتحولت هذه الحركات إلى مجرد أنشطة لصوصية ،وأطماع ونزوات شخصية لقادة هذه الفصائل،دون أى مشروع سياسى واضح،وفي نفس تقرير "الأزمات الدولية" وردت إشارة بهذا الخصوص ،عندما دعا التقرير ما تسمى بالجبهة الثورية (إلى اخضاع الطموحات الشخصية لأجل تطوير رؤية وبرامج سياسية تشكل إطاراً للفترة الانتقالية). وأيضاً الحديث عن فترة إنتقالية يهدف إلى توسيع القاعدة الشعبية للمعارضة، كما جاء في نص التقرير نفسه ،وبالتالي إحياء المعارضة التي تفرقت أيدي سبأ ،بسبب عدم قدرتها على الإتفاق على ولو حد أدنى من البرامج. ويبدو أن "التقرير" جاء في هذا التوقيت من أجل إعطاء الدول والمنظمات المهتمة بالسودان دليل ليوجه سياساتها تجاه السودان ،بعد فشل كافة محاولات إخضاع أو إسقاط النظام.