كانت الزياره التي قام بها الرئيس الى جوبا اليوم الثاني والعشرين من الشهر الجاري نقطه تحول في تقديري في مسار العلاقات بين السودان ودولة جنوب السودان، ولعلها تكون البداية لوضع العلاقه بين الدولتين في اطارها الصحيح في فضاء العلاقات الدوليه الفسيح. وربما نقول أنها تمثل الخطوه الاولى في طريق خلق جوار آمن مميّز، هذا الطريق الملئ بالأشواك والألغام (البشرية) و(الآلية). ولعلها المره الاولى التي تتجه فيها طائره الاخ الرئيس جنوباً من غير وجود أي نوع من القلق والتوتر والخوف من اختطاف الطائره أو الإعتداء عليها أو الإعتداء عليه. بل ربما لعلها المره الاولى التي يسافر اليها الرئيس للجنوب ويعود ولم يسمع الكثيرين بهذه الزياره. بل لعلها المره الاولى التى يسافر فيها الرئيس جنوبا وتكون السفريه وكأنها سفريه داخلية. هذا التحول الدراماتيكي في العلاقه بين الخرطوموجوبا يعود بصوره اساسيه للإنقلاب الذي قام الرئيس سلفاكير ضد ما يسمى بمجموعة اولاد قرنق والتي على رأسها باقان ومجموعه ابناء أبيي، وأبناء (دينكا نقوك). هذه المجموعة العقائدية والتى هي على خلاف آيدولوجي مع حكومة الانقاذ، وتتبنى مشروع السودان الجديد الذي يمثل إنفصال الجنوب الخطوه الاولى في تحقيقه. لذلك ما كان يمكن أن يحدث أي تحسن العلاقه بين البلدين لولا حدوث الإنقلاب الأخير الذي أطاح بتلك المجموعه. لم يعرف عن سلفاكير أي إنتماء عقائدي أو فكري، بل كان يؤمن بقضيه الجنوب والمظالم التي لحقت بشعبه، وكان ولا يزال ذو ميول إنفصالية واضحة، ولعل ذلك يمثل أحد أسباب الخلاف بينه وبين قرنق طيلة التوترات التي حدثت بينهما، ولعل أشهرها ذلك الخلاف الذي كاد فيه سلفاكير الإطاحه بقرنق، حيث إنحاذ له معظم القيادات الميدانية العسكرية. وقد إنحنى قرنق للعاصفة، ولكنه لم ينس ذلك، إلا أن رحيله المفاجئ عصم سلفاكير من إنتقام قرنق!!. وإنتقل الخلاف بين قرنق وسلفاكير إلى أبناء قرنق بكل تفاصيله العقادئية والفكرية. ولم يكن الإنفصال أحد خيارات أبناء قرنق، ولكن عندما قاد سلفاكير بمساعدة بعض القوى الغربية الإستفتاء إلى الإنفصال إعتبر أبناء قرنق هذا الإنفصال الخطوة الأولى في مشروع السودان الجديد. وأستشرى العداء وتعمق بين سلفاكير وأبناء قرنق. وعندما علم سلفاكير ابناء قرنق يعدّون للإطاحة به (تغدى) بهم قبل أن (يتعشوا) به. وعندما حسم سلفاكير الأمر لصالحه، ما كان سيستقر له الأمر إلا اذا كسب رضا شعبه. وأدرك سلفاكير أن ذلك لن يتحقق إلا بالتعاون الكامل مع الشمال. فعلى الشمال يعتمد الجنوب في كل شئ من (البصلة) حتى (الخرسانة والرملة) للبناء. وأدرك سلفاكير أن الغرب عاجز عن (إغاثة) نفسه ناهيك عن (إغاثة) الجنوب. تصدير نفط الجنوب وفتح الحدود بين البلدين للإنتقال السلس للسلع مع جوار آمن هي (الروشتة) الوحيدة التي تعصم الجنوب من الإنهيار وتثبيت أقدام سلفاكير في السلطة. فإذا كانت الزيارة الأخيرة للأخ الرئيس وبدعوة من الرئيس سلفاكير هي بداية لتحقيق ذلك، فإن هنالك كثير من العقبات و(الكوابح) التي تقف عقبة (كئود) ولكن عليه تجاوز ذلك بالإرادة السياسية و(التفاهم) بين الرئيسين و(التفهم) لما سوف يحدث، ومن هذه العقبات: أول هذه العقبات هي مجموعة أبناء قرنق، هذه المجموعة بالتأكيد سوف لن تسكت ولن تقبل بالذي تم والازاحة التي تمت لهم، وعلى الرغم من الإنحناءة الآن، إلا أنها بالتأكيد تخطط للعودة مرةً أخرى وقلب الطاولة في وجه سلفاكير. وقد زاد التقارب بين سلفاكير وحكومة البشير حدة العداء وأضاف سبباً آخراً للعمل على الإطاحة بسلفاكير عاجلاً. وإذا ربطنا هذا بسمة العداء في داخل الحركة الشعبية، فإن هذا الوضع لن يستمر طويلاً. فلم يعرف في تاريخ الحركة الشعبية أي صورة من صور المعارضة، فكل خلاف فيها ينتهي بتصفة أحد الأطراف جسدياً، وبالتالي سوف يعمل أبناء قرنق على إغتيال سلفاكير، وما أسهل ذلك في دولة ما زالت تعيش بروح حرب العصابات، وفي نفس الوقت سوف يعمل سلفاكير على تصفية المجموعة جسدياً. العقبة الثانية: هي مجموعة أبناء أبيي، هذه المجموعة، عداءها مركب تجاه سلفاكير، فهي من جانب مجموعة عقائدية تتبنى مشروع السودان الجديد، ومن جانب آخر فهي تعتقد أن سلفاكير يريد أن يقدم أبيي عربوناً لدعم الشمال له، في صراعه على السلطة. سلفاكير الآن يحتاج لدعم الشمال وخاصة بإنفاذ (الروشتة) الإقتصادية الأمنية التي ذكرناها، وبالتالي هو حريص كل الحرص أن لا تكون أبيي سبباً لعودة التوترات مع الشمال مرةً أخرى. وسلفاكير في تقديري جاد في ذلك لأبعد مدى، ولذك كانت دعوته للأخ الرئيس في هذا التوقيت بالتحديد (22 أكتوبر) وذلك لأنه كان من المفترض أن يجري إستفتاء أبيي من جانب واحد يوم 26 أكتوبر الجاري. لذلك كانت الاشارة لأبيي في البيان المشترك فى ختام زيارة الرئيس لجوبا في آخر فقرة في البيان حيث حث البيان على (الإسراع بإنشاء إدارة ابيي والمجلس التشريعي وأجهزة الشرطة والتأكيد علي ان نسبة 2% المخصصة لمنقطة ابيي من عائدات النفط المنتج بالمنطقة سيتم تسديدها لادارة أبيي بما في ذلك المتأخرات) مما يعني ضمنياً تأجيل قيام الاستفتاء من طرف واحد في موعده، أو على الأقل فإن حكومة الجنوب لن تكون أحد مكونات هذا الطرف الواحد. وبالتالي اذا أصر أبناء أبيي على قيام الاستفتاء في موعده بعيداً عن دولة الجنوب وعن الغطاء الأفريقي والدولي، إن الإستفتاء سيكون عديم القيمة، فهو سيكشف فقط عن رغبة أبناء دينكا نقوك للإنضمام للجنوب، وهذا معلوم، كما أن المسيرية سيستطيعون تنظيم إستفتاء مماثل يؤكد رغبة أبناء المسيرية للبقاء في السودان. تبقى خيارات أبناء دنيكا نقوك محدودة جداً، فلن تقاتل معهم دولة الجنوب اذا أرادوا إشعال حرب مع الشمال، وليس أمامهم سوى قيام حركة تمرد بإعتبارهم مواطنين سودانيين ويكون هدفهم الإنفصال، وفي هذه الحالة سوف لن يجدوا الدعم والملاذ من دولة الجنوب، ولا الدعم من المجتمع الدولي. ويبقى خيارهم الوحيد العمل على إفساد العلاقة بين سلفاكير وحكومة السودان بشتى السبل والوسائل، وخاصة أن منهم من كان مسئولاً عن العمل الإستخباري في الجيش الشعبي!. تبقى الحركات المسلحة في البلدين أحد الألغام والقنابل الموقوتة التي تهدد هذا التقارب. في تقديري ان الرئيسان قد أدركا أن الدعم المعاكس للحركات المتمردة في البلدين هو أساس المشاكل بين البلدين، ولذلك سوف يعمل الجانبان على دعم الحل السياسي مع التوقف التام عن دعم هذه الحركات، مما يعني الموت البطئ لهذه الحركات. وهذا ما سوف يعمل عليه الجانبان. الحركات المتمردة في الدولتين تدرك خطورة هذا التقارب وتدرك كذلك أنها تكون هي بعض الثمن المدفوع من الطرفين. لذلك سوف تعمل بكافة السبل لإفشال هذا التقارب، خاصة أن مساحة الشريط الحدودى العازل تزيد عن 36 الف كيلومتر مربع، مما يتيح الحركة لهذه الحركات مهما بذلت الحكومات والقوات الدولية المراقبة. ويبقى العامل الخارجي من أهم العوامل تأثيراً على العلاقة بين الدولتين. ولعل العامل الخارجي هو الحاضر دائماً في مشاكل السودان عامة ومشاكل الجنوب مع الشمال خاصة عبر تاريخ السودان الحديث. علاقة السودان مع الجنوب هي الموجّه لعلاقة السودان مع الغرب بصورة خاصة. الغرب ما زال منقسماً بين داعم سلفاكير وداعم لمجموعة أبناء قرنق. وإن كان الظاهر من السلوك الغربي أنه داعم لسلفاكير. دعم الغرب لا يعتمد على (عيون الاشخاص) إنما يعتمد على من يحقق مصالحة. كان الغرب يعتقد أن سلفاكير قد أدى دوره ولذلك لابد من أن يذهب، ولكن وجد الغرب أن سلفاكير أقوى مما كانوا يتصورون، لذلك لم تكن هنالك مشكلة في التحول ودعم سلفاكير مرةً أخرى. مشكلتنا مع الغرب وأمريكا وبريطانيا وإسرائيل بصورة خاصة أنها ليست جسماً واحداً، فاذا كان الغالب داعماً الآن لسلفاكير، فان هنالك من مازال يدعم أولاد قرنق. وفي الغرب من هم ضد التقارب بين الشمال والجنوب مطلقاً. ولا يتورع هذا الجزء من سلوك كافة السبل (القذرة) والمشروعة للوقيعة بين الدولتين. وقد ثبت في أبريل من هذا العام كيف كانت تعمل بريطانيا وأمريكا على إشعال الحرب بين الدولتين، وذلك بتسريب معلومات لسلفاكير بأن هنالك إنقلاب يدبر ضده بدعم من الخرطوم. وفي نفس الوقت سربت معلومات للخرطوم بأن هنالك حشود من الجيش الشعبي تعد العدة للإعتداء على الشمال. وكانت الحكمة من الجانبين هي التي أبطلت مفعول هذا التدبير والتآمر. وأخيراً تبقى إدارة العلاقة بين الدولتين بين الرئيسين من أكثر حلقات الضعف في العلاقة بين الدولتين. ولعلنا لا نذهب بعيداً إذا قسنا ذلك على نموذج إتفاقية السلام الشامل، حيث كانت بين الدكتور قرنق والأستاذ علي عثمان، فعندما غاب أحد طرفي الإتفاقية إنهارت الإتفاقية ولم يبق منها إلا سوءاتها. وتبقى النقطة السالبة في الإتفاقية هي قيادة الرئيسين لهذا التقارب خاصة في هذا التوقيت، حيث يعتقد كثير من المراقبين أن هنالك حلف قد نشأ (بين البشير وسلفاكير) بعد إنقلاب سلفاكير وبعد المظاهرات الأخيرة في الخرطوم، حيث أن كل منهما يحاول أن يستعين بالآخر لتثبيت نظامه ويتقوى كل بالآخر على المعارضة في بلديهما. وعلى الرغم من أن الزيارة لم تحقق من النتائج الملموسة في المسائل المختلف فيها بين البلدين إلا أنها تعبر عن الرغبة الصادقة وحسن النية والعزم على حلحلة كافة الإشكالات بين البلدين عن طريق الحوار مع إستبعاد الحرب تماماً. ولكن هذه الرغبة والحرص على تطبيع العلاقات بين البلدين تواجه بكثير من العراقيل والعقبات التي ذكرناها. والمطلوب الآتي: الحرص والحذر في التعامل مع المعلومات والتسريبات التي تصل إلى أياً من الطرفين والتي يكون الهدف منها زعزعة العلاقة بين الطرفين وربما إختلاق أحداث، إذا لم يتم الإنتباه لها سوف تكون كفيلة بجر البلدين للحرب والمواجهة مرةً أخرى. أن يتوقع الطرفان ويتفهما الإختراقات التي تتم من الحركات المتمردة في البلدين، فسوف تحاول هذه الحركات القيام بهجمات في داخل الدولتين، وما أسهل ذلك لإتساع الحدود والمساحة بين الدولتين، وتكون تلك الحركات قاصدة زعزعة الثقة بين البلدين، بل ربما تقوم ببعض الأفعال التي تؤكد ظاهرياً تورط الطرف الآخر في الدعم. ستكون مشكلة أبيي هي القنبلة الأكثر خطورة في نسف هذا التقارب، وسيعمل أبناء أبيي في الحركة على إذكاء العداء بين الدولتين، وربما القيام بأحداث، إذا لم يتم الإنتباه إليها ستجر البلدين للحرب مرةً أخرى على شاكلة إغتيال سلطان الدينكا. فكما تم تجاوز إستفتاء أبيي من طرف واحد بهذه الزيارة، فالحكمة لن تعوذ الرئيس في إيجاد حلول مبتكرة وخلاقة لتجاوز هذه الأزمة.