محجوب محمد صالح: الافتقار للمهنية والاستقلال الاقتصادي يمثلان عائقاً إضافياً لحرية التعبير سيول: رابطة الصحف العالمية: ترجمة: سيف الدين عبد الحميد منحت رابطة الصحف العالمية يوم امس الاثنين جائزة القلم الذهبي للصحفي السوداني محجوب محمد صالح الذي ظل يقاتل من أجل حرية الصحافة لأكثر من نصف قرن من الزمان. ويجدر بالذكر ان صالح «76 عاماً» الذي يعتبر شريكاً مؤسساً ورئيس تحرير لصحيفة الأيام وهي من أقدم الصحف المستقلة بدأ عمله الصحفي عام 1949م عندما كان السودان مستعمرةً إنجليزية - مصرية. وقد منحت الجائزة أثناء انطلاقة احتفالات مؤتمر الصحافة العالمية والمنبر العالمي للصحفيين واجتماعات الصحافة العالمية التي حضرها الرئيس الكوري رومو - هيون وممثلو المجتمع الدبلوماسي وأكثر من 1300 ناشر وصحفي من 82 دولة. وقال جورج بروك رئيس المنبر العالمي للصحفيين:« معلوم ان جائزة القلم الذهبي ظلت تقليداً سنوياً متبعاً منذ 1961م تستهدف العمل المتميز الذي يؤديه الفرد أو المجموعة أو المؤسسة في سبيل حرية الصحافة. ولكن الجائزة هذه المرة هي أكثر من تقليد سنوي، آخذين في الاعتبار الأداء البارز والعتيق للمحتفى به في العام 2005م. بمعنى آخر، فإن جائزة القلم الذهبي الممنوحة لمحجوب محمد صالح تعتبر جائزة انجاز عمر صحفي كامل». الأستاذ : محجوب محمد صالح لقد أسس محجوب محمد صالح صحيفة الأيام عام 1953م، ومن بعد أغلقتها الحكومة العسكرية مرتين في الستينات، ثم كان تأميمها عام 1970م ولم تعد لأصحابها إلا في عام 1986م، كما أغلقت الصحيفة مرة ثانية عام 1989م لمدة عشر سنوات. ومنذ إعادة افتتاحها عام 2000 باتت الصحيفة وموظفوها عرضة للاعتقال والغرامة والمصادرة والإغلاق، وكان آخر إغلاق لها في نوفمبر2003م حيث استمر ثلاثة أشهر. هذا وتعرض محجوب صالح للسجن عدة مرات جراء أنشطته الصحفية. إن مساهمات محجوب للصحافة السودانية المستقلة بادية للعيان بحكم الظروف التي يعمل في ظلها، فالبيئة الإعلامية السودانية تعد واحدة من أكثر البيئات الإعلامية المكبلة بالقيود في القارة الأفريقية. إن منظمة «وان» التي تتخذ من باريس مقراً لها تعتبر منظمة دولية لصناعة الصحف وتعزز من حرية الصحافة وتدافع عنها على نطاق العالم، وهي تمثل 000.180 صحيفة وتشمل عضويتها 72 رابطة صحيفة قومية، تنفيذين صحفيين أفراد في 102 بلداً، 11 وكالة أنباء وتسع مجموعات صحفية إقليمية وعالمية. ويجدر بالذكر ان منظمة «وان» ظلت تمنح جائزة قلم الحرية الذهبي سنوياً منذ 1961م، حيث شمل الفائزون السابقون الصحفي الأرجنتيني جاكوبو تيمرمان «1980م» والصحفي الروسي سيرجي جريجوريانتز «1989» والصحفي الصيني جاو يو «1995م» والصحفي الفيتنامي دوان فيت هوت «1998م»، أما العام الماضي 2004م فقد فاز بها الصحفي الأوزبكستاني رسلان شاريبوف. وقد ألقى الأستاذ محجوب محمد صالح كلمة بهذه المناسبة جاء فيها... إنه لشرف وامتياز لي ان أُمنح جائزتكم السنوية جائزة قلم الحرية الذهبي. ومما يسر أنها تأتي من مؤسسات مهنية دولية عظيمة الشأن كالرابطة العالمية للصحف والمنبر العالمي للصحفيين اللذين يكرسان جهدهما كل التكريس لحماية حرية التعبير. ففي كل حين وآن تبرهن هذه المؤسسات على نجاحها في ممارسة ضغط دولي كاف لكبح جماح السلطات القمعية التي تعمل على إنكار حقوق الانسان الأساسية. فاسمحوا لي ان أكرر شكري لكم على منحي الجائزة. نحن في السودان - مثلنا مثل كل الصحفيين في العالم الذين يعملون تحت ظروف غير ديمقراطية- ظللنا نتعرض لكل صور الابتزاز، فإقرار الاستقلالية والاستقامة والمصداقية الإعلامية في وجه القوانين القمعية ظل دائماً معركة حامية الوطيس. فلقد شهدت خلال عملي لأكثر من نصف قرن في هذه المهنة كل أشكال القيود والابتزاز التي شملت الرقابة على الصحف، المصادرة، الحظر، الإغلاق، التأميم، الارعاب والاعتقال. ولم يجعلنا نمضي في إنطلاقتنا سوى الالتزام بالمهنة وتكريس الولاء لأفكارها. ولنا زملاء مهنة آخرون في اماكن اخرى من العالم عانوا أكثر منا، حيث ضحوا بحيواتهم وواجهوا مصيرهم بشجاعة وعزم . وخلال العقد الماضي وحده اغتيل خمسمائة صحفي وهم يؤدون واجبهم، وفي معظم هذه الحالات تمتع قتلتهم بالحصانة ولم يقدموا للعدالة. وإنا سنقطع عهداً لأولئك الشهداء صرعى الواجب بأننا سنعمل كل ما في وسعنا لكيما نوصل معركة حرية التعبير إلى نهايتها الظافرة، وسنشكل حماية كاملة لكل أعضاء هذه المهنة. ونحن مسرورون لأن تضحياتهم لم تكن عبثاً طالما ان الانتقال إلى رحاب الديمقراطية ظل في تصاعد في كل مكان في العالم، فقد آن الآوان ان نعمل بمثابرة والتزام لتحقيق النصر النهائي. ربما تعلمون ان السودان وقَّع أخيراً اتفاقية سلام انهت أطول حرب أهلية في أفريقيا، حيث قضت تلك الحرب خلال عقدين من الزمان على أكثر من مليوني نسمة وتسببت في نزوح أربعة مليون شخص. واننا نقوم حالياً بالتفاوض بشأن اتفاقية سلام اخرى على امل ان تحسم صراعاً مسلحاً مأساوياً في دارفور بغرب السودان. وعلاوة على ذلك شرعنا في إجراء عملية تحول ديمقراطي دستوري، فكلا الإعلام المحلي والدولي يجب ان يفخر بهذا الانجاز، إذ لولا جهوده المنسقة لكشف حقائق هذا الصراع المأساوي ونشرها على الملأ لما تحقق السلام. ان جهود الصحفيين الراكزة والشجاعة على نطاق العالم فضحت وعكست أعمال الحرب الوحشية وعبّأت الرأي العام العالمي للضغط في اتجاه السلام. وهذا يؤكد على أهمية الصحافة المستقلة والملتزمة، فيقيني ان الصحافة لو كانت حرة في تعرية هذه الأعمال الوحشية منذ بداية الصراع، لتحقق السلام منذ أعوام خلت ولتجنبنا كثيرا من المآسي. ولكن لسوء الحظ لم يكن ذلك أمراً سهلاً آنذاك بسبب القوانين القمعية التي فرضت ستاراً من الصمت حجب المعلومة الخبرية الحقيقية وجعل العالم جاهلاً بالحدث حتى اخترقت الجهود المهنية الراكزة والشجاعة ذاك الستار وكشفت المأساة. ونحن نتعلم قاعدتين من هذا الدرس: الأولى هي وجوب المطالبة بحرية معلومات كاملة واكتسابها بهدف خلق عالم شفاف حق الشفافية. الثانية وجوب العمل بصورة جماعية لتحقيق وحماية حرية التعبير حتى تكون المعلومات متاحة للجميع. يجب ألا نُحبط إذا لم لم نحقق نجاحاً كاملاً من خلال جهودنا المتعاضدة، فالأثر التراكمي لهذه الجهود سيحقق النتائج عاجلاً أو آجلاً. وعلينا ان نطمح لإعادة إصلاح البني التحتية القانونية للإعلام في كل مكان في العالم إذا أردنا ان نحقق ديمقراطية مستدامة. ولكن دعوني انتهز هذه الفرصة لأذكّركم بأنه ليست القوانين وحدها هي التي تقيد حرية التعبير، إذ ان الافتقار للمهنية والافتقار للاستقلال الاقتصادي يمثلان عائقاً لحرية التعبير. فالصحف الجيدة ينتجها صحفيون مهنيون داخل بيئة مؤسسية صحية، وهذا يعني أنه لابد لكم من صحفيين ومديرين مدربين تدريباً عالياً ليعتنوا بالتوزيع والإعلان والابتكار التقني، فنحن في البلدان النامية لدينا مشاكل في تلك المجالات جميعها، ونحتاج لبناء قدرات ولتجربة اكثر البلدان تطوراً. إن كلا المنظمة العالمية للصحف ومنبر الصحفيين العالمي كانا رائدين في هذا المجال، ونحن نتطلع لمشاهدة نشاط أكثر وتعاون متبادل أفضل على هذه الجبهة طالما أنها تمثل حجر الزاوية في بناء إعلام متطور وقوي مستقل. ومرة ثانية فإن الصحف الجيدة تكلف مالاً كما تكلف مهارات إدارة حسنة، ولسوء الحظ فإن المال شحيح في البلدان النامية، ولا نريد ان نقول بهذا ان المال لا يمكن ان يضخ محلياً بواسطة صحيفة مدارة إدارة حسنة، لكن نعني ببساطة ان الدعم المالي الأولي في حالات معينة يعتبر أساسياً عندما يكون في شكل قروض مستردة طويلة الأجل. ويجب ان يكون قرضاً ميسراً ومعفياً من الفائدة ويعطي على اساس دراسة جدوي وهذا يساعد الصحف المستقلة على مقاومة المحاولات التي تعمل على استغلال ارتباكها المالي فتضعها في محك التسوية المذلة لاستقلاليتها. ومن المشجع ان نرى المشاركة بين «وان» وصندوق قرض تطوير الإعلام لمعالجة هذه المشكلة. وآمل ان تثبت انها شراكة ناجحة من شأنها ان تعالج هذه المشكلة الضاغطة التي طالما أغفلت. ان الصحف المستقلة في انتقالها إلى الديمقراطية تحتاج احتياجاً ماساً لدعم كثير لمجابهة التحديات الحقيقية طيَّ عملية الانتقال. أنا مسرور ان تكون هذه القضايا جزءاً من اجندة مؤتمركم الحالي وأتطلع لرؤية خارطة طريق تبرز من مناقشاتكم لتعمل على فتح نافذة أمل لإعلام مستقل في البلدان النامية، وان تكون صفقة شاملة لا تهدف إلى حماية حقوق الصحف وصون حرياتها فقط بل تعمل ايضاً بطريقة ايجابية لتساعد وسائل الإعلام على بناء قدراته المهنية وصون قوته الاقتصادية واستقلاله الاقتصادي. دعوني اختتم بابداء ملاحظة اخيرة حول وسائل الإعلام في البلدان التي خرجت من الصراع، لان هذه مشكلة تواجه بلادي في هذه المرحلة الانتقالية. انها مشكلة قضية دور الإعلام في عهد ما بعد الصراع، اذ يجب ان يكرّس الاعلام لبناء السلام، ولكن التجربة اوضحت ان الإعلام في أوضاع مابعد الصراع يمكن ان يكون سيفاً ذا حدَّين: فإذا أطنب الإعلام حول القضايا الشقاقية وأضرم لهب النعرات والاهواء وأسهب في تأجيج الحديث حول الثأر فسيضعف السلام. ان الفصائل المتنافسة والمجموعات المتشددة التي تؤيد هذا الطرف في الصراع أو ذاك الطرف ستشكل تهديداً واضحاً لسلام هش تم التوصل إليه بجهد جهيد. إذن لا شئ يعبر بنا خلال هذه المرحلة الحساسة سوى المهنية العميقة والحياد والاستقلالية الدقيقة. وفي هذا الخصوص، فاننا نحتاج لدعم الهيئات المهنية الاعلامية العالمية جميعها وذلك حتى لا تُؤوّل الحرية المهنية المسؤولة وكأنها رخصة مفتوحة لتعرض السلام والديمقراطية اللذين نحاول بناءهما للخطر. وبهذا اختم هذه الملاحظات مكرراً شكري وتقديري لمنحي هذه الجائزة. وشكراً لكم جميعاً.