إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    مليشيا التمرد تواجه نقصاً حاداً في الوقود في مواقعها حول مدينة الفاشر    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المؤثرات العسكرية في السياسة السودانية
نشر في شبكة الشروق يوم 25 - 04 - 2011

تتكون هذه الورقة من مقدمة وثلاثة مباحث تنظر في دور القوات المسلحة في العملية السياسية والإصلاح السياسي في السودان الحديث.
تستعرض المقدمة الدور العسكري في تكوين الدولة في السودان الشرقي والفتوحات وتوسع النفوذ السياسي عن طريق قوات نظامية وقوات صفوة محترفة وفرق مماليك إلى جانب استنفار خيّالة وأبالة ومشاة القبائل في حالة الحرب.
أما المهدية فقد جيشت الشعب السوداني بتطوير الروح الإسلامية الجهادية وإحكام القبضة الإدارية المركزية.
وتميز الحكم الاستعماري التركي والحكم الثنائي بالأوتوقراطية والمركزية الإدارية وأورثها بكامل مؤسساتها للحكام الوطنيين بعد الاستقلال.
محاور الدراسة
1- المقدمة
2- مداخل النفوذ السياسي على القوات المسلحة
3- نظام المؤسسات البيروقراطية والمنظمات
4- الإصلاحات الدستورية لأنظمة المؤسسات البيروقراطية
5- الخلاصة
المقدمة
عرف السودان سلطان الشوكة العسكرية والمقدس السياسي منذ القدم.
اعتمدت الممالك السودانية القديمة على القوة والحق الإلهي في بناء الدولة وتعزيز سلطاتها السياسية. كانت للنوبة جيوش محترفة من الصفوة من حملة الأقواس وشرطة وفرق من المماليك مشهود لها بالقدرات العسكرية في مصر وعلى مستوى الإقليم.
كانت الجيوش النوبية والذهب تمثل مفتاح السلطة في مصر العليا، مما أغرى كاشتا ملك النوبة بالتدخل في مصر، الأمر الذي كرس الصراع النوبي الليبي للسيطرة على مصر حتى استطاع بيا بن كاشتا أن يقهر الليبيين ويفرض سلطته على مصر ويقيم حاميات نوبية في جنوب مصر لتأمين حكمه. كان والده كاشتا قد أقنع كبير كهنة آمون في طيبة بتبنى ابنته ولية للعهد مما أكسبه الشرعية كحاكم لطيبة.
عندما هدد أحد الليبيين طيبة دافع عنها بيا ابن كاشتا وفرض سلطانه على كل مصر وتسمى بملك البلدين: مصر العليا ومصر السفلى ومحبوب الإله آمون 1.
كان النفوذ السياسي للوجود العسكري في مصر أقوى ما يكون في العهود الإسلامية، حتى أن كافور النوبي تولى مسؤولية حرس حاكم مصر محمد بن طغج الأخشيدي بل تولى الحكم بعد موت سيده إلى أن أجلاه المماليك 2.
بعد ذلك زاحم الأتراك والبربر وغيرهم النوبة في مصر.
شهدت فترة الفوضى في القرنين الثالث عشر والرابع عشر من القرون الوسطى تكوين المشيخات العربية وتحالفاتها الإسلامية3 .
أسس الجعليون مشيخات وسلطنات إسلامية وممالك في تقلي في جبال النوبة وفي خرسي وبارا وجبل البديرية في كردفان وساحل بحر أبيض وفي جبل العرشكول والترعة الخضراء.
وكانت للجموعية والجيمعاب والسروراب والفتيحاب والنوفلاب ممالك إلى نهر عطبرة والبادية الغربية حتى أصبح مركز حكمهم في المكنية والمتمة وشندي 4.
كما اختط الزبير رحمه أهم ممالك الجعليين في غرب بحر الغزال ودارفور وسيطر رابح فضل الله مولى الزبير على منطقة أفريقيا الوسطى وممالك البرنو وشاد وجاهد ومعه أحفاد عثمان دانفوديو باسم المهدية حتى انتصر عليه الفرنسيون 5.
لم يبن الجعليون شرعيتهم على أساس ديني أو حق وراثي مع ادعائهم الشرف وانتسابهم إلى الأسرة العباسية؛ بل اعتمدوا على شوكتهم وما استولوا عليه بالقوة. وتسموا بالسلاطين والأرابيب والمكوك والملوك.
من الممالك العربية الراسخة في أواسط السودان الشرقي وحوض وادي النيل مملكة العبدلاب وقد تأسست كتحالف للقبائل والمشيخات العربية بقيادة عبدالله جماع شيخ عموم القبائل العربية وممثلهم في وزارة العنج. تمكن تحالف القبائل العربية من هزيمة العنج وسيطر على وادي النيل وشرق السودان وطرق القوافل والحجيج واحتل كردفان بعد الفور.
إلا أن سيطرة الحلف العربي لم تعمر طويلاً، إذ هزمهم الشلك والفونج ربما نتيجة للصراع حول مراعي الجزيرة واضطر العرب بقيادة عبدالله جماع إلى أن يتحالفوا مع الفونج ليمدوهم بالسلاح والجنود 6.
فرض الفونج سلطانهم على مناطق شاسعة في السودان الشرقي عن طريق جيوش محترفة من حملة الأقواس والفرسان المدججين بالأسلحة الثقيلة من دروع الحديد والدرق البيضاوي وخوذات النحاس والرماح والسيوف التي لم تتوفر إلا عند الفونج والعبدلاب والفور نسبة لتكلفتها العالية 7.
لا غرو أن امتد نفوذ الفونج إلى مناطق شاسعة وتحكموا في المشيخات القبلية وعربان البدو الرحل وطرق القوافل التجارية.
كما طوروا جيوشاً خاصة من المماليك نتيجة لحملات جلب الرقيق إلى جانب اعتمادهم على الجيوش النظامية واستنفار خيالة وأبالة ومشاة القبائل في أوقات الحرب8.
نصب كل من الفونج والفور حكاماً عسكريين على مناطق نفوذهم في كردفان. نصب الضابط محمد أبولكيلك حاكماً عاماً على مناطق نفوذهم في كردفان وكانت له فرقة محترفة مع الفديات، كما نصب الفور المقدم مسلم ممثلاً لهم في بارا، والشيخ محمد كراّ وإبراهيم ولد رماد في الأبيض، وكانت لهم فرق من الجنود المدججين بالسلاح 9.
أثارت جيوش المماليك غضب الارستقراطية من أهل الأصول وحلفائهم من القبائل العربية الذين توجسوا خيفة من تغيير موازين القوى والعوائد المتفق عليها ودافعوا عن الموروث والتقاليد لما كانت تضفيه عليهم من شرعية 10.
كان نجاح الفونج والفور والمشيخات العربية المختلفة يعزى إلى محافظتهم على التقاليد القبلية مقارنة بالمسبعات الذين فشلوا في تأسي دولتهم نتيجة لفقدانهم السند القبلي على الرغم من قدراتهم العسكرية والإستراتيجية 11.
لقد حافظ السلطان محمد تيراب على دور القبائل ومجموعات أولاد البحر وتجار القوافل لأهميتهم في ازدهار دولته.
أما الثورة المهدية فقد وسعت دائرة تأييدها من النطاق القبلي والطائفي بعد الاستفادة منه في بداية الثورة على المستوى القومي والإقليمي باسم الدين والروح الإسلامية الجهادية. كما طورت نظاماً إدارياً شديد المركزية قام على الهجرة إلى العاصمة أم درمان التي استوعبت أكثر من 150.000 نسمة كانوا على أهبة الاستعداد للجهاد 12.
أما الأنظمة الاستعمارية في فترة الحكم التركي والحكم الثنائي فقد اعتمدت على الحكم العسكري المباشر بحق الفتح والإدارة المركزية بعد أن قضت على لامركزية المشيخات المباشرة، خاصة في الجنوب والمناطق المقفولة، مع الاستفادة من الإدارة الأهلية في إطار حكمهم المركزي 13.
الآن ننتقل من هذه الخلفية التاريخية إلى الدور العسكري في السياسة السودانية الحديثة ونركز على مداخل النفوذ السياسي على القوات المسلحة وطبيعة أنظمة المؤسسات البيروقراطية التي تقيمها الانقلابات العسكرية، ونسلط الضوء أخيراً على محاولات الأنظمة العسكرية تطوير أنظمة دستورية تتفاعل مع البيئة السودانية بشكل سلس بعد فشل تجارب الديمقراطية البرلمانية المستوردة من أنظمة الدول الاستعمارية.
مداخل النفوذ السياسي على القوات المسلحة
هنالك خلفية تاريخية في السودان لتدخل القوات المسلحة في العملية السياسية والتطورات الدستورية في البلاد. كانت التنظيمات العقائدية السودانية تركز على مداخل التأثير السياسي على القوات المسلحة من خلال الاستقطاب العقائدي لطلاب المدارس الثانوية المتقدمين لدخول الكلية الحربية.
"
التنظيمات العقائدية السودانية كانت تركز على مداخل التأثير السياسي على القوات المسلحة من خلال الاستقطاب العقائدي لطلاب المدارس الثانوية المتقدمين لدخول الكلية الحربية
"
كما كان السياسيون وقادة الأحزاب وكبار الموظفين المسيطرين على الأوضاع السياسية والاقتصادية يستوعبون أبناء الأسر الموالية للنظام القائم في الكلية الحربية إلى أن أصبح الاستقطاب السياسي المباشر للقوات المسلحة مباحاً بعد المصالحة الوطنية والانتفاضة 14.
لقد كسرت الانتفاضة احتكار نظام الحزب الواحد لتأييد البيروقراطية العسكرية.
تمثل الانتفاضة أوقى مراحل استقطاب الحركة الإسلامية للعسكريين من خلال انحيازها للقوات المسلحة والدفاع عنها في لحظة خذلانها وتثبيطها بواسطة الأحزاب التي تهافتت على تمجيد المتمردين 15.
يمثل انقلاب عام 1989م للجبهة القومية الإسلامية هيمنة العسكريين الإسلاميين والكوادر الإسلامية على القوات المسلحة مقارنة بالانقلابات العسكرية السابقة التي هيمن عليها كبار الجنرالات الوطنيين كانقلاب الفريق إبراهيم عبود في عام 1958م والضباط الأحرار واليساريين في انقلاب جعفر نميري عام 1969م فقد سيطر الإسلاميون بدورهم على انقلاب 1989م بقيادة عمر البشير.
تمثل هذه الانقلابات نقلة من أنظمة القاعدة الاجتماعية القبلية والطائفية إلى نظام المؤسسات البيروقراطية والعلاقات الاجتماعية للقوى الحديثة التي تهدف إلى التغيير السياسي والاجتماعي بحجة فشل الأحزاب.
نظام المؤسسات البيروقراطية
يكون النظام السياسي نظاماً لبيروقراطية المؤسسات عندما يفرض نفسه على الساحة السياسية عن طريق الانقلاب العسكري ويقيم علاقات اجتماعية وقيماً وأهدافاً جديدة للتغيير السياسي والاجتماعي.
لا يكتب لهذا النوع من الأنظمة الاستقرار والشرعية إلا عندما يسيطر على المجموعات والتنظيمات الأخرى الموجودة مسبقاً في الساحة السياسية، وإذا ما كان رادكالياً كنظام مايو والإنقاذ لا تكفي سيطرته على الأحزاب والتنظيمات السياسية الأخرى بل يتحتم عليه أن يقوم بقمعها وتكوين تنظيماته وروابطه البديلة لحماية وجوده والدعوة لأفكاره وأهدافه 16.
"
انقلاب الفريق إبراهيم عبود لم يكن راديكالياً، بل كان انقلاباً محافظاً تم بإيعاز من قوى سياسية حزبية بادرت بتسليمه السلطة منها رغبة في تدخل المؤسسة العسكرية لضبط شؤون الحكم
"
لم يكن انقلاب الفريق إبراهيم عبود راديكالياً، بل كان انقلاباً محافظاً تم بإيعاز قوى سياسية حزبية بادرت بتسليمه السلطة منها رغبة في تدخل المؤسسة العسكرية لضبط شؤون الحكم إلا أنه مع ذلك لم يسير الانقلاب في مخططات الأحزاب بل تصرف كنظام المؤسسات البيروقراطية واعتمد على بيروقراطية الجيش والخدمة المدنية وتمت القطيعة بينه وبين الأحزاب السياسية 17.
تمثل الانقلابات العسكرية الراديكالية كانقلاب مايو وانقلاب الإنقاذ نموذجاً لنظام المؤسسات السياسي الذي يقوم بقمع الأحزاب والروابط السياسية القديمة ويقيم علاقات اجتماعية جديدة مبنية على بيروقراطية القوات النظامية والخدمة المدنية والتنظيمات النقابية واتحادات المزارعين والعاملين وأصحاب العمل إلى جانب تنظيمات جماهيرية فرعية للطلاب والشباب والمرأة لحماية الثورة والدعوة لأفكارها وأيدلوجيتها، ولهذا النوع من الأنظمة رسالة تربوية ومصالح فئوية على أساس علاقته الأيدلوجية تتسبب إلى جانب عزل النظام للمجموعات الأخرى في التوتر الذي يقود إلى استعمال القوة ضد المعارضة.
في المقابل يسعى هذا النوع من الأنظمة لاستقطاب الأقليات ويشجعها للمشاركة ليستقوي بها إلا أنه في مرحلة تحول تالية يتم انفتاحه على القوى السياسية الأخرى لاكتساب المزيد من الشرعية والاستقرار. هنا يبدأ الحوار بين النظام والأحزاب والجماعات المعارضة وتقل تدريجياً حدة المواجهة والنزاع بينه وبينها.
هذه هي الفترة التي صار فيها كل من نظامي مايو والإنقاذ أقل ثورية وأوتوقراطية وراجعا سياساتهما الرادكالية وبدأت عملية التوفيق والمصالحة بينهما وبين المعارضة. هنا يتحول التوتر إلى داخل النظام وقد يتسبب في سقوطه وانهياره كما حدث بالنسبة لنظام مايو أو انشقاقه كما حدث لنظام الإنقاذ.
الإصلاحات الدستورية لأنظمة المؤسسات البيروقراطية
1/ إصلاح نظام انقلاب الفريق إبراهيم عبود الدستورية:
وعد البيان الأول لانقلاب الفريق إبراهيم عبود بإصلاح أداة الحكم وإشراك المواطنين في تطوير البلاد توطئة للوصول إلى الوضع الدستوري الذي يلائم طبيعة البيئة السودانية ويجنبها سوءات النظم المستوردة 18.
أقام نظام عبود المجلس المركزي كهيئة تشريعية تتكون من 72 عضواً من غير الوزراء الذين يعتمدون كأعضاء بحكم مناصبهم منهم 54 عضواً منتخبون بواسطة مجالس المديريات ككليات انتخابية و18 عضواً بالاختيار عن طريق التعيين بواسطة رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة 19.
تطلبت هذه السياسات إدخال النظام الانتخابي في الحكومات المحلية لانتخاب مجالس المديريات وتعديل قانون الحكم المحلي لعام 1951م وقواعد الانتخابات 20.
تم بناءً على ذلك تعيين لجنة للتطورات الدستورية روعي في تكوينها إشراك الكفاءات والتمثيل القومي برئاسة مولانا أبورنات رئيس القضاء الأسبق وعضوية تربويين وأساتذة جامعيين والنائب وممثل لمجلس الثورة وآخر ممثل للجنوب إلى جانب شخصيات قومية من بينهم خبير اقتصادي 21.
أوصت اللجنة بإصدار قانون إدارة المديريات وإدخال النظام الانتخابي في الحكومات المحلية كأساس لتطور دستوري يرسي قواعد الديمقراطية انطلاقاً من المجالس المحلية ومجالس المديريات للوصول إلى جهاز حكم موحد يقوم على تخصيص وتوزيع المسؤولية لتفادي التداخل والتضارب والازدواجية مع تقليل التكاليف الإدارية الباهظة.
لم تخرج اللجنة الدستورية عن النظام البرلماني، كما لم تفض التطورات الدستورية إلى حكم برلماني نتيجة لاندلاع ثورة أكتوبر 1964م إلا أنها عملت على تقوية وتطوير صلاحيات النظام البرلماني من خلال البنية الإدارية وتقوية المجلس المركزي كهيئة تشريعية تتمتع بسلطات إصدار التشريعات وإجازة الميزانية ومناقشة ومساءلة الوزراء والرقابة المالية عن طريق إجازة الميزانية والضرائب وتقرير المراجع العام 22.
هنا حرصت اللجنة على استقلال ديوان المراجع العام حتى لا تتأثر قراراته بخضوعه لأية جهة وزارية وذلك بمنحه كادراً خاصاً وصلاحيات وسلطات محاسبية، كما تقرر تكوين هيئة تأديبية برئاسة قاضٍ وعضوية اثنين أحدهما من ديوان المراجع العام والآخر من وزارة المالية للبت في المخالفات المالية التي يكشفها تقرير المراجع العام وحالات الإهمال أو تأخير الوثائق والمعلومات المطلوبة بواسطة الديوان أو عدم الأجوبة على تساؤلات المراجع العام 23.
تم بناءً على ذك تعديل قانون المراجع لعام 1933م لإضافة الكادر الخاص والهيئة التأديبية. اشترطت اللجنة أن يقدم المراجع العام تقريره في فترة لا تتجاوز 8 أشهر من نهاية السنة المالية أو تقديم مذكرة تفسيرية توضح الأسباب تأخير تقديم التقرير 24.
أدخلت لجنة التطورات الدستورية إلى جانب ذلك تعديلات تأصيلية شملت تغيير اسم كاتب المجلس المستقل حرفياً من قواعد البرلمان البريطاني إلى أمين المجلس، على أن يكون موظفاً عادياً في الخدمة العامة ولا ينص عليه في التشريع كما في النظام البريطاني 25.
تم العمل بهذا التقليد في كل البرلمانات السودانية التالية. كما جعلت اللجنة مكافآت أعضاء المجلس المركزي (الهيئة التشريعية) من اختصاص رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالتشاور مع وزير المالية ورئيس المجلس المركزي26.
كما جعلت اللوائح الداخلية للمجلس من اختصاص رئيس المجلس المركزي وجعلت الطعن في عضوية العضو المنتخب يحسم من لوائح المجلس وليس عن طريق القضاء لأن القضاء قابل للتأجيل والاستئناف ولا عن طريق المجلس لأن أعضاء المجلس قد يتعاطفون مع العضو المعني بحكم زمالتهم له 27.
2/ الإصلاحات الدستورية لنظام مايو:
حاولت ثورة مايو الانتقال بالبلاد من الولاءات التقليدية وتناقضات الحكومات الائتلافية نتيجة لعدم استطاعة حزب واحد إحراز الأغلبية وبالتالي عجز وشلل السلطة التنفيذية وعدم الاستقرار والتنمية إلى نظام التخصصات البيروقراطية القادرة على العمل والإنجاز. "
ثورة مايو حاولت الانتقال بالبلاد من تناقضات الحكومات الائتلافية وبالتالي عجز وشلل السلطة التنفيذية إلى نظام التخصصات البيروقراطية القادرة على العمل والإنجاز
"
عندما تحرر النظام المايوي من عزلة التصنيف الشيوعي بعد فشل انقلاب 1970م انخرط بقوة في الاندماج الاجتماعي والتفاعل الوطني.
هنا اجتاحت البلاد تطورات دستورية وتحولات سياسية جذرية عن طريق اللامركزية ونظام الحكم الرئاسي، بدءاً بالانفتاح على القاعدة السكانية العريضة وإشراكها في العملية السياسية من خلال الحكم الشعبي المحلي لعام 1971م والحكم الذاتي الإقليمي في الجنوب على أساس اتفاقية أديس أبابا عام 1972م ومن ثم تعميم تطبيق الحكم الإقليمي على كل السودان في عام 1981م.
كما توج كل هذا التطور الدستوري بالتحول الجذري من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي التنفيذي 28.
تكمن قوة النظام الرئاسي التنفيذي الذي أقامته ثورة مايو في الجمع بين سلطات الدولة كما في النظام الأمريكي ورئاسة الحكومة كما في النظام البرلماني البريطاني مع تفادي مظاهر الضعف في كل منهما.
يجسد النظام الرئاسي التنفيذي الإرادة الشعبية عن طريق الاستفتاء أو الانتخاب المباشر للرئيس، لذا عرف هذا النظام بالقيادي، كما عرف الرئيس بالرئيس القائد. بالتالي تم تفويض الرئيس القائد في النظام الرئاسي التنفيذي سلطات والمشاركة في التشريع بإمضائه على مشاريع القوانين وإصدار الأوامر المؤقتة التي لها قوة القانون في غياب المجلس التشريعي 29.
كما أن الرئيس يدعو المجلس للانعقاد ويخاطبه مباشرة أو عن طريق الرسائل وتلقى طلباته الأولوية في أعمال المجلس (الدستور الدائم، مادة 110) كما يتمتع بسلطات القائد الأعلى للقوات المسلحة (مادة 99) وإعلان الحرب وإرسال القوات السودانية في مهام عسكرية خارج البلاد (105) كما يعين نوابه ورئيس الوزراء والوزراء والضابط والدبلوماسيين وقادة الخدمة العامة ويعفيهم (مادة 87 و100) ويعتمد سفراء الدول الأجنبية وممثليها لدى السودان (مادة 103) وهو يتمتع بالحصانة ولا يحاسب أو يدان إلا في حالة الخيانة العظمى باقتراح من ثلث أعضاء المجلس وموافقة ثلثي الأعضاء (مادة 115).
يتلقى النظام الرئاسي في جمهورية السودان الديمقراطية مع الأنظمة الرئاسية في أمريكا وسويسرا وفرنسا وتركيا في الجمع بين السلطات المظهرية والتنفيذية والبقاء في الحكم لكامل فترة الولاية الرئاسية مع ملاحظة التكوين المجلسي للنظام الرئاسي في سويسرا وانتخاب الرئيس في سويسرا وفي النظام التركي بواسطة البرلمان 30.
النظام الرئاسي السوداني أقرب إلى نظام جمهورية ديجول في فرنسا من حيث الانتخاب المباشر بواسطة الشعب وقوة السلطات التنفيذية والاستثنائية مع الاحتكام إلى الشعب إلا أن ولاية البرلمان الفرنسي تقوم على رئيس الوزراء ومجلس الوزراء بطرح صوت الثقة فيهم، الأمر الذي لا ينطبق على النظام الرئاسي في السودان إلا على الوزراء كأفراد من خلال رئيس الجمهورية 31.
لم يجئ النظام الرئاسي التنفيذي في السودان من فراغ بل ظل السودان يتحرك منذ الاستقلال نحو نظام رئاسي قوي يمكن من الاندماج الاجتماعي والاستقرار السياسي في بيئة تكثر فيها مهددات الوحدة الوطنية. طورت هذه الاتجاهات في ستينات القرن العشرين في الجمعيات التأسيسية وديباجات مشاريع الدساتير والمبادئ الموجهة للدستور والميثاق السياسي إلى أن تبلورت في الدعوة إلى نظام رئاسي متعدد الصلاحيات والسلطات في مسودة دستور 1968م والدستور الدائم لعام 1973م الذي أرسى دعائم النظام الرئاسي التنفيذي في جمهورية السودان الديمقراطية 32. الحجة هنا أن السودان في اتساعه البري ومناخاته المختلفة وتعدد تركيبته الاجتماعية يحتاج لنظام رئاسي قوي يبعد خطورة القبلية والأنظمة الطائفية ويحقق الوحدة الوطنية والاستقرار السياسي والتنمية.
أثارت هذه التطورات الدستورية انتقادات معارضي النظام الرئاسي الذي أقامته ثورة مايو.
في المقابل يرى المدافعون عن نظام مايو الرئاسي أن هذه الانتقادات نتاج لأثر التعليم الليبرالي على الصفوة والمثقفين السودانيين الذين درجوا على تقديس الحرية الفردية نتيجة للشك في السلطة السياسية واتهامها بالتسلط والقهر.
هؤلاء يريدون حرية طليقة دون قيد أو شرط في حين الحرية المطلقة خطيرة على المصلحة العامة وعلى حرية الآخرين وعليه لا بد من ضمان وتنظيم الحرية بالقانون. القانون لا يأخذ ما كفله الدستور. وحكم القانون لا يعني الاستبداد، إذ أن الحكام لا يشرعون كما يشاءون نسبة لتوازن وتقسيم السلطات وتحديد مصادر التشريع ومصادر تنفيذ القانون.
إن تمجيد الليبرالية بحجة أنها تحد من تغول السلطة فيه نظر، إذ أن الديمقراطية الغربية أساساً تحمى الرأسمالية. كما أن الغرب الليبرالي يوظف سلطته في قهر واستعمار الشعوب ويستخدم الشرطة لحماية أمنه.
يهمنا هنا المستوى النظري الذي طرحه الدكتور جعفر بخيت في الفصل الرابع للدستور الدائم لعام 1973م عندما احتج بأن الحرية جزء من رسالة النظام السياسي في العالم النامي الذي من واجباته الأساسية تحقيق التحرر والتنمية والتحديث 33.
وبالتالي فإن الصلاحيات والسلطات التي يفوضها الشعب للرئيس القائد لتمكنه من إنجاز هذه المهام لا تجعل منه طاغية. الرئيس القائد يجسد إرادة الشعب طالما ظل يوظف السلطات الممنوحة له في خدمة الشعب.
أما الرئيس الطاغية فإنه يفقد قيادته الكارزمية وثقة الشعب الذي يمكنه أن يسحب إرادته منه عن طريق الاستفتاء. كما اقترح الدكتور جعفر بخيت ما يشبه تحويل النظام الرئاسي إلى مؤسسة رئاسية تتكون من الرئيس القائد ومجلس الوزراء والمحافظين ووكلاء الوزارات، الأمر الذي يشير إلى تخوفه من الممارسة الفعلية لسلطات الرئيس التنفيذية منفرداً إلا أنه لم يطور هذا الجانب مع المبادرة والسبق الذي قام به 34.
ربما قصد جعفر بخيت التخفيف من انتقادات المعارضة لسلطات الرئيس التنفيذية التي لم يتم الحد منها بل تم تطويرها عن طريق تبريرات بعض الدستوريين والمنظرين. بالتالي بقي النظام الرئاسي الذي ابتكرته ثورة مايو يثير الشك والريبة لدى العديد من السياسيين.
3/ التطورات الدستورية في عهد الإنقاذ:
حاول نظام الإنقاذ بعد الاستيلاء على السلطة عن طريق الانقلاب العسكري في عام 1989م تطبيق مشروعه الحضاري انطلاقاً من أهداف التغيير السياسي والاجتماعي الذي يحدثه نظام المؤسسات البيروقراطية عن طريق القوة. "
نظام الإنقاذ حاول تطبيق مشروعه الحضاري انطلاقاً من أهداف التغيير السياسي والاجتماعي الذي يحدثه نظام المؤسسات البيروقراطية عن طريق القوة
"
قام نظام الإنقاذ بتجييش الشعب السوداني وإحياء شعيرة الجهاد بعد تطويرها إلى فقه الدفاع الشعبي. وفتح أبواب السودان للحركات الجهادية ومنح قياداتها حق اللجوء وإقامة معسكرات التدريب. كما أسس المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي كتجمع عالمي يهدف إلى التقارب مع الحركات الإسلامية وقيادتها 35.
أحدثت هذه السياسات ردود فعل عنيفة ضد نظام الإنقاذ في الداخل والخارج حتى بدأ في فترة انتقالية تالية انفتاح نظام الإنقاذ مثله مثل أنظمة بيروقراطية المؤسسات الأخرى بهدف اكتساب المزيد من الشرعية واستقطاب القوى السياسية الأخرى.
هنا صدر دستور 1998م الذي سمح بتنظيم الروابط والفعاليات السياسية بضوابط قانونية، كما تأسس حزب المؤتمر الوطني بموجب الدستور الجديد وقانون التوالي كتطبيق عملي لحرية التنظيم السياسي 36.
مثل هذا التطور نقلة لنظام الإنقاذ من مرحلة التنظيمات الإسلامية الصفوية إلى مرحلة الانفتاح على القاعدة السكانية العريضة في الأقاليم والريف.
لم يتقبل الدكتور الترابي الدولة الاندماجية the integral state والنظام الرئاسي التنفيذي، وبالتالي نادى بتقليص القبضة المركزية والتحول إلى نظام شبه رئاسي يستمد سلطاته من البرلمان.
إلا أنه فشل في استصحاب تلاميذه الذي انشقوا إلى كتلتين؛ إحداهما تناصره والأخرى تناصر رئيس الجمهورية، وتنادي بتقوية النظام الرئاسي في الحزب والدولة. تشير هذه التطورات إلى المطالبة بالنظام الرئاسي التنفيذي القوي.
بدأ الصراع بتقديم مذكرة العشرة في ديسمبر 1999م التي أثارت ضعف الشورى والمؤسسية داخل الحزب واتهمت الأمين العام آنذاك الشيخ/ حسن الترابي بالسيطرة والاستعلاء فوق الآخرين وتسيير شؤون الحركة الإسلامية في الخفاء دون شورى أو إشراك للآخرين، مما تسبب في الغموض في علاقة الحزب بالدولة 37. طالبت المذكرة بإعادة هيكلة أجهزة الحزب ووضوح العلاقة بين الحزب والدولة.
واقترحت تولي رئيس الدولة القيادة التنفيذية في الحزب باستحداث المكتب القيادي كسلطة تنفيذية عليا في الحزب.
جاء رد فعل الشيخ/ حسن الترابي باتهام هذا التحرك كعمل لإضعاف الحزب بجعله حزب حكومة، وركز في المقابل على دور المجلس الوطني الاتحادي والمجالس الولائية لتمرير اقتراحات داعمة للتحول من النظام الرئاسي التنفيذي إلى نظام شبه رئاسي بانتخاب رئيس الوزراء وانتخاب ولاة الولايات إلى جانب تعديلات دستورية تحد من سلطات الرئاسة إلا أن مجلس الشورى والمؤتمر العام أمنا على مقترحات المذكرة وأجازا الإصلاحات المقترحة فيها 38.
هنا رجحت كفة تقوية الرئاسة في الحزب والدولة وتأكد ذلك عند إعلان رئيس الجمهورية لحالة الطوارئ وتعليق مواد الدستور التي تحد من سلطة الرئيس. كما تم حل المجلس الوطني وتجميد الأمانة العامة وأمانات القطاعات الاتحادية 39.
كان المناخ السياسي قد تأثر بإجراءات التوالي الذي شق وأضعف المعارضة حتى اضطرت بعد عودة المشير نميري إلى السودان ومشاركته في انتخابات الرئاسة والعودة إلى الداخل. أضعفت العودة تضامن المعارضة وجعلت بعضها يبدأ التقارب مع الحكومة والبعض الآخر يقوم بالمعارضة السلمية من الداخل 40.
تبلور بعد عودة المعارضة إلى الداخل موقف سياسي جديد مكّن من توقيع اتفاقية السلام الشامل والوصول إلى الفترة الانتقالية. تمّ في الفترة الانتقالية تكوين حكومة الوحدة الوطنية والشراكة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان وبدأ التطبيق الفعلي للاتفاقية على الرغم من البطء والاختلاف في التفسير 41.
4/ التطورات الدستورية في اتفاقية السلام الشامل:
تمثل اتفاقية السلام الشامل أكثر تطور دستوري وتحول سياسي جذري لإنجاح الديمقراطية يشهده السودان.
"
اتفاقية السلام الشامل تمثل أكثر تطور دستوري وتحول سياسي جذري يشهده السودان، بموجبها تم وقف الحرب الأهلية والتفاهم على قسمة الثروة والسلطة وإجراء تعديلات أساسية في هياكل البنية الحكومية
"
فقد تم بموجبها وقف الحرب الأهلية والتفاهم على قسمة الثروة والسلطة وإجراء تعديلات أساسية في هياكل البنية الحكومية ووضعية المناطق الثلاث؛ جبال النوبة وأبيي والنيل الأزرق.
كما جاء الانفراج الأمني نتيجة لجهود عليا بين طه وقرنق إلا أن موضوع الوحدة حجز للبت فيه بإجراءات تقرير المصير في نهاية الفترة الانتقالية 42.
شملت بنية الحكومة خطة لمراجعة الدستور وإعداد نماذج دساتير للإقليم الجنوبي والولايات الجنوبية والشمالية إلى جانب حكومات محلية منتخبة وبرلمان قومي من مجلسين وهيئات تشريعية للإقليم الجنوبي والولايات.
كما شملت مقترحات الإصلاح إجراءات فعّالة لضمان حماية الحريات العامة وحقوق الإنسان ومفوضيات قومية مستقلة لمراجعة الدستور وتعيين وإدارة الجهاز القضائي والخدمة المدنية ومراقبة الانتخابات والاستفتاء ومفوضية البترول ومفوضيات طارئة للإشراف على تطبيق الاتفاقية 43.
الأمل معقود على اتفاقية السلام الشامل لإقامة وإنجاح الديمقراطية التعددية التي تتيح تمثيل الأقليات والمرأة من خلال ابتداع نظام انتخابي مناسب أكثر من النظام الانتخابي القديم.
إن محاولات الأنظمة العسكرية إصلاح بنية وتنظيم العملية السياسية في السودان توطئة للوصول إلى الوضع الدستوري الذي يناسب البيئة السودانية ويجنبها سوءات النظم المستوردة ظلت أوتوقراطية لاعتمادها على انضباط الأنظمة العسكرية وتخصص البيروقراطية الإدارية.
لعله لذلك لم تجد مقترحات مولانا أبورنات الدستورية ما تستحق من عناية، على الرغم من أهمية مزجها للبيروقراطية العسكرية والمدنية وتنظيمات المجتمع المدني كتخصصات وخبرات إدارية متطورة في السودان ومطلوبة لتحقيق الاستقرار والتنمية.
كما أن محاولات النظام المايوي إقامة نظام رئاسي تنفيذي قوي قوبلت بالرفض والمطالبة بالديمقراطية الجماهيريةPopular Demoracy في الانتفاضة 1985م التي انتشرت في كل أفريقيا إلى أن بلغت الذروة في انتفاضة الجزائر في عام 1988م واكتسبت الهوية الأفريقية بقيادة المناضل نيلسون مانديلا بعد إطلاق سراحه من السجن وهزيمة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، لكن على الرغم من اكتسابها السند العالمي بعد انهيار أنظمة الحزب الواحد في الاتحاد السوفيتي وجمهوريات شرق أوربا الاشتراكية إلا أنها فشلت بدورها نتيجة لصراعات الصفوة في السودان وأفريقيا.
الخلاصة
يبدو أن إصلاحات اتفاقية السلام الشامل الدستورية أقرب إلى تصورات أنظمة بيروقراطية المؤسسات من حيث الانسجام مع البيئة السودانية والنظام الإداري والرئاسي أو القدرات على الاستقرار السياسي والتنمية والتحديث.
في المقابل هنالك تآكل واضمحلال في بنية الأحزاب السياسية نتيجة لمتغيرات اجتماعية وخروج الدوائر الجغرافية من نفوذ القيادات القبلية والطائفية إلى قيادات جديدة من المثقفين من أبناء المجموعات الإثنية الداخلة في العملية السياسية على أسس جديدة للمشاركة والمساواة حسب أحكام الاتفاقية.
لقد قصد الوسطاء أن يحصروا الإصلاح السياسي في السودان على الطرفين المتحاربين وعزل القوى السياسية التقليدية بحجة فشلها. يذكر المراقبون هنا أبعاد المبادرة العربية التي كانت ستعالج المسألة السودانية من منبر واحد 45.
كما ركز المبعوث الأمريكي؛ المستر دانفورث، لعملية السلام في السودان في فصل الدين عن الدولة على طرفي الفاصل العرقي بين الشمال والجنوب وتجاهل نداءات المعارضة بالفصل في الشمال أيضاً.
أخيراً حثت ورقة ناكورو الطرفين المتحاربين على استيعاب القوى السياسية الأخرى وإشراكها في العملية السياسية دون أن يؤثر ذلك على قيادتهما لمسيرة السلام 46.
عليه لم تشترك الأحزاب في محادثات السلام ولم تدع إلى أمريكا مع الأطراف المعنية عندما أصبحت أمريكا الدولة الوحيدة في العالم القادرة على إيقاف الحرب وإحداث السلام في السودان.
كما أن محاولات الأحزاب مراجعة العملية السياسية بعد الاتفاقية عن طريق مؤتمر دستوري واتفاقيات التراضي الوطني لم تجد الاستجابة من الوسطاء ولا من الحركة والحكومة وأصبحت اتفاقيات التراضي الوطني مثار جدل وتفسيرات مختلفة من الأطراف المعنية 47.
كما أن مؤتمر الأحزاب المعارضة في جوبا لم يجد الإجماع أو القبول ولا يعرف كيف ستجد توصياته طريقها للتنفيذ.
لا بد في الختام من الإشارة إلى عراقيل التحول الديمقراطي في السودان المتمثلة في عدم الانسجام الاجتماعي وعدم الإجماع على الوحدة الوطنية.
إن اتسام الموروث الاستعماري لبنية الدولة القطرية الحديثة بالترسيم التعسفي للحدود وطريقة تكوين الأجهزة الأمنية من جيوش وشرطة ومؤسسات إدارية قد جعلها خاضعة للإستراتيجية الغربية ووثيقة الارتباط بالنظام الدولي كجزء من المنظومة الدولية أكثر من ارتباطها وانسجامها مع التطور المستقل للديمقراطية التعددية والتنمية المحلية.
كما أن تنظيم العملية السياسية بعد الاستقلال قام على العلاقات الاجتماعية القبلية والطائفية على الرغم من تناقضات متغيرات التنمية والتحديث العصرية 48 معها. ربما كان فشل الديمقراطية في السودان ناتجاً من قوة الأثر السياسي لبيروقراطية القوات المسلحة والخدمة المدنية والتنظيمات والروابط التي أقامتها الانقلابات العسكرية.
الهوامش
1-Trigger B.G, Nubia under the pharaoh,1976,PP.145f.
2- حسن، يوسف فضل، "العرب والسودان،1967،46-49 في عبدالله على إبراهيم "إسلام السودان وعربه" من الإسلام في أفريقيا، المؤتمر الدولي، 2006ص607.
3- حسن، يوسف فضل، مقدمة في تاريخ الممالك الإسلامية في السودان الشرقي 1450-1821 الخرطوم، 2003ص72 (فيما بعد الممالك الإسلامية).
4- عن الجعليين انظر:
حسين على العباسي، الأساس في أنساب بني العباس، القاهرة، 2002، صفحات 439-455. وعون الشريف قاسم، موسوعة القبائل والأنساب، الخرطوم، 2000،468/469.
5- عن الزبير باشا انظر:
Jackson سيرة الزبير، سلسلة أعلام التاريخ السوداني رقم 2، مركز الدراسات السودانية، القاهرة،1952م، تعريب وإعداد خليفة عباس العبيد. أيضاً: سعد الدين الزبير، الزبير باشا رجل السودان، القاهرة 1952م.
عن إمبراطورية رابح فضل الله انظر: سعد الدين الزبير، إمبراطورية رابح الزبير، القاهرة، 1952م.
6- الممالك الإسلامية، ص 69.
7- الممالك الإسلامية، ص 76-77.
8- الممالك الإسلامية، ص77.
9- الممالك الإسلامية، ص76-128.
10- الممالك الإسلامية، ص 128-129.
11- الممالك الإسلامية، ص 129.
12- عبد العزيز حسن الصاوي ومحمد على جادين، الثورة المهدية، 1987م، ص60.
13- J.S.R,Duncan, Sudan A record of achiement,Blackood & Sons,Edinbrgh 1952,156-157.
14- رندا قرشي، الحركة الإسلامية في السودان والإدارة الأمريكية، رسالة ماجستير في العلوم السياسية، كلية الدراسات العليا، 2002م.
15- نفسه.
16- نظام عبود لم يقمع القوى السياسية لكنه أبعدهم إلى حرب الجنوب بعد تجاوزات منهم ولم يؤسس حزباً أو روابط خاصة به لكنه انحاز إلى بيروقراطية القوات المسلحة والخدمة المدنية.
17- أوضح ما تكون هذه الظاهرة في الأنظمة الراديكالية عن مايو انظر: عبدالسلام أحمد علي ضو، إشكالية الدولة وتجربة الحزب الواحد في أفريقيا، الاتحاد الاشتراكي دراسة حالة، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية الدراسات العليا، 2003م، ص179-200.
والنظام الأساسي للمؤتمر الوطني، الطبعة الأولى، 2001م.
18- من أهداف الثورة تحقيق الرفاهية ورفع مستوى المعيشة وإصلاح أداة الحكم وإشراك المواطنين في تطوير البلاد. انظر: تقرير لجنة التطورات الدستورية، مطبوعات دار الوثائق المركزية، الخرطوم 1962، المقدمة.
19- نفسه، ص 8-9.
20- نفسه، ص 26.
21- نفسه، ص 1-2.
22- نفسه، ص 5 وقانون المجلس المركزي في نفسه، الصفحات 8- إلى 23.
23- نفسه، ص 59.
24- نفسه، ص 5-6.
25- نفسه، ص 6.
26-نفسه، ص7.
27- انظر: اللوائح في نفسه، ص 8.
28- انظر: قانون الحكم المحلي لسنة 1970، واتفاقية أديس أبابا 1972 وقانون الحكم الإقليمي لعام 1980 عن النظام الرئاسي انظر: مقالتي النظام الرئاسي في مقالات عن الولاية الأولى، مطبعة التمدن، 1975م.
29- مناقشة مسودة دستور جمهورية السودان الديمقراطية، 1972م ، الفصل الخامس: رئيس الجمهورية مادة 74.
30- يعمل رئيس الجمهورية في جمهورية السودان الديمقراطية بتفويض مباشر من الشعب انظر نفسه، ملخص مداولات لجنة الدستور العاشرة، الفصل الخامس: رئيس الجمهورية مادة 56.
31- الدستور الدائم لجمهورية السودان الديمقراطية، 1973م، مادة، 74.
32- نفسه.
33- انظر ورقة د. جعفر محمد علي بخيت، الحرية وسلطة القانون، (ورقة غير منشورة، مركز التنوير المعرفي).
34- انظر حديث د. جعفر بخيت عن تحديد اختصاص السلطة التنفيذية من مجلس الوزراء والرئيس القائد ومجلس الوكلاء والمحافظين، في نفسه، ص 7.
35- عمر الخير، الإسلام والدولة القطرية، رسالة دكتواره في العلوم السياسية غير منشورة، كلية الدراسات العليا جامعة الخرطوم، 2008، ص 163.
36- نفسه، 145 وما بعدها.
37- نفسه، أوراق 28 إلى 34.
38- نفسه، ورقة، 174.
39- نفسه، ورقة 175.
40- نفسه، ورقة 145.
41- نفسه، أوراق 290-294.
42- اتفاقية السلام الشامل، بروتكول مشاكوس، نيروبي، كينيا، مارس 2005.
43- نفسه.
44- قانون الانتخابات لعام 2007م ، انظر تقرير لجنة خيارات النظم الانتخابية المكتب القيادي. ومقالة عوض السيد الكرسني:
Elections in the Sudan , an overview in Sir, v., 1,2007,p1-4
45- ورقة مصر وليبيا مبادرة عربية تم إقصاؤها والتركيز على الورقة الأفريقية لسكرتارية الإيقاد.
46- ورقة سكرتارية الإيقاد وقد تبناها الوسطاء وأبعدوا ورقة مصر وليبيا مما يؤكد معالجة الصراع بين الطرفين المتحاربين فقط.
47- انظر تفسير الصادق المهدي لاتفاقية التراضي في:
الصادق المهدي، الإنسان بنيان الله، الخرطوم 2009م، ص 44 وما بعدها.
48- انظر تطور العملية السياسية لاتفاقية السلام الشامل إلا أن بنية الأحزاب التقليدية لم تتطور مع محاولات قانون الأحزاب لتطويرها.
المصدر
مركز التنوير المعرفي.. الخرطوم
www.tanweer.sd
قدمت في ورشة:
(المؤثرات العسكرية على العملية السياسية في السودان)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.