قضايا مثل (أبيي) تهدد مسارات السلام .. موت قرنق ترك تحديات عظام لسلفه (سلفاكير) .. الحكومة الجدية تواجه مهمة رهيبة .. البترول .. الاندفاع .. والخطط الطموحة .. متابعة وترجمة واستخلاص : توفيق منصور (أبو مي) صدر قبل عدة أيام من (وحدة استخبارات الإكونوميست) أحدث تقرير استخباراتي غربي عن السودان (9/2005) ويغطي هذا التقرير الفصل الثالث من العام الجاري .. وبالطبع وللصدف فقد صدر هذا التقرير مع إعلان الحكومة الجديدة ، وعليه فإنه يوثق حسب وجهة نظر محرري التقرير للحقبة الماضية (ثلاثة أشهر) كما أنه يضع إرهاصاته واستنتاجاته لحقبة من الزمن قادمة .. ولكن المهم هو أنه سيتناول دون شك في إصداره القادم ما يراه من وجهة نظر معديه كشهادة للدور الأول من عمر الحكومة الجديدة .. ومع هذا أرجو أن أذكر بأن هذا التقرير يجب أن نتناول مخرجاته بحذر وتحفظ ! وهذا لا يعني بأن نهمله لا بل يجب علينا متابعة ما يسطره عن البلاد لأن هذا التقرير وبغض النظر عن أي تقييم له فإن من يعتمد عليه في العالم في تخطيط ورسم معاملاتهم مع الغير كثرٌ خاصة في المجالات الاقتصادية ومجالات الدعم والتنمية .. هذا وأرجو أن أشير هنا بأن هذا التقرير ومن خلال رصدي له منذ الثمانينات كان يركز دوماً على المشاكل والانقسامات السياسية والتمرد وشكك كثيرا في قضية استكشاف و استخراج النفط وساند كل تحرك ضد الحكومة خلال التسعينات وربما كان ذلك لأجل مآرب عدة يفهمها معدو التقرير .. أما مع نهاية التسعينات فقد أقر بالنفط والثورة التي حصلت في مجالاته ، وكذلك ومع بدايات القرن الجديد فقد أقر بالتوجهات الجادة للسلام ، وقد قام بتقريظ دور وأنشطة وزارة الطاقة والصناعة والمالية إضافة لإعجابه المطلق بجميع الخطوات الخاصة ببنك السودان ومجهوداته الإصلاحية في المجالات البنكية .. هذا وأذكر هنا كالعادة بأن المصطلحات الإنكليزية التي أسوقها من خلال سياق التقرير إنما أقصد بها المزيد من التوضيح والثقة في النقل .. وأشير أيضاً بأن كاتب هذا المستخلص هدفه الأول هو توصيل ما يُسطر عن السودان لكل أهل السودان حكومة ومعارضة .. وعلينا أن نفهم ما يكتب عنا حتى لو لم يأت بجديدٍ فمتابعة وضع بلادنا في ملفات الغرب مهم للغاية .. يبدأ التقرير مشيراً إلى أن حكومة الوحدة الوطنية (Government of National Unity) ومن قبلها التوقيع على دستور الفترة الانتقالية وغير ذلك من الإصلاحات والوفاق السياسي كل ذلك قد بعث الأمل في نفوس السودانيين بأن السلام الحقيقي قد أطل فعلا برأسه وبأن الغد سوف لن يكون كالماضي أبدا . غير أن موت دكتور قرنق يشير التقرير قد أحدث بعض التخوف والتساؤلات عن مصير خطوات السلام . كذلك فان غياب قرنق لا شك سيضع الكثير من الضغوطات على (سلفاكير) ويتمثل أهمها في التحدي الذي سيواجهه بالنسبة لحوار الجنوب - الجنوب وخلق الوحدة المطلوبة ما بين أهله . كذلك يحتاج (سلفاكير) إلى خلق ثقة ما بينه وأهل الشمال . أيضاً تواجه سلفاكير قضية تحويل الحركة من حركة (حرب عصابات) وقوات متمردة إلى حركة سياسية سلمية .. كذلك يشير التقرير بأن سلفاكير يواجه تحدى خلق حكومة في رقعة جغرافية لا تمتلك إلا النذر اليسير من البنيات التحتية الأساسية ، إضافة إلى أن أهل الجنوب لا يمتلكون من الخبرات العصرية إلا القليل في وسط تحكمه القبلية والعرقية .. ومشكلة سلفاكير الأكثر تعقيداً تكمن في أن من سيختارهم كوزراء أو موظفين في مناصب حساسة لحكم الجنوب تكاد تنعدم لديهم التجارب والخبرات المطلوبة في مجالات الاستراتيجيات الاقتصادية ، وليس لديهم أي تصورٍ لخطط وبرامج تنموية ! هذا وعلى سلفاكير مهمة شاقة تتمثل في بناء مؤسساتٍ ترعى التنمية الاقتصادية والاجتماعية المرتقبة في الجنوب والتي يجب أن تتعامل بشفافية تامة في مجالي توزيع المال والصرف . ويصف التقرير الغربي هذا شخصية السيد النائب الأول لرئيس الجمهورية سلفاكير بكلماتٍ قاسية (وعموماً أهل الغرب في تقاريرهم دوماً يصفون الشخصيات السودانية جنوبية كانت أو شمالية مسلمة كانت أم مسيحية بصفات غريبة !!) .. ومع كل ذلك يرجع التقرير ليشيد بالطريقة السريعة التي ملأ بها سلفاكير الفراغ الذي نجم عن موت قرنق . هذا ويتهدد موضوع السلام كما يشير التقرير بعض القضايا الصغيرة التي تظهر من وقت لآخر مثل قضية (أبيي) .. كذلك يشير التقرير إلى أن اتفاقية السلام تواجه خطورة السقوط (vulnerable) لأنها إلى حدٍ ما تُعد كاتفاقية ثنائية ما بين الحركة والمؤتمر الوطني مما يضعفها كثيراً ، فهي كما يشير التقرير قد تجاهلت العديد من القطاعات السياسية الهامة ، وعليه كما يشير التقرير فإنه من الأهمية بمكان أن يُدرس هذا الأمر ويُعاد النظر في كيفية استيعاب الكل دعماً للاتفاقية (redressed) وذلك لأجل حماية الاتفاقية ونجاح التوجهات الجديدة في السودان (new order) .. وعموما ومع كل المشاكل التي تطل برأسها من وقتٍ لآخر في السودان يستطرد التقرير ، إلا أن وضع البشير في حكم البلاد يظل قويا ولا يواجه بأي تحدٍ (will remain unchallenged) .. و لكن ومع توجهات البلاد في طريق السلام والإصلاحات السياسية والتنمية إلا أن مشكلة دارفور ما زالت تعكر صفو المشهد السياسي السوداني ، وكذلك عدم حدوث أي تقدم في مسألة الشرق يقلق الجميع .. هذا ويشير التقرير إلى أن مصادره تؤكد بأن السلام في دارفور سيتم خلال العام (2006) .. (أشير إلى أن التقرير السابق لنفس الجهة كان قد أشار بأن قضايا دارفور ستحل مع نهاية العام 2005)! .. عموما أهم ما يشير إليه التقرير ويهم (الخواجات) هو أن المشاكل الإنسانية في دارفور قد خفت حدتها .. هذا ويعتبر التقرير بأن مشكلة دارفور قد أحرزت فقط القليل من النجاح على الرغم من أن الوضع الأمني قد أظهر بعض التحسن الذي ينسبه التقرير للضغوطات الخارجية فيما يخص وقف إطلاق النار وكذلك للمعونات الأجنبية ولتواجد قوات الاتحاد الأفريقي بالمنطقة مما أدى بداية لتوقف هجمات المليشيات العربية ! ، ولكن يشير التقرير إلى أنه ومع ذلك يعتبر الوضع هشاً (FRAGILE) فعلى الرغم من التحسن في الوضع الأمني إلا أن إنسان دارفور لا يمكنه التحرك بحرية في إقليمه .. عموماً يركز التقرير على أنه لا يمكن أن نقول الآن بأن هناك سلام شامل في السودان (comprehensive peace) طالما أن مشكلة دارفور وكذلك قضية الشرق ما زالتا بدون أي حل .. وجبهة الشرق ، يستطرد التقرير ، التي تكونت ما بين الأسود الحرة ومؤتمر البجة تشكل خطورة كبرى للنظام في الخرطوم خاصة وأن علاقات السودان المتدهورة بإريتريا تعطي قوة لجبهة الشرق ، فإريتريا بأقل ما يمكن أن يقال تشجع وتسلح جبهة الشرق .. أضف إلى مشكلتي دارفور والشرق التشكيل الحكومي الجديد الذي لا يشمل كل القطاعات السياسية في السودان .. ولكن يضيف التقرير فإن مشكلة دارفور قد أوجدت إجماعا كاملا بأروقة الأممالمتحدة بأهمية حلها عن طريق المفاوضات ، وبأن هذا التوجه ستدعمه حكومة الوحدة الوطنية التي باتت تعرف لدى الغرب اختصارا ب (GNU) ، كذلك يراهن البعض على أن مكتسبات (فنيات التفاوض) لدى (الحركة) و (المؤتمر) لا شك تشكل دفعاً لمسارات التفاوض من أجل السلام .. وأن السلام في دارفور أو الشرق ليس ببعيدٍ طالما أن أهل السودان تيقنوا من أن سلام الجنوب أضحى مكسباً للكل بما يحمله من توجهات (فدرالية) وهيكلة جديدة لكل السودان ومشاكله .. هذا ويضيف التقرير بأن النظام الجديد الذي ستشكله حكومة الوحدة الوطنية (GNU) سيواجه بالعديد من التعقيدات (complications) تتمثل أولاً في مجموعات التمرد الأخرى في جنوب السودان زائداً للمعارضة الغير مشاركة في أل (GNU) وعلى رأسها حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي والشعبي بقيادة حسن الترابي .. أما (سلفاكير) فسيواجه هو أيضاً بتحدٍ أكبر من ذاك الذي كان متوقعاً أن يُواجه به (قرنق) وأن المشكلة الأساسية ستنبع من المجموعات الجنوبية المتمردة الأخرى والتوجهات القبلية وأن كل مجموعة ستعمل على أن تثبت وجودها وتفوز بأكبر المكاسب الممكنة .. أما بالنسبة للسياسة الاقتصادية فيشير التقرير إلى أنها ما زالت تحت السيطرة والتحسن (remained on hold) .. أما التضخم فقد تم تهدئة جماحه (eased) .. كذلك فأن العملة السودانية قد زادت قوتها (strengthened) مقارنة بالدولار . وأن احتياطات الدولة (reserves) استمرت في الارتفاع بنسب ملحوظة .. ويركز التقرير على أن الاقتصاد السوداني ما زال في حالة تحسن وصعودٍ مستمر منذ بداية القرن (noticeable pick-up) .. أما بالنسبة للبترول فيشير التقرير إلى أنه من حسن حظ السودان فإن سعره ما زال عاليا ، كذلك الأيام القادمة ستشهد زيادة ملموسة في إنتاجه .. والصين والهند قد دعمتا موقعهما في خارطة البترول السوداني . ويبدو أن للسودان خطط طموحة لزيادة الإنتاج (ambitious targets) ، هذا ويشير التقرير إلى أن السودان سيصل إنتاجه من البترول بعد شهرين إلى (500) ألف برميل يومياً ومن ثم سيقفز هذا الرقم إلى (750) ألف برميل خلال عام (2006) ليصل خلال عام (2008) إلى مليون برميل في اليوم ، (علماً بأن هذا التقرير قد أشار قبل سنتين وبتعجبٍ شديد إلى أن إنتاج السودان سيصل إلى مليون برميل خلال عام 2010 ) ! .. ويشير التقرير إلى أن المدهش في أمر بترول السودان هو الإنتاج المتصاعد على الرغم من عدم الاستقرار في البلاد وانعدام الأمن في الكثير من المناطق والضغوطات التي مورست على السودان والشركات المتعاملة معه !! . وهنا ينبه التقرير على أن احتياطات السودان البترولية سبق أن قدرت حسب المعطيات خلال عام 2001 ب (260) مليون برميل ومن ثم ارتفع هذا التقدير إلى (700) مليون برميل أما الآن فيؤكد التقرير بأن احتياطات السودان وعلى ضوء معلومات موثوق بها لديه تبلغ (as high as) أل (5) بليون برميل .. ويندهش التقرير على الجدية القصوى التي تبديها حكومة السودان فيما يتعلق بقضايا التنقيب والإنتاج ، وكذلك يؤكد بأن الشركات الأجنبية العاملة في هذا المجال أيضاً تدعمها وتدفعها دولها للمضي قدماً وبقوة في مجال الاستثمارات البترولية رغماً من الكثير من الضغوطات التي تواجهها وذلك نسبة لاحتياجات تلك الدول المتصاعدة للطاقة .. الاستيراد والتصدير قد ارتفعت وتيرتهما بشكل ملحوظ (soared) .. هذا وقد نجح السودان في موضوع برنامج الإصلاحات المالية والبنكية تحت مظلة توجيهات صندوق النقد الدولي ونجح في السنوات الماضية من كبح جماح التضخم والتوصل لاستقرار اقتصادي ملحوظ ، وتحسن وضع البلاد اقتصاديا من حيث المكانة الخارجية .. وعليه ومع تنفيذ خارطة السلام ستكون هناك أولويات في التوجهات الاقتصادية تتمثل في التوحيد والتكامل (reintegration) والتجديد والإصلاح (regeneration) وإعادة الإعمار (reconstruction) ، وما ينتظر السودان وحكومته الجديدة اقتصادياً وتنموياً إنما يعد بمثابة المهمة الرهيبة والمرعبة (daunting) !! خاصة في الجنوب ! الذي عانى كثيراً من جراء الصراعات.. هذا ويبدو أن الدولة ستسخر لهذا الأمر مداخيل البترول والمعونات الخارجية مما سيشكل ضغوطات على ميزانية الدولة ستنمو وتتعقد مع الأيام .. وفي هذا الأمر لا يكفي فقط (همة) الدولة أو الحكومة أو ارتفاع سعر البترول وإنتاجه بل يجب الاستعانة بالخبرات الأجنبية للمرور بسلام من الكثير من المطبات الاقتصادية .. هذا وسترتفع خلال الفترات القادمة وتيرة التضخم نسبة لزيادة منصرفات الحكومة وزيادة الطلب المحلي وزيادة فاتورة الاستيراد المحسوبة على الدولار الضعيف عالمياً ، وحسب تكهنات التقرير فإن التضخم سيرتفع خلال العام 2006 إلى (11.5%) ومع هذا يبقى التضخم أقل بكثير من ذاك الذي ساد خلال التسعينات كما يشير التقرير .. هذا ويضيف التقرير بأن استقراءاته لعام (2006) تشير إلى أن مداخيل الدولة ستزيد بنسبة (60%) حتى وإن هبطت أسعار البترول بنسبة (3.6%) وذلك نسبة للمجهودات المبذولة في مجال زيادة إنتاج البترول الخام . وهذه الزيادة في مداخيل الدولة سيدعمها إضافة للبترول (الزيادة في الإنتاج) المتوقعة في مجالات أخرى غير البترول .. هذا ويشير التقرير إلى أن الناتج المحلي الإجمالي (GDP) قد كان خلال العام 2004 (7.3%) وأنه سيرتفع حسب تقديرات التقرير خلال العام 2006 إلى (9.3%) .. أما في مجال الزراعة (والتي كنا نأمل أن نرتقي في سلمها) ! فإن نظرة التقرير لها قاتمة ومؤسفة للغاية ، غير أن التقرير في حقيقة الأمر قد ركز و ربط موقف الزراعة والغذاء في السودان بالوضع الراهن في دارفور والجنوب . وعليه أشار التقرير بأن الزراعة قد تأثرت تأثراً بالغاً وأن الخراب ! الذي حدث في دارفور للاقتصاد الريفي سيكون له آثار بعيدة المدى (long –term damage) مما يجعل الإصلاح صعباً خلال السنوات القريبة القادمة .. ويشير التقرير بأن الثروة الحيوانية بدارفور قد تأثرت أيضاً بشكلٍ ملحوظ وزادت نسبة الفقر في الإقليم مع تدهور وضع الزراعة .. أما بالنسبة للجنوب فيشير التقرير إلى أن الأمن الغذائي قد اقترب من الوضع العادي (close to normal) ولكن يشير التقرير إلى أن هناك بعض البؤر الخطيرة للمجاعة في الجنوب وذلك في مناطق متفرقة مثل شمال بحر الغزال وحول منطقة (أويل) .. هذا ويرى التقرير بأن صانعي السياسة في السودان عليهم في هذه الحقبة من تاريخ بلادهم أن يبحثوا ويستخلصوا فوائد السلام على إنسان السودان ، ويعكسوا هذا الأمر بصورة جلية وواضحة على شعبهم . والوصول لفوائد السلام كما يشير التقرير يستوجب بالطبع خلق وتحسين الثقة ليس فقط محلياً ولكن الأهم والأخطر هو الثقة الخارجية .. أما في مجال العلاقات الخارجية فيشير التقرير إلى أن النجاحات الأولية لمفاوضات السلام (early progress) مع نهاية عام (2001) وتعاون الاستخبارات السودانية مع الولاياتالمتحدةالأمريكية في حربها على الإرهاب قد لينت سياسات الولاياتالمتحدة (initially softened) تجاه النظام في الخرطوم على حد تعبير التقرير .. ولكن الاتهامات التي وجهها البعض للخرطوم بخروقات في مجال حقوق الإنسان بدارفور دفعت أمريكا لاعتبار ما يجري هناك بمثابة التطهير العرقي مما أذى مسارات العلاقات الأمريكية – السودانية كثيراً .. ومع هذا فإن أمريكا تعتبر نفسها راعية لاستتباب السلام والنظام في السودان .. و يشير التقرير إلى أن أمريكا يبدو أنها سوف لن تتخلى عن سياسة (العصا والجزرة) في تعاملها مع السودان مما سيؤخر تطبيع العلاقات ، ولكن أمريكا في الفترة الأخيرة قد وهبت السودان بعض احتياجاته وذلك تمثل في رفع الحظر عن قطع غيار (البوينج) وبعض تجهيزات ومعدات السكك الحديدية وكذلك هناك بعض التقدم في المحادثات من أجل إعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة والتي تربطها أمريكا بإعادة النظام والسلام لدارفور والشرق ... ( أمريكا أعطتنا قضمة من الجزرة وأبقت العصا مرفوعة !!) .. توفيق عبد الرحيم منصور الرباط : المملكة المغربية