حاتم الجميعابي [email protected] وعت البلاد السبت الماضي أحد إهراماتها وقاماتها السامقة في مجال الغناء والموسيقى. رحل عنا الموسيقار محمد عثمان وردي كسحابة صيف، نزلت على شعبنا كالسيل الجارف الذي لا يبقي ولا يذر، وأنا أخادع نفسي بي رحيلك واهرب حتى من تخيل أنك غبت عنا وأذرف دموع الحسرة في عيني اخفيها، فالرحيل حملاً ثقيلاً فوق طاقات الإحتمال للنفس البشرية حينما تفقد عزيزاً لديها، رحل وردي وساق خطواته سريعاً نحو الدار الأخرة بعد أن أيقن بأن النسيان سيطر على اللألفة على شعبنا، فإختار الرحيل المر عن هذه الدنيا الفانية، رحل الرجل الذي نذر نفسه لحب الوطن بكل مكوناته الإجتماعية والثقافية، حمل مشروعاً رائداً في التغيير عبر عنه بالموسيقى والكلمة المصاغة، جعل منه حديثاً للأجيال المتعاقبة. فمازالت البلاد تُسقط أذهارها واحداً تلو الآخر ويسيطر عليها الحزن من كل جانب فما أن صحونا من حزن فقد الراحل "زيدان إبراهيم" حتى سقطت الذهرة "المدخورة لليوم الشين" كما يقول المثل الشعبي، حزناً عميقاً يسطر على البلاد المكلومة طولها وعرضها. الكتابة عن رحيل إنسان ومعلم ومناضل ك " وردي" تتطلب فيما تتطلب الإتزان والبلاغة وإمعان الفكر والنظر في حياة هذا الهرم والتي أمتدت على ما يقارب ال (80) عاماً والتي خلف فيها رصيداً من الأغاني التي بلغ أكثر من 300 أغنية رفد بها مكتبة الأغنية السودانية، تنوعت وتشكلت بها شخصيته الغنائية، تميز الهرم السوداني فيما تميز بالغناء للوطن فقد أنتج من خلال تجربته الفريدة 88 عملاً وطنياً أشهرها " أكتوبريات" والتي جسدها وتغنى بها خلال الفترة التي أعقبت ثورة الشعب في أكتوبر الأخضر عام 1964م. والتي مازالت تشكل عنواناً وطنياً لرمزية "ودري" الفنان – الإنسان - المبدع المتجه والمشرئب نحو الخلود. فقد أصبح أحد رموز الثورة في مجالات الفنون المختلفة. فنان إفريقيا الأول كما يحلو لنا أن نناديه من مواليد 1932 بقرية صواردا جنوبي مدينة عبري بالولاية الشمالية. غنى وردي للعديد من الشعراء السودانيين وكانت له ثنائية شهيرة مع الشاعر "إسماعيل حسن" أنتجت أكثر من 23 أغنية. نشأ وردي يتيماً وتربى في كنف عمه، وأحب الآداب والشعر والموسيقى منذ نعومة أظافره فهو بالتالي موهوب منذ النشئه نهل من عمق الأصالة في شمالنا الحبيب تجرد وتفرد في ذلك. ثم رحل لمدينة شندي بولاية نهر النيل وأكمل تعليمه هناك، وعاد لمدينة حلفا بعد أن درس بمعهد تأهيل المعلمين وعمل معلم بالمدارس الوسطى ثم الثانوية العليا. وبدأ ممارسة الفن كهاوٍ حتى عام 1957م عندما تم اختياره بواسطة الإذاعة السودانية (هنا أمدرمان) بعد تجربة أداء ناجحة وإجازة صوته ليقوم بتسجيل أغانيه في الإذاعة. ومن هنا كانت بداية التفرد عند الراحل ومضى في مسيرته ومشروعه النهضوي في مجال الغناء لم ينفصل "وردي " عن منطقته "النوبة" فقد قام خلال تجربته بإدخال الأدوات الموسيقية التي تميزت بها المنطقة في مجموعة من الأعمال المختلفة حتى أصبحت ملازمة له في حله وترحاله، لم يكتفي بذلك بل غاص في أعماق الطمبور تلك الآلة الساحرة والتي شكلت إضافة نوعية لموسيقاه وأغنياته، والتي تعاون فيها مع مختلف الأسماء والشعراء من كافة أنحاء البلاد حتى أصبح الفنان الشامل، حاملاً للأدوات الموسيقية السودانية في جميع أسفاره ، لم تمنعه عالمية النوته الموسيقية من أدخال بعض الأدوات الموسيقية السودانية على فرقته الغنائية والتي زادت موسيقاه ألقاً وجمالاً إستثنائياً . رحل وردي وخلف وراه تراثاً غنائياً تنهل من الأجيال القادمة، غناء عاطراً تعدو به الريح فتختال الهوينى. رحل كالحلم الجميل يحمل براءة الأطفال الصغار عنوانها للألفة المؤدة لكل إنسان سوداني. فاجعتنا أكبر من حد إحتمال الإنسان، لما لا ! وهو الفنان الذي لم تفصله قيود الشهرة عن محبيه ومعجبيه، عاشاً واضحاً متواضعاً مهتماً بالإغنية السودانية وإبرازها في كافة المحافل الدولية، وإنساناً مناضلاً في وجه الجبروت والطغيان، معبراً عن نبض هذا الشعب فحقق فعلاً رسالة الفنان المرتبط بشعبه وقضايا أنسانه، لدرجة يمكن أن نسميها العشق اللامتنهي لتراب هذا البلد. العزاء لأهل الفقيد وأصدقائه ومعارفة وأسرته الكبيرة والصغيرة ولفرقته الموسيقية التي تعاقب عليها أجيالاً وللشعب السوداني في هذا الفقد الكبير الذي منيت به بلادنا. ونُذكر بأن أصحاب الرسالات خالدون في ذاكرتنا الوطنية الخربة، وسيظل هذا الهرم أحد الذين يعيشون في دواخلنا، بالرغم من تغييب الموت للجسد، فمشروع وردي الغنائي حتماًَ سيكون أحد أدوات الخلود لتجربته الثرة .عذراً أيها القراء الكرام فالحديث عن الراحل يحتاج إلى صفحات وصفحات فكل يوم عاشه في حياته يحتاج إلى كتاب نغوص في إنسانية الهرم الغنائي السوداني ولكن أسير بمنطق " ما قل ودل" عله يسعفني في الإتكاءة على جدران الرحيل المر. نعاهد وردي بكلمات شاعر الشعب محجوب شريف بأن نبنيهو البنحلم بيهو يوماتى .. وطن شامخ وطن عاتى .. وطن خيّر ديمقراطى .. وطن مالك زمام أمرو .. ومتوهج لهب جمرو .. وطن غالى..