[email protected] نعم ماتت المواطنة السودانية عوضية عجبنا (عليها الرحمة ) منتصف ليلة الخامس من مارس المنصرم برصاصةٍ، انطلقت من فوهة بندقية أحد رجال شرطة أمن المجتمع ، وبالتالى مضت فمضت معها بعض الفضائل النبيلة . المؤمنون جميعاً يعلمون بأن أيام القتيلة عوضية قد انقضت فى هذه الدنيا ، ولكن!! لماذا تكون هذه النهاية المحزنة على يد الشرطة ؟ أى داءٍ أصاب جهاز الشرطة ذات التاريخ الناصع لترتد أسفل سافلين بمثل هذه الممارسات الغريبة والمخجلة معاً ؟ ألم يكن من أوجب واجبات الشرطة توفير الحماية والرعاية لها كامرأة فقط ، بغض النظر عن ظروف وتداعيات الحادث الطارئ الذى اختطه القدر لها ولأسرتها المكلومة ؟ ألم تخالج هؤلاء القساة ذرة شعورٍ واحدةٍ بأن هذه الحرمة قد تكون فى مقام الأخت أوالابنة أوالأم لهم أولبعضهم فى أدنى سلالم التكريم والتجلة للمرأة السودانية التى يتقاتل الناس فى حماها ، ويفنون حمايةً لها حال استغاثتها واستنجادها بالآخرين !!؟ . لقد تأثرت حقيقة، ووقفت ملتاعاً أمام العبارة المؤلمة "هذه ليست الشرطة السودانية التى نعرفها " والتى تفوه بها سعادة اللواء ابراهيم ايدام أحد قادة الانقاذ وأحد أقرباء القتيلة .كم هى ماضية وكم هى نافذة هذه العبارة القاتلة الى أعماق من رسخوا لأدب شرطى راسخ، وممارسة شرطية مثالية على مدى أكثر من مائة عام من الزمان، حتى فاض خيرها الى دولٍ عربية وافريقية شقيقة. لم تكن المرأة غائبةً عن ذاكرة معلمينا وقادتنا فى الشرطة ، فقد كانوا يوصون بالنساء خيراً . كانوا يذكرون طلاب الشرطة بأن المرأة السودانية نفسها ، لا ترى فى البوليس الا حامٍ للحمى، ومقنِّع للكاشفات، وحلَّال للشِبَك ، ومغيث للملهوف ، وولىِّ أمرٍ واسع الصلاحيات الاجتماعية . المرحوم الملازم أول محمد درار (أشهر تعلمجى ) زمانئذٍ بكلية البوليس كان يحكى دائماً بأن المرأة فى زمانهم- من فرط ثقتها وايمانها بدور الشرطة فى المجتمع- كانت تستنجد وتستغيث بالبوليس عند أوجاع الولادة ، رغم صحبة الداية لها وملازمتها !!. لقد ضيق هذا الحادث المفجع فرص النجاة على الجميع ،ووضع كل شرطى شريفٍ وغيور على المهنة وعلى البلد فى وضعٍ لا يحسد عليه . وضعنا نحن المتقاعدين أيضاً فى مقام الحسرة والأسف الشديدين، على أخلاقيات مهنة الشرطة التى باتت كالجيفة المنفرة ،بسبب هذه التصرفات الرعناء ، التى أتاها بعض رجال شرطتنا الذين لم يتشربوا آدابها ، وأخلاقياتها، وعقيدتها السودانية الراسخة، التى وضع أسسها المتينة رجالٌ أفذاذٌ ، وقامات سامقة لا زال طائر سمعتهم العطرة يحلق فى الآفاق الرحبة . لقد كتبنا من قبل مدافعين عن بعض رجال الشرطة من ذوى السلوكيات الفالتة ، ولم تكن تحركنا العصبية المهنية أو تقودنا عقلية القطيع ، بل كان القصد هو الحفاظ على بقية الجسم المعافى من أن تطاله العدوى أو تنهشه الكلاب الضالة . الأمانة اقتضت الآن القول ناصحين ، ومذكرين للأخوة الزملاء العاملين ، وبالذات القادة الكرام ، بأن السيل قد بلغ الزبى وليس من المعقول على الاطلاق أن تؤتى الشرطة دائماً من منسوبى شرطة أمن المجتمع !! . لقد حانت ساعة الجد والحسم ليجلس أهل الأمن عموماً ، وأهل الشرطة خصوصاً القرفصاء ،لجرد حساباتهم المهنية والوطنية والأخلاقية، التى بدأت تنحدر أرقامها وقيمتها عند المواطن العادى، بسبب مثل هذه التصرفات السلبية التى تدعو للشفقة والرثاء، وترمى بكل محبى الشرطة فى محارق الشماتة والطعن الجماعى . انَّ الأمر برمته يحتاج الى ثورةٍ تشريعية وسياسية ، تقضى على كل القوانين الهلامية واللوائح والأوامر المحلية الفطيرة ، التى أرهقت العباد والبلاد، وأحالت حياتهم الى جحيم لا يطاق . هذا بالطبع هو واجب الحكومة الحاكمة ، ولكنكم-اخوتى- ملزمون شرعاً وقانوناً وأخلاقاً ، بالاعداد الجيد، والتدريب الكافى، والتأهيل اللازم لمنسوبى الشرطة، مع نقل خبرات السلف الصالح "شرطياً " لهم . الأهم من كل ذلك قيامكم بارجاع الشرطة الى مهنيتها ، وابعادها عن سموم السياسة، باختيار "أولاد الناس " من العناصر الأصيلة والشجاعة، غير المنتمية الا لله والوطن والمواطن المغلوب على أمره . هذا لن يكتمل بدرُه الا بقرارات شجاعة، تطيح بكل الذين انتموا لهذه المهنة زوراً ،عبر الترضيات والمحاصصات السياسية، والموازنات الجهوية، ومحاباة أهل السطوة والسلطة والحظوة، والاستيعاب "الأغلف " الذى يفتقر الى اعمال أسس ومواصفات الشرطى القدوة، الذى يقنع الآخرين هيبةً وزيَّاً مكتملاً، وانضباطاً عالياً، وتصرفاً حكيماً ،وأخلاقاً سامية، واجادةً تامةً لعمله وعلمه. يجب أن يتصل علمهم جميعاً بأن الشرطة جزء لا يتجزأ من هذا النسيج السودانى العظيم ، ولذا عليهم أن يعيشوا مع أهلها واقعهم الأليم، وعوزهم المهين وفقرهم اللئيم ، ومعاناتهم المعيشية وتعاستهم ، وأعرافهم وتقاليدهم ،بعدم التضييق عليهم فى خصوصياتهم ووسائل كسب عيشهم . من منا لايعلم بالأوضاع القاسية التى تعيشها بلادنا فى جميع مفاصلها، وفاتورتها الغالية التى يدفعها المواطن الكادح وحده يومياً ؟. ان للشرطة شعار تاريخى مقدس وهو الشرطة فى خدمة الشعب . عليكم بتطبيقه عملياً لازالة شكوك الناس ، وعليكم الانحياز للمواطن فالتاريخ لن يرحمكم اطلاقاً، لأن آباءكم الأولين كانوا أقرب للمواطن من الحاكم ، وعلى السياسيين الفاشلين-أياً كان مشربهم- الابتعاد عن الشرطة وتركها لممارسة واجباتها وأهدافها والتزاماتها وانضباطها بمهنيتها وحرفيتها التى نعلمها، فهؤلاء هم أس البلاء والداء . وأخيراً : نقول لكل الذين انفعلوا وهزهم هذا الحادث الأليم بأنَّ العذر معكم، ولكن هل يجوز لنا تحطيم جهاز الشرطة أم اصلاح ما اعتوره من مسالب ؟ عليكم أن تتخيلوا وطناً يمسى أهله ويصبح ماله وتبيت أعراضه بلا شرطة ؟ .ان الاعوجاج كثير فى هذا البلد، والشرطة أحسن حالاً بمقارنتها مع آخرين ، ولذا يجب أن نبتعد بها عن مهاوى الأجندة الخاصة، وتصفية الحسابات، ومزالق السياسة، وادعاءات البطولات الوهمية الزائفة، والعزف على أوتار العنصرية . الشرطة ماهى الا جهاز لتنفبذ القانون فقط، فهى لا تنظِر ولا تفكر ولا تقرر، كما أنها لا تصنع الدساتير ،ولا تضع مشروعات القوانين، ولا تجيز النصوص فى المجالس التشريعية ، ولكنها تستخدم يدها فقط وهى كيد "الفُنْدُك " قد تخطئ وقد تصيب!! فأين هؤلاء الذين فكروا وقدروا وأفتوا ووصنعوا الدستور وفصلوا القوانين والتشريعات وأجازوها فى المجالس التشريعية وحكموا بنصوصها وأصدروا أوامرها المختلفة من حكامٍ نافذين ونوابٍ مشرعين وقضاة حاكمين ونيابة ثم مرروا الكرة مقشرة للشرطة لاحراز الهدف القاتل ؟ أليس لكل هؤلاء أو بعضهم نصيب من هذا الدم الذى اهريق يومها والدماء الأخرى !؟ ألم يتفرق دم المرحومة عوضية بين قبائل التشريع والقانون والسلطة!؟؟. لقد عادر كل هؤلاء الممثلين خشبة المسرح، وتواروا خلف الحُجُب ، وتركوا الشرطة فى مهبات الشتم واللعن واللطم لأنها هى الوحيدة التى تعمل تحت ضوء الشمس..تالله لو قرأ أهل الشرطة كل الذى كتب بشأنهم بعد مقتل هذه الفتاة، لذهبوا فى اجازة نهائية أبديةٍ ، وتركوا الناس تأكل بعضها نهاراً جهاراً .