بقلم/ أبو البشر أبكر حسب النبي (باحث مقيم بسلطنة عمان ) يواجه السودان ، أو حكومة السودان بالأحرى تحديات جمة وعاديات لا تُعد ولا تحصي .. سنحاول في هذا المقال تناول ثلاثة من تلك التحديات التي تمثل - في زعمنا - أكثرها بروزا وإلحاحا .. مفاجأة خروج الريع النفطي : كان أحد أساتذتنا في الجامعة كثيرا ما يصف دولة (زائير ) أو "الكنغو" ( سابقا ولاحقا ) بأنها " فضيحة جيولوجية" ! والمراد هذا الوصف هو أن جميع المعادن الفلزية واللافلزية من أثمنها إلى أبخسها متوفرة في ثرى هذا البلد ومع ذلك فهي من أفقر البلدان العالم ، إنها حالة من التناقض والمفارقة التي ثبت إن غنى دولة - أي دولة - خاصة بالموارد الأولية لا يعنى غنى شعبها ، بل أن الغنى بالموارد الطبيعية كثيرا ما يكون وبالا ونقمة على الأمة عوض أن يكون نعمة وعزة لها . وكان علماء الاقتصاد والسياسة قد أطلقوا على حالة أخرى مناقضة للأولى مصطلح "المرض الهولندي " توصيفا ل " حالة من الكسل والتراخي الوظيفي التي أصابت الشعب الهولندي في النصف الأول من القرن المنصرم بعد اكتشاف النفط في بحر الشمال ، حيث هجعت قطاعات كبيرة من الشعب للترف والراحة واستلطفت الإنفاق الاستهلاكي والبذخ ... ولم تفيق إلا بعد نضوب الآبار " (موسوعة ويكيبيديا الحرة بالتصرف) . وسبب هذه المفارقات هو أن طبيعة الفوز بالعائد من مورد أو مصدر الريعي أو شبه الريعي والمتمثل في أن يقوم الغير بجميع مراحل الاستخراج والنقل والتسويق الموارد الأولية نظير جعل نقدي معلوم ، فقد مرت جميع الدول المنتجة للنفط بهذه المرحلة الريعية غير أنها وبمرور الزمن تمكنت من اكتساب الخبرة في المنظومة الكلية للنفط الذي تحول إلى مورد حقيقي لها. ققد أصيب السودان بالمرضين الكنغولي والهولندي معا ، بلد غني بالموارد وشعب فقير مدقع ، ظهر النقط وهجعت بعض القطاعات تحت "ظلال البترول " فأهمل القطاعات الإنتاجية الأخرى مثل الزراعة والرعي ، فلاحق سوء الطالع أهل السودان و اقترن ذلك ب( سوء إدارة الدولة) الذي لم يمهل السودان في أن يستكمل دورة النفط ،فخرج الريع النفطي كما دخل ، وترك وراءه مجتمعا في غاية من التشوه والفوضى والتفتت والتصدع أفقيا ورأسيا . لأن النقد الذي توفر خلال السنوات العشر الماضية، كانت فتنة ! والنقد( السيولة ) فتنة أصلا ( نحن ندرس لطلابنا في مادة السكرتارية بأن لا يترك أحدهم مبالغ نقدية في مرأى من أي شخص حتى أخلص ناس إليه ) فوجود هذه الأموال النقدية في متناول الحكومة ساعد على نشر ثقافة الفساد ( لاحظ جدل الطويل الذي دار حول حسابات عائدات النفط ) واستشري إلى الحد الذي أصبح " ثقافة عامة " تضع الجدلية " الشاطر " مقابل "السجمان " . كنت في منزل أحد علية القوم عندما حضر أحد الولاة السابقين وذكر أن بشرف على بناء بيته في( أمبدة ) ، وما أن غادر الرجل المجلس حتى تدفق سيل من التعليقات الشامتة والساخرة ( والي سابق ويبني بيته في أمبدة ؟)!! عوض أن يجد هذا الرجل الشريف المدح والثناء على عقته وطهارة يده - إذا أحسنا الظن فيه طبعا - بأن اختياره ذلك الحي الشعبي ليقيم فيه منزل أسرته. ففي ظل هذه الثقافة كثيرا ما تصاب الطغمة الحاكمة بحالة "ارتكاس داخلي" تنجم عن حيل الدفاع ، فتتجلى أعراضها على إنكار الواقع ومحاولة العيش في إطار جو مخملي كاذب لإبعاد قسوة الواقع والمآل المتوقع ، لذلك يكون اتخاذ القرارات المركزية بالاعتباطية والمزاجية حيث يقف المرء مبهوتا كيف لعاقل أن يتصرف هكذا ويصدر( قرار إعادة تقسيم ولايات دارفور ) وهو صنو قرار ضم دارفور إلى كردفان باسم ( الإقليم الغربي ) قبل نحو ثلاثين عاما والذي جوبه برفض أهل دارفور أذهل حتى الذي أصدره . ( لدينا دراسة حول مفهوم " غرب السودان "). لقد قرأت لأحد المفكرين -لا أذكر اسمه – إن " الفطرة الأولية " هي التي تقود القادة في الظروف العصيبة و يصبح تفكير (رجل الشارع)أفضل من تفكير هذا القائد ، أنظروا كيف تصرف كل من الرئيس العراقي السابق والزعيم الليبي السابق في أواخر أيامهما في الحكم ، كل منهما قاد نفسه إلى حتف أنفه بطريقة التي تفعلها النعاج بالضبط عندما يظهر الضبع أو الذئب (تشمم وتمشى خلفه ورأيت ذلك بأم عيني) ومن أفزع الأمثلة على التردي الاجتماعي المتجلية عن ثقافة الفساد ما حدثني به أحد الأخوة أنه شاهد لقاء مع أحد الوزراء الحاليين الذي ذكر علنا وبكل براءة أنه متزوج من ثلاث نساء ! والمذيع يسأله كيف تصرف عليهن براتبك ؟ وهو يجيب مبتسما !! منتهي الاستهتار والتهتك وموت الضمير و روح المسئولية والجدية والنزوع إلى المتع الحسية وإشباع الغرائز الفطرية ( الحيوانية )لأن أحساس الفرد باستحالة الاستقرار و الاستمرار على ما هو عليه يدفعه إلى الهروب والتعامي والانغماس في هذه الشهوانيات حتى بطريقة غير واعية لتنسيه مرتبات المآل الواعي به . إن اللجوء لأهداب الدين لتبرير من هذا السلوك الشائن لا ينقذهم ، و الدين منهم براء ،لأن المجتمع عندما يكون في حالة المرض بسود فيه (التدين المرضي ) أيضا يتمثل في ذلك الغلو والتطرف والتنطع والمغالبة والعودة إلى التصوف وخوارقه الفارغة ( لاحظ كم وحجم الخواتم التي تملأ أصابع المسئولين وهي كلها حروز من الدجالين من شيوخ التصوف بزعم إدامتهم في السلطة وليس ثمة فرق بين سلوك هؤلاء وأولئك من أفراد الحركات الذين يثقلون أنفسهم بالتعاويذ ( الحجبات )المكتتبة من المشعوذين من الفكوا (جمع فكي ) بدعوى أنها تذب الرصاص عن أجسادهم )! . فهذه كلها من مظاهر الخواء الروحي التي تلف الجميع في أوقات المحن والعاديات ولا علاقة لها بالدين الحق. علق أحدهم على مقال كتبته- بعد أن كال علي شتائم بلا ذنب جنيتها - قائلا " لماذا أنت هناك في المهجر تشقى وتبهدل نفسك ؟ لماذا لا تأتي إلى السودان وتأجر قلمك "للمؤتمر الوطني" أنهم سوف يعطونك أكثر من مما أنت تبحث عنه في الغربة " !! أعلم أنه كان يحاول السخرية من رأيي المعارض لرأيه إزاء الحركات التي ابتلانا الله بها في دارفور ، ولكن في العموم أن هذه هي الثقافة السائدة كل شيء قابل للإيجار والبيع والشراء، وهو نمط مألوف في التاريخ فالدول والإمبراطوريات والحكومات عندما تدخل خريف العمر تصاب بمثل هذه الأمراض على رأسها إجلال المتع الحسية بإقامة الحفلات الماجنة وشيوع المخدرات والمسكرات والمنكرات والرذائل والموبقات وتصاب القيم الراقية بالجفاف والتصحر ويتحول من في أيديهم السلطة إلى حالة صوتية بلغة خشبية ملئها النفاق والصياح والانتفاخ والنفخ الخارجي ( كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد ) في هذا الجو من الخواء تصاب القيادة بعمى البصيرة وتعتقد أنها تستطيع شراء كل شيء بالمال . جاءنا في مهجرنا هذا قبل عامين أو نحوه وزير (قيادي سابق في الحركات استوزر بعد اتفاقية أبوجا) واختلى بنا نحن طائفة من أبناء دارفور فقال لنا كلاما لا أدري كيف أنعته أهو استهبال منه أو كان مصابا بعمى البصيرة الذي ذكرناه ، في كل الأحوال ،أكد الرجل بكل ثقة بأن الجنوب لن ينفصل (!!) ، فقد أذاني هذا الكلام الفطير وسألته بشكل مباشر " السيد الوزير .. من أين يأتي هذا الانطباع الغريب ( الكاذب ).. وكل القرائن توحي بأن الجنوبيين سوف ينفصلون بنسبة 99% ) ؟ رد الوزير قائلا: يا أخي لأنك بعيد عن ارض الواقع فإن كثيرا من الوقائع غائبة عنك ، هل تعلم أن جميع القادة الجنوبيين بلا استثناء قد حصل كل منهم على مبلغ 500.000 دولار ( أجل خمسمائة ألف دولار ) من الحكومة وبني له بيتا في الخرطوم .. أنهم سوف يحرصون على مصالحهم المكتسبة ولن ينفصلوا أبدا . ومن المؤسف أن هذا هو الانطباع السائد في أوساط جل المسئولين عيشة إجراء الاستفتاء أي ما دام أننا تمكنا من شراء حفنة من القادة بالمال فإن الجنوبيين لن ينفصلوا و( ناموا عليه ) وعندما وقع الانفصال ووقع الفأس في الرأس.. رحبوا به عن يد وهم صاغرون .. بيد أنهم توهموا مرة أخرى على أن الجنوب لن يجرؤ على إغلاق آبار النفط ، وإلا عد ذلك ( انتحارا) كما قيل ، فإذا بالجنوب يأخذهم على حين غرة مرة أخرى ويعطل تدفق النفط بالكامل أو يكاد .. الآن حصحص الحق... وبهت الذي كفر ! . والغريب في الأمر أن الخدعة عينها قد انطلت على القيادات الشمالية في الحركة الشعبية وقد اعتقد هؤلاء البلهاء بأن (رفاقهم ) لن يتخلوا عن مشروع " السودان الجديد" ويتركونهم لقمة سائغة في يد " حكومة المؤتمر الوطني" وعتوا عن الحقيقة الماثلة بأن الفكرة قد قبرت مع مبتدعها ، وعندما قيل لهم (باي باي با مَندُوكُرو أبو أسود – يطلق الجنوبيون على الشماليين من غير أصول عربية مسمى " مندوكرو أبو أسود " -)! هرعوا إلى القرار الأسوأ ألا وهو العودة إلى الحرب فقد قاتل أبناء جبال التوبة عشرين عاما من أجل وَهَم أسمه " السودان الجديد "( لدينا دراسة مفصلة حول مفهوم " السودان الجديد ") ولم يحصلوا على أي سودان ، لا الجديد ولا القديم ، والآن تدفعهم هذه القيادات المغتربة وجدانيا إلى دورة جديدة من الحرب ،كأنَّي بهم يرومون فناء هذا الشعب المسكين . على كل حال ،هذا ما جناه الريع النفطي على السودان ‘ خلق لنا هذه "الطبقة المخملية" المصابة ب( الداء الهولندي)قوامها حاشية من النفعيين في قمتها الأقارب والأصهار والأنساب من هم في سدة الحكم ، وقد درجت القنوات القضائية السودانية على عرض فعاليات ونشاطات هذه الطبقة والإطلال بها إلى الخارج على أنها حالة المجتمع السوداني في مرحلة الانتفاع والاستمتاع بعوائد النفط (أنا لا أشاهد هذه القنوات على الإطلاق إلا أن أهل بيتي( سامحهم الله ) يقسرونني أحيانا بأن أمر عليها لماما ) وهي تعرض القبح على أنها جمال وذلك للتردي الذوق العام وتبشع الحياة في المظهر والمخبر ، فمثلا كلما أرادت أن ترمز (للتطور العمراني ) تعرض لنا تلك الكبسولة البشعة المسماة ( برج الفاتح ). ولكن بعض القنوات العربية مشكورة كثيرا ما تكشف لنا حالة "المجتمع الخلفي " التي تخجل منه القنوات السودانية وهو يمثل – أي المجتمع الخلفي - السواد الأعظم من أهل السودان الذين يكابدون الحالة الكنغولية. في تقرير بثته إحدى القنوات العربية ذكر أن هناك مئات أو آلاف المدارس في ولاية الخرطوم - نعم ولاية الخرطوم - يجلس فيها التلاميذ على الأرض !. زبدة القول أن هذا الاختلال الاجتماعي هو الذي يجعل النظام أكثر هشاشة أكثر من شن الحروب عليه من الأطراف وبخروج الريع النفطي يمكن التقرير بأن دورة الحكم السلطة القائمة حاليا قد انتهت وهي تعيش الآن برزق " اليوم باليوم " لأنها لن تجد مزيدا من المال لتجعله ترياقا ل "متلازمة عوز الولاء" وتلجأ إلى القليل المتوفر من موارد الأخرى على قاعدة " داويني بما هو داء" حتى تفرغ الخزينة تماما ، عندها لا مفر له إلا الرحيل . وخيبة التعدين الأهلي .. إنها خيبة كبرى وتعاسة ما بعدها تعاسة ، مساكين يركضون وراء السراب مدفوعين بهوس البحث عن الذهب ، مثلوا في واقعنا حقائق الأفلام التسجيلية التي تتحدث عن جماعات التنقيب عن الذهب والماس في الكنغو وسيراليون وحتى غابات الأمازون في البرازيل ، كيف أنهم يركضون وراء سراب الأصفر الرنان ويزدادون شقاء على شقائهم . كان الناس في شرق الاستوائية يلتقطون حبات الذهب كما يلتقطون الحصى كلما هطل الغيث وجرت الشعاب بسيل جارف ، رغم ذلك ظلوا على دوام أفقر الأنام على ظهر البسيطة ، حفاة وعراة لا يملكون حتى خرقا يسترون بها عوراتهم ، ولا شك أن كثيرا منكم قد رأي أهل الكنغو كيف أنهم يستخرجون كميات هائلة من الماس و لكن من سمتهم تكاد المسبغة تهلكهم . ومن الواضح أن الحكومة تحاول إلهاء الشعب وتدفعه نحو هوجة البحث عن الذهب وتبيعه سمكا في البحر ، لتصرفه عن التفكير بمطالبه الحقيقية . هذا الذهب الذي لم يعثر عليه الألباني محمد على باشا الذي غزا السودان خصيصا لهذا الغرض قبل مائتي عام إلا قليلا ، ولم يجده الانجليز الذي بقوا في السودان ستين عاما إلا سنتين . إن بث هذه تقارير المضللة مثل ذلك الذي يقول إن حكومة السودان قد صدرت ذهبا بقيمة (400 مليون دولار خلال ثلاثة أشهر ) هو من باب( الطبطبة والتطمين )للشعب بالقول إن خروج (الذهب الأسود) لن يترك آثار علينا، ها قد وهبنا الله صاحب الاسم الحقيقي ! والحقيقة المرة أنهم تسببوا بفعل ( الداء الهولندي ) الذي أصابهم في إطاحة ( الذهب الأبيض"القطن") عن عرشه ، حيت ترك المزارعون حقولهم وأهمل رعاة قطعانهم وركضوا مع الراكضين خلف الكنوز الوهمية ،ولا أدري ما شعور من بسمع خبرا مثل ذلك الذي أوردته قناة الجزيرة قبل يومين ملخصه : "ارتفاع أسعار القطن إلى أرقام فلكية بعد أن منعت الهند تصديره "!. ولا يظنن ظآن بأنني أنفي وجود الذهب في السودان ، بداهة الذهب موجود ، حتى لو حفرت في تربة منزلك سوف تجد الذهب ! وإنما العبرة في جدواه الاقتصادية مقابل تجشم العنت إلى هذا الحد والعواقب الصحية والاجتماعية من هذه الفوضى العارمة التي اكتنفت المجتمع ، أن بائسا قرويا يتحمل كل هذا العناء لأشهر عدة ليحوز في نهاية المطاف على جرام أو جرامين من التبر ، فمن الأيسر والأنفع له أن يرعى شاة أو عنزة تدر الحليب على أطفاله على الأقل. إن جزءا كبيرا من هذه الهوجة هو نتيجة لارتفاع أسعار المعدن الصفر إلى معدلات قياسية كما أن الفائدة النهائية تصب في جيوب حفنة من التجار ، وتعوض المجتمع المخملي بعضا من خسائره الناجمة عن اختفاء ريع النفط وقد يظهر رقما في الناتج القومي . ولكن من العسير إعادة مارد (الهوس بالذهب ) إلى قممه دون خسائر كبيرة من جراء تفاعلات "الخيبة الكبرى " التي تلحق بتلك الجموع الجائعة والعائدة من مناطق التعدين الوهمي وقد تنفقع ( (فقاعة ) ارتفاع سعر الذهب في أي وقت ، عندها سوف تفرع تلك الجموع جام غضها على السلطة وتنتشر الفوضى والجريمة والأمراض الاجتماعية والصحية ، وتتضخم معسكرات النزوح ومدن الصفيح -أو الكرتون بالأحرى- في أطراف المدن الكبيرة والصغيرة ، وينقلب السحر على الساحر ويتسع الفتق على الراتق !. أخبرني أحد اختصاصيين الذين أثق في قولهم أنه أعد دراسة علمية حول هذا الموضوع أي موضوع التعدين الأهلي وتوصل إلى نتائج مروعة حتى أنه استنكف عن نشرها من هول كارثيتها . إننا بالسجية ندرك مدى الخطورة التي تكتنف هذا النشاط و أقلاها الكوارث العاجلة من انهيار الخنادق على الحفارين وموتهم بالجملة وأخطرها العواقب الآجلة والمتمثلة في المضار الصحية بسبب استخدام مادة الزئبق السامة التي قد تتسرب إلى المياه الجوفية كما أكد ذلك أحد خبراء. ومنها تخريب البيئة والآثار وزيادة الفقر نتيجة لتعطيل الزراعة والرعي وزيادة الأمية والفاقد التربوي بسبب تسرب الأطفال والصبيان من المدارس. ورياح الربيع العربي .. بشأن عدم قيام الثورة في السودان رغم توفر ظروفها ،نكتت العرب على السودانيين كما لم ينكتوا من قبل ، ليتهم اكتفوا بالتنكيت فقط ،، بل انغمسوا في التبكيت أيضا ، حيث رموهم بكل شين ومذموم ولعل أدناها أذى فرية" الكسل" التي التصقت في عقول العرب واستحكمت فيها بصورة لا جدوى من أي محاولة لإزاحتها ، وقد انبري كاتب سعودي مخلص يرد على أولئك ( الأعراب) المتجنين حيث دبج المقالات وسود الصحائف لصد السهام عن السودانيين والذود عن حياضهم وذلك بعدِّ كريم خصالهم وإحصاء تمام شبمهم مقارنا بعوائد و طبائع العرب الذين ( ما أن ملكوا بلادا إلا وآل عليها الخراب ) حسب تقويم المرحوم عبد الرحمن بن خلدون ، أما السودانيين أنفسهم فقد اكتفوا - كعادتهم - بانفعالاتهم الوقتية والغضبات المضرية ، دون أي رد منطقي رصين( لدى الكاتب دراسة معمقة حول العيوب التركيبية في الثقافة السودانية التي توحي للآخرين بأن السوداني "كسول"). إن سبب عدم قيام الثورة في السودان قد مثله تماما موقف (السيدين ) المتمثل في ( رجل جوة ورجل برة )! ، هذا الموقف لم يأت اعتباطا أو اتفاقا (الأغبياء وحدهم يعتقدون ذلك ) ،إنما هو موقف مدروس بدقة لتكيف مع عواقب مآلآت تغيير الوضع الحالي ودرء أكلاف مفاجآت القوى المتحفزة للانقضاض ، ولا يتصورن أحد أن هؤلاء الأبناء قد تأخذوا القرار خارج سلطان آبائهم عندما عزموا المشاركة في السلطة الحالية . هذا الموقف يتساوق مع الاتجاه الكلي (للكتلة النيلية ). إن من يدرس سلوك "الكتلة النيلية" ،في المعارضة والمولاة ( بلغة أخواننا اللبنانيين ) ، ليس السلوك الظاهري البراني وإنما الباطني الجواني ( وهو المعيار الحقيقي لقياس الاتجاهات ) يجد أن هذه الكتلة مصابة بحالة رهاب (فوبيا ) غير مبررة - كطبيعة هذا الداء - من عملية التدامج القومي نتيجة للحراك الديموغراقي الذي تسارعت وتيرته مدفوعا بحروب الأطراف والأزمات الاقتصادية ، فعوض الترحاب والاستيعاب فكان هنالك الرفض والطرد والعزل . أنظروا لماذا زغردت النساء بشكل تلقائي عندما سمعن بنبأ مقتل المرحوم (خليل إبراهيم ) ؟، أنه أحد تجليات هذا الرهاب الداخلى الذي فاض مدفوعا بشحنة المكتنزة والمكتظة في اللاوعي ، أما رأيتم الانفجار الذي حدث عندما قيل أن الراحل العقيد جون قرنق قال أنه (يتوق إلى تناول القهوة من أيدي صبايا المتمة) وقد أيقظت تلك المقولة ( أو التقول ) المسكوتات الاجتماعية والتابوهات التاريخية المقمعة في الذاكرة الجمعية للكتلة النيلية مرموزا ب(حادثة المتمة ) قي نهاية العهد المهدوي ( لدى كاتب دراسة دقيقة حول عما جرى بالضبط في تلك الحادثة ‘ كما لدينا دراسة مفصلة حول "فوبيا الانقلاب الديموغرافي في السودان" ) إن هذا الرهاب تنزع إلى إغلاق النوافذ عوض فتح الآفاق والمسارات للتدامج القومي السلمي لأن الخوف أو الخواف ( عاطفة غير عاقلة ) كما يقول د.حسن الترابي. أن التغاضي عن/ أو الجهل بهذا المركب " السيكو-ثقافي " أو " السوسيو-تاريخي " هو الذي يجعل البعض يقف مبهوتا ويتساءل فاغرا فاه ، لماذا لا ينتفض الشعب وهو يعاني ؟ لماذا لا ينضم إلينا ناس شرق النيل وشمال كردفان وهم فقراء مثلنا ؟ والإجابة بسيطة ؛ هي أن هذه الكتلة ( في الحضر والبادية ) غير مقتنعة ب(البديل الجاهز ) إن كان " الحركات المسلحة " أو " الأحزاب الهرمة " أو " عفريت من الجن"!. هذا هو العامل الرئيس في عدم تأثر السودان برياح الربيع العربي كما يرجوه البعض فضلا عن عوامل ثانوية أخرى مثل انحدار بعض تلك الثورات العربية إلى الاتجاه الدموي ( ليبيا - سوريا- اليمن ) حيث أدى ذلك إلى تراجع زخم التحرك الشعبي في دول ذات حكومات شيبيه بتلك التي سقطت مثل( السودان والجزائر ) كما تم التوصل إلى تسوية ترضي جميع الأطراف في بعض الدول مثل ( المغرب ) ، ومنها عوامل داخلية مثل (تمييع ) النقابات و(تدجين ) الجيش ، لذلك نجد أن الحركة قد انحصرت على الأجنحة المنشقة عن الأحزاب المركزية وما تبقي من اليسار السوداني وقطاع الطلاب الذي اتسع بانتشار الجامعات والكليات والجماعات المسلحة قي الأطراف . السلطة الآن (نائمة ) على هذا الوهن إلا أن الطبقة الوسطى المنسحبة أو المنسحقة والتي ينتمي جزء كبير من أفرادها إلى (الكتلة النيلية ) سوف تقك الارتباط بالسلطة عند يحل الأسوأ ويعجز أفرادها في إطعام أطفالهم . وهي الفئة القادرة على (إنضاج المزاج العام ) وقيادة الجماهير على التغيير التي بإمكانها أن تجد مسربا عبقريا تتخطى به الكيانات سابقة السبك وجماعات العنف ، كما فعلت في أكتوبر 1964 ومارس- أبريل 1985 م لتحدث تغييرا سلميا . وبعد .. رب سائل يسأل: أليست الحركات المسلحة بمثابة تحدي رابع للحكومة ؟! أجيب ، وقلبي ملآن أسى ، أنه من المفارقة أن وجود هذه الحركات بساهم في إطالة عُمر الحكومة بدلا من التعجيل في رحيلها أو فناءها . وهي حركات وهمية في مجملها ، غير موجودة حتى على مستوي القرى ، وإذا كانت هنالك ثلاث سيارات أو ست أو حتى عشرة تجوب البراري وتخب عباب الفيافي وتروع المواطنين وتفرض عليهم إتاوات أو حتى تنهبهم ، وتعتقل قوات ال( يوناميد ) ، وترى الفيل وتطعن في ظله ، ما هي الخطورة التي تشكلها مثل هذه الأسراب المسرعة على الحكومة ؟ ، بعد تمرد ناهز عمره الآن على تسع سنوات لم تنتصر هذه الحركات إلا في معركتين يتيمتين هما "كارياري " على الحدود التشادية و"كُلكُل " شمال الفاشر ، وكلتاهما في عام 2005 م ، ولا تصدقوا المزاعم الكاذبة على أنها انتصرت في معركة ( ديسة ) و(أبوقمرة ) و( كُتم ) ... الخ فقد خسرت الحركات كل هذه المعارك وخرجت منها وهي تجرجر أذيال الهزيمة و لم يكن هناك أي انتصار ، وهي جماعات مهزومة أبدا ، فمثلا الهجوم على (كُتم ) كان محض فرقعة مثل فرقعة (مطار الفاشر ) وإلا إن الذي ينتصر في مدينة حصينة طبيعيا مثل كتم لماذا يخرج منها في اليوم التالي للمعركة؟. باختراق الهالة الوهمية الخارجية لهذه الحركات ونفاذ إلى عمق بنيتها التكوينية نجدها جماعات بسيطة و ساذجة إلى حد لا يصدق ، مبررها الأخلاقي الوحيد –أعني روح التعبئة الداخلية - هو الانتماءات الأولية من قبيل وعشبر، يقودها قيادات يمكن تصنفيها إلى أربعة نماذج ، النموذج الأول هم ممن تتقمصهم (روح المغامرة ) .وتراودهم أحلام أكبر من طاقتهم . والحق أقول أنهم ربما كانوا مخلصين فيما يغامرون عليه .. ولكن المغامرة مثل المقامرة ( بالقاف ).. قد تصيب أحيانا بيد أنها تخيب كثيرا.. فالطائفة الثانية هم ذوي (المصلحة الذاتية ) وأكثرهم يأتون من بيوتات الإدارة الأهلية ، حيث تجد الأخ في الحكومة و الشقيق الآخر في الحركات ( نفس موقف السيدين)، أنها عميلة توزيع للأدوار بغرض المحافظة على مصالح ( العائلة الحاكمة ) ! .. و الفئة الثالثة هم من ذوي (النزعة الانتهازية) وغالبهم من المغتربين الذين (وضبوا) أوضاعهم -(بناء منزل حديث والتحاق الأبناء بالجامعات أو حتى تخرجهم )- وعندما أوشكوا على التقاعد في مهجرهم ، قرروا العودة وتجريب ممارسة السياسة فيما تبقى من العُمر ، نقول ( تجريب ) لأن معظمهم ممن لم يُعرف لهم أي نشاط سياسي في مرحلة الدراسة الثانوية أو الجامعية ، كانوا منكبين ومجدين في تحصيلهم العلمي فقط .أما النموذج الرابع والأخير فيتكون من الذين تقودهم ( غضبة المفاصلة ) أكثر من قناعتهم بجدوى الحرب ، لذلك تجدهم يتساقطون ويعودون القهقرى إلى ( النادي الكاثوليكي ) مرة أخرى أو يلتحقون ب(منبر الدوحة ) على الأقل ، وأكثرهم من قيادات جماعة ( العدل والمساواة ) . وحتى لا نغمط حقوق آحاد الخيار من الذين جرفهم التيار (هوجة تأييد الحركات ) في سنواته الأولى بخاصة ، فإنني استثني من قاعدة هذا التصنيف بعض الأفراد الجادين ، وأصحاب المبادئ والمشاريع ، من أمثال أخي( ترايو أحمد محمد علي)، وهو رجل فكر ونضال حقيقي .. ربما اعتقد أنه يستطيع توصيل (رسالته) وتحقيق مبادئه ،عير قناة هذه الحركات ، ولكن من الواضح أن القدم قد زلت به إلى المربع الخاطئ ( والغريب أنهم ذروه بقي هناك حتى الآن ، لأن المعروف عن ماعون الحركات أنه لا يسع ذوي القدرات من هذا العيار ، دونكم عملية الإقصاء المتعمد التي تعرض لها الأخ د. شريف عبد الله حرير والذي تولى كبره بعض من الذين علمهم كيف يخطون خطواتهم الأولى في هذا الطريق والأغرب أن هذا الإقصاء قد تم بدعم وإسناد من " حكومة المؤتمر الوطني "! لدينا ما يثبت ذلك) . صحيح تماما أن خروج الريع النفطي سوف يؤثر تأثيرا بالغا على الإمداد والتموين والتسليح (الجيش السوداني ) ولكن- كما رأينا في حرب/ حروب الجنوب - كثيرا ما اعتمد هذا الجيش على "الطاقة الاجتماعية " و"التغذية الثقافة " أكثر من العدة والعتاد ، كما أنه حافظ على بنيانه من الانفراط في حالة دارفور ، حيث لم ينضم أي ضابط في الخدمة ، ولو برتبة ملازم ، من أبناء دارفور إلى الحركات ( جاء بعض الضباط من الجيش التشادي ) بعكس من حرب الجنوب عندما انضمت حاميات بكاملها إلى حركة التمرد . وسبب ذلك ، فيما نظن ، يعود إلى أن القناعة العامة لدي كثير من القطاعات الفاعلة في وسط أبناء دارفور هي أن هذه ال " أم كواك" أقرب إلى الهزل منه إلى الجد ، رغم أن بعضا من الضباط المتقاعدين أو المسرحين من أبناء دارفور قد لحقوا بتلك الحركات ، كحالة الضابط العملاق الأخ (جابر محمد حسب الله ) . في صيف عام 1999 م كنت في جوبا في مهمة رسمية ، وكانت مدينة كلها تتحدث عن البطل المغوار المقدم جابر محمد حسب الله ، الذي قاد قوة من المفترض أن يقودها (عميد) في الأعراف العسكرية إلى مدينة كبويتا في شرق الاستوائية وأنجز بها مهمة مستعصية دون أن يخسر ولا جندي واحد ، وكانت المهمة إحضار مركبات محتجزة في تلك المدينة منذ سنين ، وتوصيل المؤن إلى الحامية برا ولأول مرة. وأذكر أنني كلما انتهي من دوامي اليومي كنت أذهب إلى دكان خالي في سوق (كنجو كنجو ) – الذي احترق قبل أيام - وتعرفت هناك بطيار من أبناء دارفور اسمه( محي الدين) وأبلغني ممن يعرفونه أنه أمهر من قاد الطائرات السمتية ( الحوامات ) ،وكان بحكي لي عن مغامراته لتوصيل المؤن للجند في الحاميات المعزولة ، فقد علمت فيما بعد أن هذا الضابط الرائع قد سجن مع زميله العقيد جابر عند ما ( لفق )لهما تهمة تدبير انقلاب ومكثا في السجن سنين عددا ، أضع مفردة (لفق )بين مزدوجين ربما كانت المحاولة حقيقية ليس لدي معطيات كافية حول هذه (المحاولة الانقلابية ) وربنا كان القائمين بها مدفوعين ب "الضغط الاجتماعي" الكثيف في بدايات ال(أم كواك ) ، وتمخض جبل مرة الذي ولد لنا فأرا من نوع ( الكديدية ) !! ، وقد شاعت في ذلك الحين عددا من المقولات والتقولات من جنس (أنظروا إلى هؤلاء ؛ أهلهم وذووهم يقتلون ، وهم يعملون مع "حكومة المؤتمر الوطني")! . فقد ساير بعض من ذوي العاطفة الجياشة هذه "الذهنية الشعبية " أو " ذاكرة العوام " وما دروا أن "ذاكرة العوام لا تدوم أكثر ثلاثة أعوام )! وأن 90بالمائة من بيانات هذه الذهنية ، مضللة ومختلطة ومشوشة ، وقد أفضت المسايرة إلى عواقب وخيمة منها ها نحن أولا قد أضعنا ضابطين عظيمين . ولا أدري أين الطيار (محي الدين) الآن أما (العقيد جابر ) فقد علمت أنه لحق بأولئك ( الجنود من الرعاع ) (هذا الوصف ليس من عندي وإنما لصحفي واضح من اسمه أنه أرمني زار أحد معسكرات التمرد في دارفور وكتب مقالا تحت هذا العنوان لصالح إحدى الوكالات وأعادت صحيفة "الخليج " الإماراتية نشر ترجمة منها ) ، كم حزنت عندما علمت أن هذا الضابط الشهم قد التحق بتلك الشراذم المفتتة . و قد صرخ القاضي السابق والمحامي حاليا الأستاذ بارود صندل رجب مرة ،عندما هاله تكاثر الحركات كالفطر، قائلا : ( أين العقيد جابر؟ لماذا لا يجمع شعثهم ؟)!! ...إنها صرخة في وادي العبقر .. ولا حياة لمن تنادي يا (مولانا)! .. نرى الآن تجمع وتجميع بعض الأشتات في جنوب كردفان وللقتال بطريقة الحركة الشعبية العتيقة ، أي الهجوم على مواقع (الجيش السوداني) بحشود كثيفة ، هذا التكتيك عال كلفة في العدة والرجال ، خاصة إذا علمنا أن الحركات تعاني أصلا من نضوب مصادر التجنيد( لجأت في الآونة الأخيرة إلى التجنيد القسري كما فعلت "العدل والمساواة "مع منقبي الذهب ). إخوتي.. كلمتي الأخيرة لكم .. أن لا طائل من وراء المزيد من الحرب ، ضعوا (تكوا) السلاح جانبا ، بل أحرقوا تلك البنادق اللعينة ، وتحولوا إلى أحزاب سياسية مدينة ، حينها سوف نكون في صفوف جندكم الأمامية حاملين أسلحة قد تكون أمضي من ( الكلاشتكوف ) ولكنها لا تفتك بأحد ولا تزهق الأرواح المقدسة وهي الوسيلة الأنجع وذات الكلفة الأقل لإسقاط " حكومة المؤتمر الوطني " . إن عمودا القوة الآن يا أخواني هما : المعرفة والثروة ، لا السلاح ولا الشجاعة الفطرية أو العنترية تجعلك قويا ،لذلك فأقول لمن ينتسبون إلى هذه الحركات .. عودوا إلى مدارسكم ومعاهدكم ووظائفكم، وافتحوا متاجركم، وارعوا أغنامكم، واعتنوا بمزارعكم وعلموا أولادكم وبناتكم... وجدوا وثابروا واصبروا عليها .. وهو السبيل الوحيد لتحقيق مآربنا وطموحاتنا الشرعية ، أما (القتال المحض ) ولله والله سيذري بنا حتما إلى قاع لا قرار له ، ولن نحصد في خاتمة المطاف إلا الحصرم ولن نقبض إلا الريح .. ومن يعش يرى. . وإن غدا لناظره قريب. (لدى الكاتب دراسة مفصلة عن " نشأة وتطور الحركات المسلحة في دارفور " ودراسة أخرى حول "الجيش السوداني ").