مباحثات"سودانية_ إيرانية" في نيويورك    بيان رسمي باسم اتحاد أروما الانتقالي وجميع أندية أروما    عثمان ميرغني يكتب: كامل.. ماذا يقول للأمم المتحدة؟    إبراهيم جابر يتعهّد بالتزام الحكومة السودانية    الفريع الأهلي يكسب خدمات مدافع السهم الدامر    إتحاد بربر يجري قرعة الدوري المحلي اليوم    كامل إدريس في الأمم المتحدة    "اليونيسف" تدين مقتل 11 طفلاً في هجوم الدعم السريع على مسجد الفاشر    ديمبلي يتوج بالكرة الذهبية لعام 2025    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاتنين سودانيتين يثرن ضجة إسفيرية غير مسبوقة ويتبادلن "القبلات" الساخنة بطريقة مثيرة على الهواء والغضب يجتاح مواقع التواصل    تكليف مجلس تسيير لاتحاد الالعاب المصغرة الوليد بكسلا    شاهد بالفيديو.. الفنانة هبة جبرة ترد على التيكتوكر المثيرة للجدل "جوجو": (شالت الكرش وعملت مؤخرة ورا ورا ويشهد الله بتلبس البناطلين المحذقة بالفازلين)    شاهد بالفيديو.. الحرب تشتعل مجدداً.. المطربة عشة الجبل تهاجم زميلتها هبة جبرة: (نصف الشعب عرفك بعد شكلتي معاك.. شينة ووسخانة وأحذرك من لبس الباروكة عشان ما تخربي سمعتنا)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هبة جبرة ترد على التيكتوكر المثيرة للجدل "جوجو": (شالت الكرش وعملت مؤخرة ورا ورا ويشهد الله بتلبس البناطلين المحذقة بالفازلين)    شاهد بالصور.. الفنانة ندى القلعة تصل القاهرة وتحل ضيفة على أشهر الصحف المصرية "في حضرة الكلمة والصحافة العريقة"    الهلال والجاموس يتعادلان سلبيا والزمالة يخسر من ديكيداها    اللجنة المالية برئاسة د. جبريل إبراهيم تطمئن على سير تمويل مطلوبات العودة لولاية الخرطوم    شاهد بالفيديو.. ظهر وهو يردد معها إحدى أغنياتها عندما كان طفل.. أحد اكتشافات الفنانة هدى عربي يبهر المتابعين بصوته الجميل بعد أن أصبح شاب والسلطانة تعلق    من سيحصد الكرة الذهبية 2025؟    كندا وأستراليا وبريطانيا تعترف بدولة فلسطين.. وإسرائيل تستنفر    ترمب .. منعت نشوب حرب بين مصر و إثيوبيا بسبب سد النهضة الإثيوبي    وزارة الطاقة تدعم تأهيل المنشآت الشبابية والرياضية بمحلية الخرطوم    "رسوم التأشيرة" تربك السوق الأميركي.. والبيت الأبيض يوضح    مياه الخرطوم تطلق حملة"الفاتورة"    ليفربول يعبر إيفرتون ويتصدر الدوري الإنجليزي بالعلامة الكاملة    شاهد.. ماذا قال الناشط الشهير "الإنصرافي" عن إيقاف الصحفية لينا يعقوب وسحب التصريح الصحفي الممنوح لها    بورتسودان.. حملات وقائية ومنعية لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة وضبط المركبات غير المقننة    10 طرق لكسب المال عبر الإنترنت من المنزل    جرعات حمض الفوليك الزائدة ترتبط بسكري الحمل    الأمين العام للأمم المتحدة: على العالم ألا يخاف من إسرائيل    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محطة "هجليج " والطريق إلى "حرب الفقراء " الثانية! بقلم أبو البشر أبكر حسب النبي

في عام 1994م اندلعت حرب شاملة بين أثيوبيا والدولة المنفصلة عنها حديثا ارتريا لخلافات حول الحدود ، وأطلق عليها المعلقون (حرب الفقراء ) وكان وصفا دقيقا للغاية لأن الهضبة الأثيوبية وسواحل البحر الأحمر الغربية تعتبر تاريخيا بمثابة الموئل الأساسي لأشد أنواع الفقر والعوز في العالم ، حتى أن العرب نحتوا من ذلك أمثالا سائرة كقولهم ( فقر زيلع وكبرياء مكة ) - و (زيلع ) بلدة ذات صيت تاريخي على الشاطئ الغربي للبحر الأحمر ضمن حدود دولة ارتريا الآن - و( أذل من مسلمي الحبشة ويهود اليمن ).. الخ ، كانت حربا بين حلفاء نضال السابقين ( الجبهة الشعبية لتحرير تقراي والجبهة الشعبية لتحرير إرتريا ) وقيادة كلتا الجبهتين من( البيت التقراوي ) الذي ظل يتناوب الحكم مع (البيت الأمهري) في الهضبة الأثيوبية منذ قرون ، ولم يشفع لهما هذا النضال المشترك والعرق المتصل في أن يخوضا أحد أشرس الحروب في أفريقيا ، وأكثرها دموية و إنهاكا للمتحاربين .
لم تسقط الحكومتان من جراء نتائج الحرب الكارثية ، و لكنهما أصيبتا بحالة من الوهن انعكست على الأوضاع الداخلية لكلا البلدين، خاصة دولة ارتريا التي أصبحت منذ ذلك الحين دولة معزولة ومنبوذة ومغضوب عليها من الجميع ، حتى أنها سجلت هذا العام كأسوأ دولة في العالم في مجال الحريات ، حيث تفرغت الحكومة الارترية لقمع شعبها بأشد درجات التنكيل ، ولا ترنو إلى الخارج إلا إلى الفضاءآت التي تظهر فيها أثيوبيا لاعبا لتعبث فيها كما هو الحال في الفضاء الصومالي.
وها نحن اليوم نشهد بوادر (حرب الفقراء ) الثانية هذه المرة بين جمهورية السودان ودولة جنوب السودان المنفصلة عنها قبل أقل من عام ، والسبب أيضا الخلاف حول الحدود ، نجم عنه (دخول) قوات الدولة المنفصلة إلى (هجليج ) ( التابعة ) للدولة الأم ، و( الخروج ) منها أو ( إخراجها) لا يهم ، المهم أن الدولتين لا تقلان فقرا عن أثيوبيا وارتريا .
فقد أظهرت عملية (الدخول ) و( الخروج ) من ( هجليج ) الحقائق ( الظاهرية ) التالية :
أولا : عسكريا
يتضح لنا جليا من وثبة (الدخول ) المباغتة و (الخروج ) المنظم أن الحركة الشعبية قد تمكنت من نقل جيشها من (خانة) قوات ( حركة تمرد) إلى مربع (جيش محترف) خلال سنوات الفترة الانتقالية ، وقد دلت هذه العملية على أن هذه القوات قد خضعت لعمليات تأهيل وتدريب عالية ، ونحن نعلم أن هنالك برنامج دعم علني تقدمه بعض الدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي المقابل ، فقد أثبتت الأحداث أن ( الجيش السوداني) ما زال جيشا مهلهلا واطئ الكفاءة ، و يفتقر إلى كل شيء ، ويعتمد –كعادته- على الحشد والتعبئة والاستنفار من خلال ( المدد الاجتماعي ) و ( الرفد الثقافي ).. ويعيد إنتاج سلوكه العتيد والرديء المتمثل في إقامة احتفالات لانتصارات وهمية حتى تأخذه الحركة الشعبية على حين غرة مرة أخرى ، هذا ما كان يحدث في حرب الجنوب الطويلة بالضبط ، حيث كلما استعاد الجيش بلدة صغيرة يظل في حالة احتفال وحبور ورقص حتى يتلقى ضربة أشد إيلاما في منطقة أخرى .
ولغياب أي فكر استراتيجي في العقيدة القتالية لهذا الجيش نجدها حتى أن توفرت المعلومات والمعطيات بين يديه لا يستطيع التصرف فيها ( يعزى جزء من هذا العجز إلى سمة "التكويش "في الثقافة السودانية التي تنفر من التحليل والتدقيق البيانات المتوفرة ) ، مثال على ذلك أنه قبل يومين من إغارة جماعة (العدل والمساواة ) على أم درمان ، ذكر الناطق باسم الجيش أن تلك الجماعة تخطط ل(غزو العاصمة ) ولكن الجيش عجز تماما في أن يضع أية احتياطات لمنع الغارة وينسحب الأمر نفسه على قيادة الحركة نفسها –أنهما يوردان من نفس المصدر- التي أصرت على دخول أمدرمان رغم انكشاف خطتها. كان رئيس دولة الجنوب قد ذكر أنه قد دخل (هجليج) أو يريد الدخول إلى هذه المنطقة ، إلا أنهم سفهوه إلى حد نعت هذا الكلام ب( الفضيحة ) . وأثبت الأيام أن الرجل يعني ويعي ما يقول .
ثانيا : سياسيا
قد أوضحت طريقة إدارة الأزمة تباينا كبيرا في منهجية البلدين في التعامل مع مثل هذه القضايا كبيرة ، حيث اتسمت طريقة حكومة دولة الجنوب بالحنكة والعقلانية وهدوء الأعصاب وتقليل من زلات اللسان والمفردات غير المنضبطة ، ولم ألحظ مثل هذه الزلات إلا لمرة واحدة عندما ذكر أن رئيس دولة الجنوب أنه قال لأمين عام الأمم المتحدة- عندما طالبه بالانسحاب من (هجليج) - ( أنا لست موظفا عندك ) !
ولكن خطاب حكومة جمهورية السودان لم يكن مأسويا فقط بل كان (فضائحيا ) ومترعة بكل شين وقبيح ، قالوا أنهم(أعطوا الدرس لعدوهم ) ولكن الحقيقة البسيطة أنهم (لم يتعلموا الدرس) من عواقب زلات الحديث الانفعالي المرتجل أو ما أسماه الصحفي فيصل محمد صالح بحديث (غير المنضبط ) إن أطلاق كلمة ( الحشرات ) مثلا على البشر مهما كانت حدة العداوة بينك وبينهم سينقلب أذاه على قائلها أكثر من أراد احتقارهم وقد اعتمد السيد لويس مورينو أوكامبو نفسه في كثير من بياناته على هذه الأحاديث المترجلة وظل يكرر عبارة (رفعوا التمام ولا نريد أسري ) كدليل عيني على جريمة حرب .
ربما المكسب السياسي الوحيد لحكومة جمهورية السودان هو التعاطف اللحظي الذي تلقاه من بعض قطاعات المجتمع من خلال عملية الحشد التعبوي بالطرق على وتر (رد وردع العدوان الأجنبي) ولكن لا يعدو ذلك كونه تعاطفا وقتيا سوف يخبو مع تلاشي أصوات طبول الحرب.
أما موقف حكومة جنوب السودان في إطاره الدولي فكان ضعيفا للغاية ، وذلك أنه و طبقا لقرار التحكيم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية تعتبر ( هجليج ) أرض شمالية ، هو الأمر الذي أضعف حجة دولة الجنوب في (دخولها ) ومع ذلك لم بجد الشمال أي سند أو دعم عالمي لموقفه باستثناء بيان يتيم صدر عن أمين عام مجلس التعاون الخليجي.
ثالثا : اقتصاديا
إن توقف تدفق النفط لفترة أطول من التي مرت ، تعد كارثة حقيقية خاصة لدولة الجنوب ب ، لأن أي موارد احتياطية ادخرت لمثل هذه المواقف سوف تنضب ، كما أن المانحين لا يمكنهم الاستمرار في الصرف على الجند ليواصلوا القتال ، لأن الجنوب دولة كاملة السيادة وليست كيانا هلاميا مثل ( السلطة الفلسطينية ) التي (تعيش )على المعونات منذ (ولادتها ). فمن الواضح أن الهدف من( الدخول) إلى ( هجليج ) هو حرمان الخرطوم أيضا من عائدات هذا المورد وهي وثبة تكسب حكومة جنوب السودان تعاطفا شعبيا كبيرا في بداياتها ، ولكن مناط الخطر في مثل هذا التعاطف هو ( نَفَسَه ) القصير ، لأن الجموع عندما تجوع - والجوع كافر – لا تعتد بمثل هذه المثاليات وقد تنقلب إلى الضد ،فيجب أن لا نفاجأ إذا رأينا في المستقبل القريب يافطات من شاكلة (خليهم يسرقوا ويعطونا الفتات لنبقى على قيد الحياة ) ، ولا ملجأ لحكومة جنوب السودان إلا إنصات لمثل هذه الأصوات أو تتحول إلى سلطة بوليسية قامعة مثلما هو الحال في ارتريا . إذا بدون تدفق النفط سيكون الوضع صعب جدا بالنسبة لدولة الجنوب ،وقد اعترف رئيسها بذلك لقناة الجزيرة الانجليزية عندما قال : ( اقتصاد جنوب السودان سوف ينهار إذا لم تحل معضلة تصدير النفط ) .واعتقد أن زيارته الأخيرة إلى الصين هي أساسا لحلحلة هذه العقدة .
أما في الشمال فأن خروج( الريع النفطي ) الأساسي قد أربك الوضع الاقتصادي أيما إرباك وجاءت حادثة ( هجليج ) لتقضي على إي أمل في التعافي والوضع القائم حاليا شيبه للغاية لحالة أثيوبيا ما بعد الحرب ، حريات شكلية وحزب حاكم يستأثر بكل شيء .
و من سوء حظ الدولتين أن الحقول النقطية تقع مباشرة على مناطق النزاع، فلا شركة تغامر و تدفن أموالها في منطقة متوترة إلى هذا الحد إلا بعد إبرام اتفاق حقيقي بين البلدين بضمانات عدم العودة إلى التوتر . إن عقدة العقد هي موضوع البترول ، القضايا الأخرى يمكن أن تتحمل التسويف والتطويل ، إلا قضية النفط ، فهي مسألة موت أو حياة لكلا البلدين ، وحل هذه العقدة يكمن في قبول حكومة السودان برسم عقلاني للعبور والخدمات ، عندها فقط يمكن تفادي (حرب فقراء ) شاملة ومدمرة .
قد اسمينا الحقائق السابقة بأنها (ظاهرية ) ، إذا ؛ ما هي الحقائق( الباطنية ) المعادلة لها ؟
في جل المقالات والتعليقات التي قرأتها خلال الأسبوعين الماضيين حول حادثة ( هجليج) لم تخرج أيا منها عن (مع) هذه الحكومة أو( ضد ) تلك ، والمعالجات نفسها كانت كلها على طريقة السودانية ( جعجعة بلا طحن ) صراخ وعويل ولطم الخدود وشق الجيوب والابتعاد كليا - أو النفور في الحقيقية - عن التنقيب في الكوامن الاجتماعية والثقافية للمعضلة ،فقي هذا الجزء من المقال نحاول الرنو على المشكل من هذه الزاوية .
في يونيو عام 1998(تقريبا ) كنت في مدينة( أويل) عاصمة ولاية شمال بحر الغزال ، ضمن وفد حكومي ، في أحد الأيام دعانا القائد العسكري للمنطقة ( الذي كان برتبة عميد ويشتكي من أن قوته التي من المفترض أن تكون لواءا ( ثلاث كتائب ) أقل من كتيبتين ) لأخذ جولة على (الدفاعات) حول المدينة ، وطفقا تنتقل من( حفرة ) إلى حفرة وهي حفر بدائية بائسة و ساذجة ومتباعدة يقبع بداخل كل منها جندي من أبناء الولايات الجنوبية مع رشاش عتيق من نوع ( دكتريوف )أو( قرنوف ) كأحسن سلاح ، وكل الأمارات تدل على أن الأمد قد طال بهم في هذه الحفر وتكيفوا معها لدرجة أن كل منهم قد بنى له (قطية )في تراب( الخندق ) -حسب تسميتهم - وكانت زوجة أحد الجنود تطبخ داخل إحدى القطيات !!. وكان بالقرب من مقر إقامتنا (رئاسة سلاح المدرعات) ولكن ليس بها إلا دبابة روسية عتيقة من نوع (تي 55 ) مع عربة همر أمريكية من بقايا التي جلبها السيد الصادق المهدي عندما كان رئيسا للوزراء .
فقد احتواني الحيرة وتملكتني الدهشة وسألت مدير أمن المدينة/ الولاية – والذي كان بالصدفة خريج علوم سياسة وملما ببعض الأبعاد الثقافية والاجتماعية للوضع - قائلا له :ما الذي يمنع قائد الحركة الشعبية القوى (مالونق) الذي قيل لنا أنه يعسكر بقواته الكثيفة خلف التل الذي نراه بالعين المجردة من أن يحتل المدينة خلال ساعات ؟
رد بقوله : السبب هو أن الكوماندور ( مالونق ) أكثر وعيا وعقلانية من القائد الجنوبي المنشق عن الحركة الشعبية (كاربينو كوانين بول) الذي غزا المدينة قيل زيارتكم ببضعة أشهر ، وتم إخراجه في أقل من يومين ، بل خرج بطوع إرادته عندما علم أن( المراحيل) قد أصبحوا على بعد مسافة ساعتين من المدينة ، حيث ولى هاربا لا يلوي على شيء . إذا يجب أن نروي قصة (دخول) و(خروج )من (هجليج ) من هذا البعد الثقافي / الاجتماعي .
طوال سنوات الحرب العشرين ،كلما شعرت حكومات الخرطوم المتعاقبة بخطر عبور قوات الحركة الشعبية خط ( الفاصل الحضاري) - الذي يسمونه بمناطق التماس - استنفرت قوات (المراحيل ) - وهو المصطلح المعادل لحلف (الجنجويد) في دارفور - لتنحدر بخيولها إلى تخوم هذا الفاصل في بحر يومين وتدحر أي قوات معادية تعبر هذا الخط .فقد شرحنا في دراسة لنا سابقة مدى الرعب الذي يحدثه هذا الحيوان ( الحصان ) في قلب الفرد الجنوبي نتيجة لتراكمات تاريخ طويل من الصراع استخدم فيه الشماليون الخيول من لدن عهد الاسترقاق وحتى تاريخ اليوم . لقد ذكر عالم حشرات الألماني (أمين باشا) الذي عينه الخديوي إسماعيل مديرا لمديرية خط الاستواء قبيل اندلاع الثورة المهدوية قي مذكراته أن سلاح ظهور الحصان كان أقوى من إطلاق قذائف المدافع على القبائل المتمردة - بحكم أنه عالم حشرات تمكن من المحافظة على حصانه لأكثر من عام في بيئة لا يعيش فيها هذا الحيوان - كما يذكر الزبير باشا الجميعابي هذا الدور المركزي للحصان في حروبه مع القبائل الخارجة عن سلطة ( دولة البازنقر ) التي أسسها في بحر الغزال .
ويبدو أن بعض( المخططين ) في الجيش السوداني كانوا واعين بالدور السحري لهذا الحيوان في (حرب الجنوب ) ولكنهم عجزوا تماما عن توظيفه فيما وراء الفاصل الحضاري ، ونسبة عدم فقهم للمعطيات البيئية والمسلمات الجغرافية البسيطة قاموا قي منتصف التسعينات من القرن المنصرم بمسرحية مضحكة بأن جلبوا الخيول مع فرسانها بالطائرات إلى جوبا ( بدون أي عالم حشرات !! ) وانقرضت الخيل في بحر أقل من الشهر!.
كانت عميلة تسيير ( قطار السلام ) من (المجلد) إلى ( واو) في بعضها تفاصيلها تومئ كأن حركة التاريخ عندنا متوقفة عند بواكير القرن العشرين ، رحلة تستغرق أحيانا أكثر من ثلاثة أشهر ، قطار طويل يحرسه طابورين من الخيالة ، من الميمنة والميسرة ، لكل فارس وحصان راتب مضروب وتعويض معلوم في حالة موت الفارس أو نفوق الحصان أما الغائم والأسلاب فليس للحكومة إلا الأسلحة الثقيلة والمتوسطة .
البعض منا يتعالي على هذا الواقع ( البدائي ) ويركب رأسه ويكرر الخطأ تلو الآخر ، فكثيرا ما كررت القول بأن أكثر الأخطاء التي ترتكبها الحركات المسلحة في دارفور ناجمة عن عدم فقهها للواقع الاجتماعي والثقافي في السودان أو التعالي عليه ، فمثلا عندما كانت جماعة (العدل والمساواة) تحاول نقل الحرب إلى شمال كردفان كنت أضع يدي على قلبي وأدعو ربي مخلصا بأن لا تقوم الحكومة باستنفار قبائل شمال كردفان القوية مثل ( الكبابيش ، والهواوير ، والكواهلة ) وتسلطها على دارفور وتدخل في (حلف الجنجويد ) ولكن الله سلم ولم تفعل ذلك حتى الآن على الأقل .
في عام 1916 عقب سقوط سلطنة دارفور ، وعندما سمعت العناصر الصحراوية وعلى رأسها قبائل التبو / القرعان وبقايا السنوسيين الذين كانوا يتعرضون للضغط من الطليان في الشمال والفرنسيين من الجنوب ، بهزيمة السلطان القوي على دينار ، انحدرت إلى دارفور بقيادة زعميها (محمد آرمي ) وأخذت تعيث فسادا في الأرض ، وكانت قوة حملة دارفور منشغلة بطاردة السلطان الهارب ، وغير قادرة على كبح جماح العناصر الصحراوية . هنا خطر على ذهن السكرتير الإداري (اسلاتين / سلاطين باشا ) – الذي يتبع له قلم المخابرات – فكرة (عبقرية ) مؤداها : ( لماذا لا نسلط العشائر العربية على العناصر الصحراوية ) وعلى الفور استدعى زعيم قبيلة الهوارير في شمال كردفان- ( هنا قد سأل بعضكم لماذا الهوارير وليست الكبابيش أقول لأن قبيلة الكبابش في ذلك الوقت كانت خاضعة لبرنامج (إعادة التأهيل ) بعد الدمار المهدوي وهو برنامج حكومي حقيقي حتى أن الجنرال كلي بك قائد حملة دارفور عندما صادر قطيع الإبل الخاص بالسلطان على دينار (ثلاثة آلاف رأس ) باعها في مزاد علني لم يدخله إلا الكباشي !! مقابل رسم إبل الحملة المستأجرة منهم !!) - جاء زعيم الهواوير إلى الخرطوم واجتمع بالسكرتير الإداري ( محضر هذا الاجتماع متوفر في دار الوثائق القومية لمن يطلبه ) عندما عرضت عليه الفكرة قال : ( بالحيل ! فقط أعطني مالا وسلاحا سوف أتي إليك بمحمد آرمي مخفورا ) ، بالفعل أخذ مالا وسلاحا واستنفر قومه ولاحق القرعان حتى اختفوا في( قراقير) جبال التبستي وقفل عائدا بالأسلاب والغنائم .
يقيني أن ما دفعت دولة الجنوب بسحب قواتها من (هجليج ) هو " الحصانوفوبيا " ! لا أكثر ولا أقل ،وإن الذي هزمت الحركات في دارفور هو (حلف الجنجويد ) وليس جيش الحكومة وإن من قضت على ( القاعدة) في العراق هي (الصحوات ) ليست أمريكا ولا الحكومة العراقية . إنني لا أصل المبلغ الذي وصله د. حسن مكي عندما قال أن القبائل سوف تصل إلى ما وراء ( خط الاستواء) إذا طلقت يدها ، بيد أنني أكاد أجزم أنه من المستحيل أن تعبر قوات دولة جنوب السودان الفاصل الحضاري شمالا وتبقى لأكثر من بضعة أيام .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.