بسم الله الرحمن الرحيم من قول سيدنا أبوبكر الصديق رضي الله عنه في الخطبة الفاتحة لخلافته: (... إن رسول الله كان يعصم بالوحي، وكان معه ملك. وإن لي شيطان يعتريني، فإذا غضبت فاجتنبوني، أن لا أوثر في اشعاركم، ألا فراعوني، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني...) . هكذا وضح لنا خليفة رسول الله وثاني إثنين إذ هما في الغار، كيف تكون خلافة الناس في أرض الله والحكم فيهم وهو حكم البشر للبشر وقيادة البشر للبشر، فبعدما انقطع الوحي فإن للبشر شياطين تعتريهم، فإذا كان الصديق رضي الله عنه يتحدث عن شيطان يعتريه فما بال حكامنا ورؤساءنا وقادتنا في عالمنا الثالث فإن لهم عشرات الشيطاين التي تعتريهم فبعضها بشري والتي تزين لهم باطلهم وتحوله لتابو مقدس يطوف الناس حولهم ويصورونهم بأنهم فوق مستوى البشر ويأسطرونهم بنسج الأساطير حولهم وتصديقها وبعضهم يأسطر نفسه بخطاب شبه ديني يماثل فيه بحوادث تاريخية وحتى ينسج مزيد من القداسة حوله ويضعه فوق مستوى البشر وتلك هي الخطورة في هذا النوع من الخطاب الذي يجب فضحه ويجب التقويم. فإذا طلب الخليفة الصديق التقويم، فعلى غيره من بني البشر قبول ذلك أيضا. هذا المدخل ضروري لمن لا يقبل النقد، وهو جوهر الديمقراطية بلغة اليوم والتقويم بلغة الأمس، فالديمقراطية طريق باتجاهيين تنساب الافكار والنقد في كل المستويات، فهي ليست اتجاه واحد من اعلى الى اسفل. ولكن ما بال بعض قادتنا يضيقون بالنقد ولا يتحملون اي وجهات نظر مغايرة واي "شرك" في الأراء والسلطة وكأنه شرك أعظم. الله جل جلاله هو الواحد الأحد الصمد الذي لا شريك له، اما الحكام والقادة فالكل شركاء لهم وحكم الناس في الناس هو حكم الناس في الناس وليس حكم متعالي، فالمشكلة في إن الحاكم او القائد يصل مرحلة ويظن انه الواحد الصمد السياسي واي مشاركة له في سلطته او انتقاد له تنقص منه، ويمارس الإسقاط المنطقي ويجعل الوهيته السياسية لا شريك له فيها ويصبح الصمد السياسي الخالد لا يستقيل او يتغير إلا بأمر الله عندما تقبض الروح أما أمر الناس فلا يعيره اهتمام طالما هتف له بعضهم أو انتخبوه مرة وبمارس شعيرة البقاء السرمدي وحتى لو كان بلا إنجاز، ويصلي صبح نفسه ويسبح بحمدها ويحج في تضخيم ذاته بدلا عن الحج العقلي في مشاكل شعبه، يفصل المشاكل على حسب أفكاره ولا يفصل الأفكار على حسب المشاكل ومن الواقع الإجتماعي الإقتصادي، فمن النادر أن تجد في عالمنا الثالث من يترك السلطة او الرئاسة على مستوى الدولة والأحزاب بشكل طوعي وهذا إذا لم يفكر في توريث اسرته مثل مبارك والقذافي وغيرهم. في بعض الأحيان يصل الخلاف لوصف الذين لهم وجهات نظر أخرى بأوصاف لها معاني عميقة داخل الأساطير وحتى لو كان القصد مختلف وبحسن نية ولكن يثير اشكالية في بيئتنا التي بها مشاكل ثقافية ومشاكل تهميش، مثل حديث "البعاعيت" فهو في الأساطير السودانية في أن هناك قبائل تنتمي لجهات بعينها تقول الأسطورة بأنهم "يقومون" بعد الموت في الحياة الدنيا، أي يصبحون "بعاعيت" ويخوفون بها الاطفال في بعض المناطق، وتلك هي القصة في اللاشعورعندما يتحدث حيث يخرج كلام به معاني ونظرة دونية في الثقافة لمن ينتمي لجهات محددة في السودان وتلك هي احد أهم مشاكل التهميش الثقافي والسياسي والإقتصادي وقد سمعنا بهذه الأساطير في طفولتنا وأن هناك خمس قبائل حسب الأسطورة يقومون "بعاعيت" وقد درجت ثقافات محددة لتكريس هيمنتها ومواصلة النظرة الدونية لتلك القبائل وحتى يضعوها في مرتبة اقل من مرتبة البشر ومن أجل التحقير والتهميش وبأنهم ليسوا مثلهم لينافسوهم السلطة التي هي حكر عليهم لذلك يتم الاستهتار بهم. يجب التعمق وقراءة البعد الثقافي من اجل خلق حياة سياسية ثقافية صالحة ديمقراطياً، وقد تناقشت مع بعض الأصدقاء وقد قال لي بعضهم لقد اصبحنا "بعاعيت" وقد شرح لي مدى الحرج والإساءة التي لحقت بهم وما تعنيه كلمة "البعاتي" في الأساطير السودانية وكل ذلك لأنهم قالوا بوجهة نظر مخالفة وجاء الوصف لأنهم تجرأوا وكان لهم رأي مخالف مكتوب لذلك اصبحوا جميعهم "بعاعيت" وحتى يتم تخويفهم وحتى لا يتجرأوا على ممارسة حق النقد مرة أخرى وحتى يتم اسكاتهم بشكل نهائي ولكن هيهات، فهذا يفتح نقاش أكبر يدخل منه هواء ديمقراطي عليل وينهي ديمقراطية "البعاعيت" لتكون ديمقراطية حقة، فحتي لو لم يقال الكلام بهذه الطريقة و لم يقصد المدلول المعروف ولكن تكمن الخطورة في المدلول الثقافي الأسطوري لمعنى الكلمة وطريقة استخدامها، فالمفردات العامية السودانية غنية بكلمات كثيرة غير ذات مدلول ثقافي سلبي فيمكن استخدامها، فهذا النقد يدخل في اطار المثاقفة وشرح الحساسية الثقافية للكلمة ومدلولوها السلبي في بعض مناطق السودان وقد بدأ البعض في استخدام الكلمة ويقصدون بها مدلولها السلبي في مخاطبة من وصفوا بها واصبحت سنة غير حميدة لأن الكلمة حمالة معاني سالبة. البعض يمارس التضخيم ويواصل القداسة في السياسة فلا يمكن أن يكون هناك شخص افكاره أكبر من شعبه وهذا أيضاً يدخل في باب أساطير النساجين السياسيين والمزايديين والمؤلهين للقيادات وهو نوع من الخطل السياسي، وهذا يذكرني اسطورة يونانية قديمة، وهي أن هناك صاحب نزل اي فندق كان له سراير بمقاس واحد فعندما يأتي ضيف اطول من السرير يقطع أرجله حتى تساوي طول السرير، فالحكمة من الأسطورة اليونانية في التفكير المقلوب وفي انهم يريدون أن يقطعوا شعبهم ليكون في مقاس افكارهم الطوباوية والتي لا علاقة لها بواقع الشعب في كثير من الأحيان، والعجز في هذه الحالة في افكارهم وليس في الشعب، فلا يمكن أن نستورد شعب للزعيم لأن افكاره اكبر من الشعب، هذا منطق لا قبل لعقل سوي أن يتقبله. المشكلة هنا تكمن في الإبداع وايجاد صيغة افكار ونضال مناسبة للشعب المعين وكسر الحصار واحداث اختراق ومشاركة حقيقية لتتلاقح الأفكار بدون هيمنة وسيطرة فوقية إستعلائية وهذا ما يجعل الافكار حبيسة الورق لا تتحول لواقع أبدا. هذا العمل الحفري الفكري المعرفي يحتاج لعباقرة مثل مانديلا وفيسلاف هافيل الشاعر السياسي صاحب ربيع براغ، فمانديلا مكث في السجن بضع وعشرين عاما وكانوا يساومونه كل عام لكي يبيع قضية حرية شعبه وكان يمكن أن يعينوه أو يعينوا من يختاره ويباركه مقابل ربع أو نصف حرية لشعبه، ولكنه أبى واستعصم بفكره الحر وبأحساسه بنبض شعبه حتى خلص شعبه من نظام التفرقة العنصرية ومارس الحكم لدورة واحدة. أما زعماء عالمنا الثالث فمتى ما ساوموهم وراودوهم بالسلطة نسوا كل المباديء التي قالوا بها قبلا وبعد ذلك يصبحون محامين للمجرمين بفذلكة بعض الكلمات وتحويرها حتى تصب في الدفاع عن الظالم كمقابل. مقومات الديمقراطية هي الكلام والنقد والشفافية، والمذكرات والمقالات، ووجهات النظر المختلفة فهي التي تثري الحياة وتطور الناس، فالغرب تطور بحرية الرأي في الجامعات وعلى المستوى السياسي والثقافي، فالديمقراطية لا تتجزأ ، فهي لا تنتهي عندما يصل الرئيس أو الزعيم للكرسي وبعد ذلك يفصل كل شيء على مقاسه كما في عالمنا الثالثي وانما مباديء الديمقراطية معروفة، لذلك فلا ديمقراطية بلا قيادات ديمقراطية تؤمن بالتداول السلمي على المواقع على المستوى الحزبي وعلى مستوى الدولة، فالديمقراطية ممارسة وليست شعار يرفع في وجه الأعداء ويسكت عنه على المستوى الذاتي، لذلك يجب أن تنتهي ديمقراطية "البعاعيت" هذه والذين يمثلون أشباح الشموليات في عالمنا الثالث وهم سبب استدامة الشموليات من اجل استدامة مواقعهم، فتصبح الدعوة للديمقراطية المستدامة هي دعوة ملتوية لاستدامة القيادة فقط، لقد مل الناس الشعارات الخاوية على عروشها من كل قيمة عملية وعلمية إلا تخليد القيادة، يجب ذبح القداسة على باب السياسة ويجب هزيمة أفكار حارسي بوابة السلطان القيادي فهم السبب الرئيس في التخلف وإستدامة الشموليات والقيادات في عالمنا الثالثي.