[email protected] ذكر اللورد كرومر المندوب السامي لبريطانيا لدى مصر في تقريره عن مالية مصر والسودان للعام المالي 1905م ، ذكر أن عدد سكان السودان دون المليونين نسمة ، هذا العدد القليل للسكان والمتوزع على مساحة شاسعة من الأراضي لم يكن كافياً لإقامة المشاريع الإستثمارية في السودان اللازمة لضخ الخزينة البريطانية بالأموال التي من أجلها قاموا بإحتلاله ، فقد أبان كرومر في تقريره المقدم لرئيس وزراء بريطانيا وقتها ،أن معضلتهم الأساسية التي تحول دون إنجاز مشاريعهم تكمن في قلة الأيدي العاملة وبرر هذه القلة نسبة لحروب المهدية التي أبادت قبائل بكاملها هذا إضافة للمجاعة التي ضربت السودان إبان حكم الخليفة عبدالله التعايشي ، بناءاً على ذلك فكر الإستعماريون في جلب العمالة الرخيصة إلى السودان من دول الجوار فكانت غرب أفريقيا هي خير معين لهم في تحقيق مآربهم فكانت هجرات قبائل الفلاتة المشهورة والذين سخرهم المستعمر للعمل في مشروع الجزيرة كزراع وعمال يومية لحفر القنوات ، وكان للمستعمر أيضاً تجربة سابقة لذلك في جلب بعض من مواطني أمريكا اللاتينية للعمل في مشروع الزايداب الزراعي في نهر النيل إلا أن العمال الأجانب لم يمكثوا طويلاً في السودان لعدم تأقلمهم مع البيئة السودانية فكان أن عادوا أدراجهم ، كذلك إستعان المستعمر بأهل صعيد مصر وكان لهم دور كبير في شق القنوات لمشروع الجزيرة إلا أنهم أيضاً كانوا بأعداد محدودة ورجع الكثير منهم لبلادهم ، أما أهل غرب أفريقيا فكانت تجربة المستعمر معهم ناجحة إذ نزحوا إلى السودان بأعداد كبيرة خاصة وأنهم كانوا يعتبرون السودان محطة للتزود بالمال اللازم لرحلة الحج ، فكانوا يمكثون سنين عدداً يعملون خلالها بالزراعة حتى تهيأ لهم فرصة السفر إلى بلاد الحجاز. مشكلة السودان في العصر الحديث وتحديداً في بدايات القرن العشرين كانت في قلة سكانه كما يتضح من تقرير اللورد كرومر،إن الخليفة عبدالله التعايشي قد قام (بإبادة جماعية) ، للسكان ذوي الأصول العربية وسكان النيل عموماً وذلك في سبيل تأمين وتثبيت دعائم حكمه بعد وفاة الإمام المهدي وتوليه الخلافة من بعده ، فقد أباد التعايشي جزءاً كبيراً من قبائل مثل الضباينة والشكرية والبطاحين في البطانة وشرق النيل والجعليين في مذبحة المتمة المشهورة في التاريخ ولم تسلم قبائل الجزيرة في المسلمية وغيرها من بطشه ، لقد أتبع الخليفة سياسة الإحلال في حربه مع قبائل الوسط والشمال فكانت هجرة التعايشة وقبائل دارفور إلى أم درمان وكانت مجاعة سنة ستة (1306هجرية) بسبب هجر الزراعة في بقية البلاد وتكدس الناس في أم درمان وكذلك بسبب النهب والسلب المنظم الذي مارسه أتباع الخليفة لمخزونات السكان من القوت في القضارف والجزيرة وحتى أم درمان ومدن الشمال كدنقلا ، هذه الأسباب وغيرها هي التي أدت لقلة السكان عند دخول المستعمر الإنجليزي فلم يكن أمامه إلا المعالجة التي أوردناها في صدر هذا المقال. إن الإنجليز هم في الأصل تجار جابوا البحار لأجل تجارتهم وما إستعمارهم للدول إلا لجلب المال لإمبراطوريتهم التي كانت لا تغيب الشمس عن مستعمراتها ، فهم لا يهتمون بما ستجلبه هذه الهجرات للسودان ولا يهمهم أمر هوية أو تكون أمم ما يهمهم العمالة الرخيصة لمشاريعهم على حساب الإستقرار الإجتماعي لأهل السودان ، حتى جنوب السودان عندما لم يجدوا فيه ضالتهم همشوه وتركوه للمبشرين واهتموا بالوسط والشمال نسبة لخصوبة أراضيه وتوفر المياه فيه وبالتالي توفر محاصيله وتنوعها ، أما دارفور فلم ينظروا إليها بدايةً ، لذات السبب الذي اعرضوا فيه عن الجنوب واكتفوا بالجزية التي كان السلطان علي دينار يؤديها لهم ، إلى أن تمرد عليهم وأوقف ماعليه من جزية ثم موالاته للسلطنة العثمانية التي كانت متحالفة مع الألمان أعداء الإنجليز التقليديين بعد نشوب الحرب العالمية الأولى مما أثار غضب السلطات الإنجليزية عليه ، هذا إضافة لخوف بريطانيا من تمدد فرنسا شرقاً وهي التي كانت تحتل تشاد ، لكل هذه الأسباب كان القضاء على سلطنة دارفور وضمها للسودان العام 1916م. إن السلاسة التي تم بها إنفصال جنوب السودان رغم ثقوب نيفاشا مرده ليس حصافة الجنوبيين ولا الدعم الدولي للإنفصال ، إن مرد ذلك نابع من هشاشة التماسك الإجتماعي ما بين الشمال والجنوب فلو كان الشماليين متمسكين بالجنوبيين لما تم الإنفصال ولو إنعقدت ألف إتفاقية وكذا الجنوبيين ، إن لحظة الإنفصال التي تمت قبل شهور كانت حلم الجميع من الجانبين وهذا من حقهما ولكنها مزايدات الساسة والنخب هي التي اخرت ذلك ، نفس الحال في إعتقادي في الحالة الدارفورية ، فكما أسلفت في مقالات سابقة أن الأمم لا تصنع صناعة وإنما يتم إنصهارها بالتدرج عبر آلاف السنين كما في الأمة المصرية والفارسية ووو، أمم لها حضارات ضاربة في القدم لذا كانوا ذوي هوية محسومة لغة وعادات ومشتركات في أدق التفاصيل ، أين نحن من ذلك؟. السودان في السلطنة الزرقاء تبلورت هويته ومعروف أن السلطنة الزرقاء حكمت شمال ووسط السودان لمدة أكثر من ستمائة عام أعقبتها فترة الحكم التركي التي إستمرت لأكثر من ستين عاماً رسخ فيها السودان بحدوده القديمة الموروثة من السلطنة الزرقاء كل ذلك ودارفور خارج السياق حتى نهايات العهد التركي المصري وتحديداً العام 1876م عندما ضماها الزبير ود رحمة إلى الحكومة التركية وسرعان ما قامت المهدية والتي في عهدها لم يكن الحكم مستقراً في دارفور بسبب النزاع حول السلطة ، لماذا نغفل هذه الحقائق التاريخية ولماذا نغفل هذا الواقع ونتمسك بأهداب موروثات إستعمارية لا ناقة لسكان السودان فيها ولا جمل ، لو ترك المستعمر سكان السودان المليونين فقط وقتها لتضاعف العدد في سنوات ربما تكون طويلة ولكن كان ذلك سيكون أسلم لحفظ النسيج الإجتماعي ولضمان الإستقرار ومن ثم التنمية بدل هذه النزاعات التي نعيشها الآن بسبب هؤلاء المفروضين علينا ، وحتى الغبن الذي يحسه أبناء دارفور اليوم هم معذورين فيه فهم أصحاب دولة قائمة بذاتها كيف يرضون بأن يكونوا ولاية تحت رحمة المركز ، لذلك مهما يعطوا فسيقولون هل من مزيد ثم أنهم في سبيل تحقيق غاياتهم لا يهمهم بقية السودان لذلك لجأوا للبندقية وهم يعرفون أنها مدمرة وستقضي على الأخضر واليابس ولكن فليدمر السودان وليشقى أبناء النيل هل كانوا يوماً من رعايا سلطنة دارفور؟؟؟...فيا سادتي أفصلوا دارفور والتفتوا لرفعة بلدكم السودان سودان السلطنة الزرقاء فالثروة هنا والرجال والعقول هنا والهوية الراسخة هنا دعكم من القاطرات المعطوبة التي تؤخر سيركم إلى الأمام